مقالات في التنمية

بقلم
نجم الدّين غربال
دور الجامعة في التنمية، كلّية العلوم الإقتصادية والتصرف بصفاقس نموذجا
 تقوم الجامعة باعتبارها مؤسسة علميّة مستقلّة بدور استراتيجي بعيدا عن الحسابات الضّيقة والمصالح الفئويّة أو الشّخصيّة، فهي ملتصقة بالواقع دون أن تكون أسيرة له أو لسلطه المتعدّدة، كما أنّها غير خاضعة لأحد سوى سلطة العقل بحثا عن الحقيقة وما ينفع المجتمع لا غير.
فعلاقة الجامعة بالمجتمع هي علاقة العضو بالجسد وغايتها الحقيقيّة ومبرّر وجودها هو خدمة المجتمع الذي توجد فيه، ومعنى ذلك أن ارتباط الجامعة بمجتمعها يعطيها شرعيّة ومبرّرا لوجودها ولعلّ ما عاشته الجامعة في غياب الحرّية من انفصال عن مجتمعها وانحصار دورها في نقل المعرفة داخل جدرانها دون ارتباط وثيق بالمجتمع وقضاياه قد تسبّب في تفاقم ظاهرة البطالة في مجتمعنا مما أفقدها دورها الاجتماعي.
 وما هو متعارف عليه أن الجامعة مؤسّسة مجتمعيّة تعكس الأوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسية وتظهر درجة التّطور الاجتماعي وتكشف عن أهداف المجتمع وتحدّد دور الأجيال في تحمل وتنفيذ مهام التّنمية.
فإن كانت أجيــــال السبعينــــات والثمانينات مـــن الطّلبــــة في جامعتنـــا قد عكست الحاجـــات الحقيقيّة للمجتمع ســـواء على المستــــوى الاجتماعــــي عبـــر رفعهــــم لشعــــار«تعليم ديمقراطي، ثقافة وطنية» أو على المستوى السياسي «نريد الحرية في الجامعة كما نريدها في المجتمع»، فإنّ ما هو منتظر اليوم من مكونــــات الفضـــاء الجامعــــي من سلطة إشراف وإطار تدريس وطلبة وباحثين، هو تجسيد تطلّعات المجتمع في تنمية أصيلة وتشاركيّة معتمدة على الذّات والعمل ضمن إستراتيجيـــّة تكون رؤيتها إشعاعا علميّا ومعرفيّا وتكنولوجيّا على مـــدارات ثلاث، جهويّا وإقليميّا ودوليّا، تتجسّد رسالتها في تقديم تعليم متميّز وتأطير الباحثين تأطيرا مبدعا يسمو بالإنسان ويؤسّس لتنمية مجتمعيّة متوازنة بين كلّ أبعاد حياته الإنسانيّة ويصنع كفاءات وإطارات ذات تعليم متقن وأمانة عالية واستعداد للعطاء. 
ولقد آمنت الدول المتقدمـــة وبعض الدول النامية بأهميّة الجامعة كمؤسسة لها دور استراتيجي في التنمية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي فاعتنت بها وأعطتها المكانة التي تستحق ووفرت لها كل الإمكانيات المادية والمعنوية لتقوم بدورها التعليمي والبحثي على أحسن وجه. فماذا عن مؤسساتنا الجامعيّة التونسية؟
 
كلية العلوم الاقتصادية والتصرف بصفاقس نموذجا
بالنظر إلى محدودية الاقتصاديات الليبرالية الرأسمالية التي تتمحور حول الربح المادي والفئوي وإن كان ذلك على حساب الإنسان دون اعتبار لقيمة الكرامة من جهة والاشتراكية الموجهة التي اصطدمت بما هو فطري في الإنسان من حرية وحق في  الملكية الفرديّة من جهة ثانية.
ونتيجـــة لتفاقم الأزمــــات في مجــــالات الاقتصــــاد والمال والاجتمــــاع والبيئــــة ممـــا أصبح يمثل تهديدا حقيقيا لاستمرار الحياة على كوكبنـــا فضلا عن الضّرر الفادح الذي لحق بكرامة الإنسان والسلم الاجتماعي، فإن الانفتاح على نوع جديد من التصورات في الاقتصاد والمال تتمحور حول الإنسان وتهدف إلى خدمة البعد الاجتماعي للشعوب و تكون محكومة بأخلاق تحفظ للإنسان كرامته وحريته وللأجيال القادمة شروط حياة أفضل، أصبح أمرا ضروريا.   
لذلك حان الوقت للاهتمام بالاقتصاد والمالية الإسلامية وذلك لاعتبارات عديدة نذكر من بينها : 
 - ارتكاز الاقتصاد الإسلامي على المبادئ العالمية والملهمة لثورتنا المجيدة من عدل وحرية وسعيه لاسترجاع كرامة الإنسان والحفاظ عليها وتثبيت نفع الناس واقعا وما يتخذه من مقاصد يتطلع إليها الإنسان كحفظ فطرته وعقله ووجوده و ماله وعرضه وذلك كمضلة تقيه من الانحراف عن مهمة تعمير الأرض وتحقيق شروط الحياة الطيبة التي بشر بها الإسلام. 
- اعتبار التمويل والصيرفة الإسلامية منظومة متكاملة أثبتت جدواها في إيجاد الحلول الملائمة للمسائل التنمويّة بشهادة عديد الهياكل الاقتصادية والمالية العالميّة على غرار صندوق النقد الدولي وشخصيات خبيرة في المجال كستيغليتز الذي صرّح بأن التمويل الإسلامي يمكن أن يكون ناجعا مقارنة بالتمويل السائد نظرا لمحدوديّة هذا الأخير أولا وما أفرز منهجه القائم على الدَّيْن والفائدة من أزمات وثانيا لنقاط قوّة ذاتيّة لدى الماليّة الإسلاميّة كالأخلاق، والحال أنّ أزمة الماليّة التقليديّة اليوم توصف بأنها أخلاقيّة بامتياز وكذلك نظرا لأنها ماليّة تشاركيّه ولها القدرة على التّصرف في المخاطر والصمود أمام الأزمات.  
ولهذه الاعتبارات وغيرها اهتمّت كلية العلوم الاقتصاديّة والتّصرف بصفاقس بهذا النوع الجديد من التصورات الاقتصادية والمالية فكانت نموذجا يجسّد دور الجامعة في الإسهام في مسار التّنمية. ويتمثل هذا الاهتمام في ما قامت به من :
(1) مساهمة في إحداث لجنة قطاعيّة في الماليّة الإسلاميّة في صلب وزارة التّعليم العالي والبحث العلمي سنة 2012 تقوم بدراسة مطالب التّأهيل في الإجازة وفي ماجستير الماليّة الإسلاميّة.
(2) بعث عدة مشاريع إستراتيجية، في خطوة فريدة من نوعها ولأول مرّة في الجامعة التونسيّة، نذكرها تباعا :
* بعث ماجستير بحث في الاقتصاد والماليّة الإسلاميّة «دروس يومية» بكلية العلوم الاقتصادية والتصرف بصفاقس سنة 2012/2013.
* بعث ماجستير بحث في الاقتصاد والماليّة الإسلاميّة «دروس مسائية» مع المركز الوطني للتّكوين المستمر التابع لوزارة التّكوين والتشغيل بكلّية العلوم الاقتصادية والتصرف بصفاقس سنة 2012/2013 .
* بعث إجازة أساسيّة في الاقتصاد والماليّة الإسلاميّة والتي دشّنت سنتها الأولى بداية من السّنة الجامعيّة الحاليّة 2013/2014 على أن تشفع بعد ثلاث سنوات بالإجازة ثم بعد سنتين بمرحلة الدكتوراه على أن ينعم شعبنا بحلول سنة 2021 بالدّفعة الأولى «إن شاء الله» من الدكاترة في الاقتصاد والماليّة الإسلاميّة لأوّل مرّة في تاريخ تونس المعاصر.
* عقد ملتقيات دوليّة علميّة في الماليّة الإسلاميّة باسم كليّة العلوم الاقتصادية والتصرف بصفاقس بالشّراكة مع البنك الإسلامي للتّنمية وعدد من جمعيّات المجتمع المدني وذلك بشكل دوري سنويا وذلك في المحاور التالية :
 - جوان 2012 : « الماليّة الإسلاميّة والتّنمية الجهويّة»
- جوان 2013 : « رؤية إسلاميّة لمقاومة الفقر والبطالة : الزكاة والأوقاف والتّمويل الأصغر»
* الاستعـــداد لعقد الملتقـــى الدولي للماليّــــة الإسلاميّــــة في دورته الثالثة بعد أيـــام أي يومـــي 16 و17 جوان الجاري تحت عنوان «دور الماليّة الإسلاميّة في التّنمية الاقتصاديّة والاجتماعية : الصّكوك الاستثمارية والصّكوك الوقفية» 
وقد تّم اختيار موضوع الصكوك في ملتقى صفـــاقس الدولي الثالث للمالية الإسلامية للاعتبارات عديدة نذكر منها:
* حاجة اقتصادنا والعملية التنموية في بلدنا إلى أدوات تمويل متميزة ومبتكرة نظرا لمحدودية دور الآليات التقليدية في إنعاش اقتصادنا ولما أثبتته من فقدانها القدرة على حماية الاستقرار الاقتصادي باعتمادها آلية الإقراض بفائدة كما ذهب إلى ذلك الاقتصادي MAURICE ALLAIS المتحصل على جائزة نوبل للاقتصاد سنة 1988 وما سبّبه ذلك من تفاقم للازمات و تتاليها.
*ضرورة التخفيف على موازنة الدولة من مخاطر الإقراض الخارجي الذي يرتبط بأعباء هي في غنا عنها.
* ما شهده قطاع الصكوك عالميا منذ 2011 من نمو بنسبة تجاوزت 27 % فضلا عن النجاحات التي حققها في دول مثل ماليزيا و تركيا و البحرين في العملية التنموية ببعديها الاقتصادي و الاجتماعي.
وفي هذا الإطار وإيمانا بأهمية الشّراكة المغاربية وضرورتها التنمويّة، قام فريق من المشرفين على الملتقى الدّولي الثّالث للماليّة الإسلاميّة بزيارة إلى القطر الليبي الشّقيق التقى خلالها بثلّة من المسؤوليين من البنك المركزي الليبي ومصرف الجمهورية ومدير التعاون الدولي بكل من  جامعتي الزاوية وسبهة و تمّ خلالها عقد اتفاقية تعاون بين جامعة صفاقس وجامعة الزّاوية وإقرار حضور 50 من أساتذة وطلبة جامعتي الزاوية وسبهة  ورجال أعمال ليبيين للملتقى. 
إن ما قامت به كلية العلوم الاقتصادية والتصرف بصفاقس يدفع بقيّة مؤسّسات التعليم العالي والبحث العلمي إلى تحمّل المسؤولية الوطنية والمجتمعية  كل في مجال اختصاصه حتى تحتلّ الجامعة التونسيّة مكانة الرّيادة والقيادة وتتجسّد مقولة «العلماء ورثة الأنبياء» رسما للاستراتيجيات وتوجيها للقرار السّياسي بما يخدم الحق والعدل والنفع للناس.
 -------
   - باحث جامعي رئيس مركز الدراسات التنمويةnajmghorbel@gmail.com