قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
استبطان القهر
 تمتلئ كتب التّاريخ قديمها وحديثها بوقائع غاية في الألم والجبروت ممّا يدلّ على أنّ تاريخنا نحن العرب والمسلمون مع الاستبداد والقهر تاريخ طويل، فقد أورد صاحب الإتحاف مثلا أن هشام بن عبد الملك كتب إلى موسى بن نصير يطلب منه تأخير دخوله إلى دمشق محمّلا بالغنائم والأموال من إفريقيّة لأن الخليفة الجالس في حينه وهو الوليد بن عبد الملك  كان في أيّامه الأخيرة وكان قصد هشام أن تتأخّر قافلة موسى بن نصير فلا تدخل دمشق حتى يكون قد بُويع بالخلافة فينسب له شرف فتح افريقيّة ولكنّ القادم على حاضرة الخلافة لم يأبه بكتاب هشام ودخلها والخليفة يحتضر فلمّا آل الملك لهشام بن عبد الملك انتقم منه شرّ انتقام فبدأ باتّهامه بالسّرقة وفرض عليه مقدارا من المال لا قبل له به ثم قتل أولاده الأربعة وكان موسى قد تركهم ولّاة على ما فتحه من بلاد ولم يكتف بقتلهم بل جمع رؤوسهم في سلّة وأرسل الى أبيهم ليُريَه ما آل إليه أمر أبنائه فلم يلبث موسى بن نصير بعد ذلك أن مات كمدا وحسرة مع أنّه وطن ملك أفريقيّة والأندلس لبني أميّة حتّى أنّ ابن أبي الضّياف علّق على هذه المظلمة بالقول أنّها سبّة ولعنة لهشام وآل بيته سوف تظلّ تلاحقهم الى يوم الدّين.
وقد ورد في الإتحاف نفسه أنّ أحد الأمراء من بني حفص ولّي الملك صبيّا فكان لابدّ من قائم على ملكه يرعاه حتّى يكبر الأمير فيتولى الأمر بنفسه وهكذا ظلّ هذا القائم يرعى شؤون الدّولة والسّلطان فلمّا آل الأمر إليه بعد سنوات من ذلك قتله وذلك أنّ هذا الأمير أخذه العجب بملكه وما آل إليه سلطانه فقال في مجلسه مفاخرا والله لقد عزّزنا فقال الذي رعاه حتّى صار سلطانا بنا وبأمثالنا، فأمر بقتله في الحين وذلك حال ملوك الإطلاق كما يقول ابن أبي الضّياف .
هتان واقعتان ليستا شيئا أمام ما هو أبشع منهما وأشدّ وطأة على النّفس من ذلك مثلا حادثة مقتل صاحب المعالي يوسف صاحب الطّابع وقد قتل غيلة وكسّرت عظامه ثم ألقي فى بطحاء القصبة يحتضر حتّى رق له غلام من جند التّرك فأجهز عليه ولم يكن المغدور إلاّ وزيرا من أكبر الوزراء عند البايات ولو شاء الملك لسعى إليه حين كان طوع يديه. أما حديث الباي «بوبالة» فهو حديث مشهور، فهذا كان يقتل ويظلم بشهوة القتل والظلم ولا قبل لأحد بردّه عن ظلمه وكان ينتصب للحكم في شأن النّاس بنفسه فيحكم بالهوى حتى اشتهر بينهم بسيفه الذي يقتل به وكان يقول إذا لم يجد من يقتله جاعت البالة. ولعلّ من أطرف ما قرأت في الإتحاف أن صاحبه علّق على رأي للباي وكان في حينها صبيّا حدثا يمشي مع والده الذي كان كاتبا للبايات، فلما سمع الباي تعليقه همّ بقتله لولا استعطاف والده الشّديد حتى أن الباي قال له يومها والله لولا حداثة سنّك وسبق والدك في خدمتنا لقتلناك في الحين وما كان كل ذلك إلاّ لرأي رآه. 
إذا كان التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار وفى باطنه نظر وتحقيق، فمتي سنقوم نحن بتحقيق هذا التاريخ الطويل  من الاستبداد وملك الإطلاق الذي لم تجن منه شعوبنا إلاّ المآسي والتّخلف وضياع الهيبة بين الأمم؟ ألسنا نشتاق رغم الثّورة وما كان في سبيلها من تضحيات وشهداء إلى إعادة النّهج الاستبدادي فى الحكم ؟ ألا يكون ذلك بسبب استبطان القهر الذي ترسّب في ثقافة شعوبنا؟ بماذا نفسّر اجتياح اعتصامي رابعة والنّهضة في مصر وما نتج عنه من مأساة لا تليق أبدا بمجتمع حديث عهد بالثّورة على الاستبداد؟ ألم يكن تنصيب «السّيسي» حاكما على مصر نكوصا إلى تاريخ من الحكم المطلق لا لبس فيه؟ لماذا نريد أن نلفّ من جديد حول رقابنا حبلا طالما اختنقنا به؟ هل نحن حقّا شعوبا غير جديرة بالدّيمقراطية والحرّية والحكم الرّشيد؟
إنّ الخيط الفاصل بين ما كنّا عليه قبل سنوات ثلاث وما نحن عليه الآن خيطٌ رفيعٌ جدّا وليس للثّورة أي مهرب من تحقيق أهدافها في الحرّية والكرامة والعدالة الاجتماعيّة وخاصة في الدّيمقراطية والتداول السّلمي على السّلطة ولن يكون ثمن النّكوص عن تحقيق هذه الأهداف إلاّ عودة الاستبداد بأقوى ممّا كان عليه لنعود نحن من جديد إلى جحورنا خائفين عازفين عن المشاركة في تحديد مصيرنا ولتعود آلة الحكم من جديد تمنح السّلطان وحده حقّ الكلام وتعطي لسيفه وسجّانه وحدهما حقّ المشاركة في الحكم وحينها سوف تعود نخبة الموتورين أعداء شعوبهم من جديد لتلعق حذاء الحاكم طمعا في الأمن والمكرما
-------------
- مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
lotfidahwathi2@gmail.com