في العمق

بقلم
رضا السمين
الثورة الخائفة !

مثلما يتم القبض على قيادات فكرية أو سياسية في بلاد كثيرة دون جرم وبشكل استباقي كذلك يتمّ وأد بعض الأفكار وأدا احتياطيا، أو قتلها دون رحمة برصاص الاتهام والتخوين والتكفير كي لا تلقى أذنا واعية أو يسمع بها عقل رشيد...

مع تنامي عولمة الرأسمالية وهيمنة الرؤى الليبرالية الجديدة لم يعد يشغل الفكر المعاصر السؤال البسيط، مواطنة أم لا مواطنة، حداثة أم سلفية ؟  بل أيّ مواطنة ؟ هذا هو سؤال مرحلتنا التاريخية حسب واقعنا الذي نعيش وإنسانيتنا : مواطنة تنويرية تحترم المواطن الفرد وتؤسس لمجتمع يتجاوز قوى الطبيعة والحظ ويبني إنسانية الإنسان على مفهومي الرحمة والتعاون، أم مواطنة رأسمالية مدينية حداثوية ؟ مواطنة ديمقراطية مركّبة عادلة اجتماعيا وثقافيا أم مواطنة قانونية شكلية لا تحضر إلاّ وقت الحملة الانتخابية ؟ مواطنة تحترم الميزان بين الحرية والعدل الاجتماعي، بين المساواة وحرمة الجسد، بين الحق والواجب، أم مواطنة تختزل القيم السياسية في حرية الجسد وتفكيك المجتمع لصالح الربح المالي، وإعلاء سياسات الاستهلاك على حساب الجسد السياسي والخير العام والقيمة الإنسانية ؟ مواطنة في أي هندسة للمدينة ؟ مواطنة في مدينة اجتماعية ذات هوية ثقافية ومسافات إنسانية، أم مواطنة المدن الرأسمالية السرطانية المعادية للمجتمع والقائمة على حسابات الاقتصاد وتدويل الربح المالي قبل حساب إنسانية الإنسان والجماعة والثقافة ؟ مواطنة التدافع نحو النفع العام والعمران في الأرض أم المواطنة الافتراضية في واقع الشاشات وهيمنة الرأسمال الهلامي والمتعدد الجنسية ؟

هناك ثلاث نماذج إسلامية خارج بلاد العرب هي ماليزيا وإيران وتركيا، وهناك نماذج أميركا اللاتينية المهمّة جدّا من الناحية التنموية وعلاقة الدين بالمجتمع وإنتاج فكر يساري خاص بها، من مدرسة التبعية إلى لاهوت التحرير... ونموذج الصين الذي لا يمكن تجاهله في رؤى وتجارب التنمية والتي مازالت تتمسك بمنظومتها الثورية على رغم التحول لاقتصاد السوق، وفي كلّ هذه النماذج هناك قيادة حاسمة وفاعلة وعلمية، تضمن ديمقراطية توافقية والسلام الاجتماعي والسياسي، وضعت بذكاء مشاريع التنمية في سياقها الإقليمي والعالمي، والقيادة في هذه النماذج ليست بالمعنى القبلي العشائري الذي اعتدناه في بلادنا، عشيرة الدم أو عشيرة الحزب أو عشيرة نخبة النهب والفساد، ونرى في كل هذه النماذج مجتمع مدني قوي بشكل لافت، حتى في الحالة الصينية، وفي كل هذه الحالات قضايا النهضة لم تك مسألة فكرية أو مشاحنات عقائدية حول العلاقة بين الأنا والآخر وقضايا التغريب، بل صنعت أدوات فقه الأولويات ونظرية المصلحة والنظر لخريطة العالم بشكل مركب ولخيارات التنمية بأبعادها المتنوعة والمتشابكة في الواقع المعاصر السياسي والاقتصادي والاجتماعي، مع توفير الإمكانيات العلمية والمالية والبشرية للمجال العسكري وللتطوير الذاتي للقدرات في مجال العلوم والتكنولوجيا.

لا نثق في "النخبة الحداثية" التي لا تسمع أصلا، وإذا سمعت لا تنصت، وإذا أنصتت لا تفهم، وإذا فهمت أنكرت والتحفت بعلمانيتها الموروثة، ولا نؤمن بمسخ جديد لفرعون الذي استخفّ قومه فأطاعوه فنالهم العنت والهوان، ولن نقبل بعد الثورة بمعادلة الترهيب والترغيب لا في السياسة ولا في الاجتماع، ولن نسمح بتفريغ النخب وسحق المعارضة والقضاء على رجال ونساء الحق والكرامة أو تهجير الشباب ونفيه نحو الخارج أو نحو القاع، ولا يمكننا مجاملة أحد على حساب مستقبل الوطن ومصالح المجتمع الأهلي العليا.

لا بدّ من تجاوز مشاكساتنا الفرعية التي تعوق نهضتنا ونَنفر للتفكر في العالم، كيف نُصلح واقعنا ونتعلم في نفس الوقت من خبرات المجتمعات الأخرى، وكيف نحمل رؤيتنا للعالم فيكون عندنا ما نقدم له عبر الاختلاف والتنوع. الانغلاق على الذات سهل، لكن الوعي بثقل أمانة الاستخلاف والسير بها لأقصى أطراف العالم مهمة عسيرة لا يقدر عليها إلا من يحملون القرآن على بصيرة ويرفضون القعود خاصة في زمن التبست فيه الأمور... أنْ نسير وننظر ونتفكر أمرٌ إلهيّ نسيناه.

المعركة الأساسية، بهدف استعادة الإنسانية التي افتقدناها، تدور رحاها حول فائض الوهم وفائض القيمة وفائض القوة... (أنظر للفائدة مقترحات د. هبة رؤوف، ومقال د. عزمي بشارة، أفكار ميثاقية لأيّ ثورة عربية ديمقراطية). فائض الوهم السياسي، الذي قد تملؤه السلطة بالأكاذيب ويملؤه أمنها ومرتزقتها بالخوف والتنكيل، وقد يملؤه تجار الدين بفتاوى، أو يملؤه القاعدون بالجبن والصمت والخنوع. فائض القيمة أي المسافة التي تخلقها الرأسمالية بين العامل وأجره الذي يستولي صاحب رأس المال على معظمه. فائض القوّة للشركات المتعددة الجنسية والعسكريتاريا الغربية وفرض الهيمنة على العالم. 

الحرية مركزية في الإسلام، تتأسس على وعي قوي، وتربية وتزكية طويلة، وجدل مجتمعي مفتوح، واستعادة الحوار الحر بشأن قواعد السلوك والخصوصية، واليوم التبس الأمر على الناس وقلّ العلم وانتشر الجهل والترهات، وساد الغلوّ والتشدد فصدّ الناس عن سبيل الله، وهو أخطر على هذا الدين من تحلّل يدرك الناس فساده، لكن ترويعهم بمقارع الغلظة سيدفعهم للخروج إلى أي مساحة للتنفس ولو في باطل. ولا تبديل لسنّة الله : الرحمة هي الأساس والإحسان هو السبيل. الآية الكريمة (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) توضح لنا أن الحكمة تسبق الموعظة، وأن الإحسان شرط الجدل، وأن الله أعلم بالعباد.

الديمقراطية هي المجال العام الذي يحتفي بالأسئلة والمراجعات، والاستجابة للقضايا الأكثر إلحاحا وجدوى، وتقريب المسافات وتجسير الفجوات بين قطاعات النخبة وبين هذه الأخيرة والمجتمع الأهلي. والحق أننا نحتاج تشجيع القيادات الفكرية والسياسية ودفعها لكي تتجول وتشارك وتتحدث، وتجديد الزخم الذي شهدناه في السبعينيات والثمانينيات حين دارت نزاعات مثمرة بين القوى العلمانية والقوى الإسلامية وبين الليبراليين وغيرهم، ونحتاج ثورة فكرية لنخرج من حالة الاستقطاب حول النيّات والهوس بالشعارات الرّخوة... فلا أحد يدرك الواقع أو يصل للحقيقة وحده، ولعلّه من المفيد التذكير بأنّ المجتمع الأهلي في حاجة للجميع، ومعارك الشاشات قد تخفي أنّ الآخر إنسان.

كيف نجدّد أفق المعنى ؟ كيف نعيد بناء ما تهدّم ؟ كيف نغرس جذورا للحريات في أرضنا لتنمو وتزهر ؟ كيف نحمي النور المقدّس لانتفاضة المواطن الفاعل لكي لا يخبو مرة أخرى في "الأغلبية الصامتة" ؟ 

نريد أن نقيم دولة حقوق وديموقراطية حقيقية، تقوم على الحرية وعلى الخضوع للقوانين، برغم ما يحصل الآن من اضطرابات وانفلات أمني واعتصامات والذي قد يدوم لسنوات إنْ لم تتخذ إجراءات حازمة لصالح الفئات الشعبية الفقيرة والمعطّلين عن العمل، خاصة وأننا لاحظنا أنّ إدارة الأمن تقف ضد القرارات التي يصدرها السيد وزير الداخلية أو على الأقلّ لا تتجاوب معها أو لا تحسن تنفيذها.

الخصم الأساسي هو البوليس السياسي الذي لم يحلّ إلى الآن، والفاسدين في وسائل الإعلام العمومية خاصة التلفزة، والدساترة الذين يريدون العودة بالفساد والعهر السياسي، وفي المقابل تراخي الحكومة الشرعية معهم في الإدارات رغم أنهم لا يطبقون قراراتها ويلزم طردهم وإن احتجوا معاقبتهم وإحالتهم إلى المحاكم. الشعور الديموقراطي انغرس في الشعب التونسي ومن المستحيل العودة مجددا إلى الإستبداد.

ضعف نخبة الترويكا التي ما تزال تفكّر في الاقتصاد بصفة كلاسيكية أي استثمارات وتنمية وتعويل على أوروبا التي تعيش أزمة حادة فضلا عن أنّ مصالحها لا تلتقي مع استقلالنا ! هدف الدولة الحديثة هو إعطاء المواطن قسطه من السعادة وحماية حقوق الإنسان، وفي ما يخصنا إجراءات سريعة وعاجلة لإصلاح القضاء والأمن وتدبّر الشؤون المالية، إذ يجب وضع سياسة اقتصادية مرتبطة بالوضع السياسي الراهن تعكس الثورة وتستجيب لتحدياتها، وليس سياسة مالية واقتصادية يقترحها التكنوقراط.

تدير فئة من "النخبة" الجدل السياسي بعقلية الكمين : أنت متهم وستخضع للتفتيش، تفتيش ماضيك أو حقيبتك أو عقلك... وغدا جسدك وبيتك ؟؟ والنخبة تتربص بك لا فقط في حركاتك بل في أفعال وأقوال من يُحسبون عليك، كي يتم "فضحك" وتعريتك بحسب اتجاهك المفترض وميولك، تفتيش النيات أو تفتيش أمني، وتتربص بك فيما يعتنقه أو يقوله من يشاركك عَلَمَ هويتك، لتمارس القمع أو التخويف، وفي كل الحالات سيتمّ شتمك، من أصغر "ثورجي مخبر" يهينك لأكبر إعلامي عِرّيف يتوعّد بأن يطلّع دينك... في عقلية الكمين أنتَ دائما "متّهم" ولست مواطنا. أين هؤلاء "الديمقراطيين" من ثقافة : رغم أنني أختلف معك إلاّ أنني سأقاتل من أجل حقك في أن تعبر عن رأيك  ؟!! ولكنهم لا يكادون يفقهون قولا...

البحث عن أفضل كيفية لإدارة مجتمع ما هو شأن كل أفراده الأحرار وفق استشارة مؤسسية وجدل عام. كيف يدير مجتمعنا الاختلافَ بدرجاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية ؟ وقبل الشروع في الإجابة حول كيفية الإدارة السياسية للاختلاف... لنسأل:  هل نحن نفكر وفق أولوياتنا ومصالح المجتمع الأهلي العليا، أم استجابة لأسئلة مطروحة خارج سياقاتنا، سواء فرضتها علينا العولمة وسلعها الفكرية أم ألزمتنا بها التقاليد الموروثة ؟

شيطان الردّة عن الثورة يكمن في التفاصيل، مثل عدم المحاسبة لمن نهبوا ثروات البلاد والعباد أو الانتهازية الحزبية مقابل حماية القنّاصة والقتلة، أو عودة التجمّع الفاسد المفسِد من خلال حزب الأسماء المستعارة، أو نسيان مصالح المعطَّلين من الشباب، أو القبول بمرتزقة إعلام النظام المخلوع بدعوى التسامح والياسمين، أو التركيز المرَضي على الخلاف بين المتديّنين والعلمانيين لإشعال الفتنة وتقسيم قوى الشعب خدمة لمصالح معادية للوطن وللناس، سواء بثمن بخس أو نتيجة كسل ذهني فالنتيجة واحدة وضدّ مصالح المجتمع الأهلي العليا، أو عدم تجاوز الخوف الكامن في العقول من الديمقراطية وما قد تفرزه من أغلبية لصالح الآخر المغاير، أو اعتبار صناديق الاقتراع طريقا مقبولا للانقلاب على الحريات، أو التراجع عن الثورة وهدر دماء الشهداء والجرحى بدعوى الحاجة للأمن واستقرار نظام الأغلبية الصامتة، أو التوافق المغشوش لطمأنة الكسالى وتغليف الخوف من الحرية بأسطورة الخوف من المجهول، أو توليد الإرهاب الأعمى وتوجيهه وتدبيره من طرف الذين سيدّعون مواجهته ونشر الخوف بين الناس وتحريف الأنظار بالفوضى لتأجيل الديمقراطية وطلب الأمان فترجع حليمة لعادتها القديمة في تقنين الفرار طريقا للخلاص، أو إضمار أنّ الشعب قاصر وتنصيب المجموعات نفسها وصيّا عليه وإخفاء المسكوت عنه بمساحيق شتى ثورية أو مسؤولة أو حداثوية، أو تمديد وإطالة الفترة الانتقالية حتى يتعب الناس أو تطغى الحاجة وأمور المعاش، أو التغافل عن أنّ الذين لا مصلحة لهم في الثورة يمكن أن يلجأوا إلى الانقلاب المسلّح والإعلام الخبيث والإسناد الأجنبي وعدم الاستعداد المسبق لقطع الطريق على المفسدين، أو سقوط المجتمع الأهلي كلّه في هوّة الاقتصاد المعطَّل وغياهب الجوع ...

هل نتكلم نفس اللغة، هل نقصد نفس الأشياء عندما نتحدث ؟! أيّة رافعة اقتصادية يمكن أن تحلّ مشاكل الفقر وإنتاج الثروة لا فقط مسألة توزيعها ؟ ما العمل لتكسير الحلقة الجهنمية لتحالف الإعلام والإعلان في سوق الرأسمالية التي تخنق الوطن وتحوّله إلى مساحة إعلانية تسدّ الأفق ؟ كيف نساهم في تحفيز المواطنين للتعرّف على الأفكار وخبرات العالمين والتلاقي مع البشر ؟ ماذا سنعمل للمحاصَرين في قاع المجتمع نساء ورجالا وولدان ؟

اعتبار العمل قيمة كبرى بها يتحقّق الإنسان، وإعلاء قيمة الجهد الذي لا يعرف الكلل ولا الإحباط، وتنمية روح الإيمان الحيّ في الفرد والأسرة والقرية والمدينة، وتأهيل الأفراد والجماعات لإدارة المجتمع الأهلي المعرفية والغذائية والصناعية والعلمية، وواجب التعلم والخبرة والأمانة، وتشجيع نشر الخلق الكريم وحمل همّ الفقراء والمحرومين... وردّ الاعتبار لمسألة الوقت وعدم هدره وإضاعته. إنّه لا إسلام بدون محورية القرآن العظيم، وإنّ البعد عن القرآن وتركه مهجوراً... في المعرفة والسلوك، في التديّن وإنتاج المعارف، هو سبب رئيسي للإعاقة الذهنية الجماعية، فلا بُدّ من إعادة التواصل اليومي والعملي مع القرآن الكريم. التصوّر القرآني للوجود والتاريخ يقوم على أنه خَلقٌ متجدّد، يزداد ويرتقي بالتدرّج، ضد النظرية المشبوهة لـ "تدهور العصور" المتجاهلة قصدا لمبدأ العمل وتحمّل الأمانة. إنّ أعظم الخيانة هي خيانة المجتمع الأهلي، في حرّياته أو سلطاته السياسية أو أمواله أو أعراضه، ويبدأ الغدر والخيانة عندما يفصل بعضهم بين السلوك وبين الفكرة...