نقاط على الحروف

بقلم
محمد الطرابلسي
مدخل إلى نظرية الإصلاح في الفكر السياسي
 تمهيد
تستخدم « نظرية الإصلاح» في مجالات عديدة : سياسيّة ودينيّة وأخلاقيّة وإجتماعية وثقافية وإعلامية وتعليمية... وسنحاول من خلال هذا المقال التّعرض إلى جذور نظريّة الإصلاح، كما سنتطرّق إلى إشكاليّة العلاقة بين الإصلاح والثّورة في الفكر السّياسي نظرا للغموض الذي يحوم حول المفهومين وتعدّد الاتّجاهات التي تجمع بينهما أو تفرّق بينهما، وننتهي إلى صياغة منهجيّة للإصلاح تقوم على التدرّج في تغيير الواقع.
1 – جذور نظرية الإصلاح 
«الإصلاح» هو نقيض «الإفساد» ويعني التغيير السلمي للأوضاع القائمة. وفكرة الإصلاح فكرة قديمة قدم الإنسانية، إذ أننا نجد في كتابات قدماء المفكرين اليونان من أمثال أفلاطون وأرسطو الكثير من الأفكار الإصلاحيّة مثل العدالة والقوانين وتنظيم المجتمع والدولة والإستقرار السّياسي والتوزيع العادل للثّروة وغيرها، ويمكن القول بأن فكرة الإصلاح كانت ولم تزل الهدف الأسمى للعديد من الفلاسفة والقادة والحركات السّياسيّة والإجتماعيّة في مختلف أرجاء العالم، فضلاً عن كونها موضوعاً رئيسياً في النّظريّات السّياسيّة للفلاسفة والمفكرين منذ أيام مكيافللي في العصور الوسطى حتى كارل ماركس في القرن العشرين، فقد تحدث مكيافللي في كتابه الشهير «الأمير» عن أهمية الإصلاح وبنفس الوقت صعوبة وخطورة خلق واقع جديد. إلاّ أن حركة الإصلاح في العالم لم تتوقّف وإن تعثّرت أحياناً.
وكلمة « إصلاح» في الفكر السّياسي العربي ليست جديدة، فقد وردت في القرآن الكريم في أكثر من آية وسورة، ووردت مادّة (ص ل ح) في القرآن الكريم بتصاريف متعددة، منها قوله تعالى على لسان نبي الله شعيب مخاطِباً قومَه « إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيبُ» (هود:88)، وقوله تعالى: «وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ» ( البقرة: 25)، وقوله تعالى: « وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إصْلاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ( البقرة 220 )، « وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إصْلاحِهَا» (الأعراف: 56). و وصف به إبراهيم الخليل قائلا جلّ جلاله في سورة البقرة بالآية 130 :« وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» . 
ويزخر الفكر السّياسي العربي منذ أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التّاسع عشر بأمثلة عديدة لمفكّرين اتّخذوا من نظريّة الإصلاح منهجا لتغيير الأوضاع القائمة، نذكر من بينهم جمال الدّين الأفغاني الذي دعا إلى إقامة دولة إسلاميّة نموذجيّة واعتبر مصر أصلح الدّول لتحقيق ذلك. والإمام محمد عبده الذي أكّد على الإصلاح الدّيني والتربوي دون السّياسي، ويعتبر عبد الرّحمان الكواكبي من أوائل من دعا إلى إصلاح سياسيّ جذريّ حيث عرف بنقده الشّديد للإستبداد السّياسي.
والأمثلة عن المدارس الإصلاحية كثيرة، وتبقى المدرسة التّونسية رائدة في هذا المجال ومن أبرز روّادها أحمد بن أبي الضياف الذي ولد بمدينة تونس سنة 1804 زمن ولاية حمودة باشا وترك لنا أثرا عظيما يحمل عنوان « إتحاف أهل الزّمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان»، إضافة إلى خير الدّين التّونسي الذي ولد سنة 1820 صاحب كتاب «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» الذي تضمّن  حصيلة تأمّلاته وأفكاره الإصلاحيّة ودعا فيه إلى الإصلاح الشّامل الذي يقوم على أساس تحقيق العدل والمساواة في حكم الرّعيّة، ورفع مظاهر الظّلم والتّعسف عن كاهله، وإحترام حقوقه الإنسانيّة، ولن يتحقق هذا إلا من خلال نظام حكم يقوم على الشّورى، وتعدّد مؤسّسات الحكم، وعدم انفراد شخص مهما أوتي من قدرة وكفاءة وحسن سياسة في تصريف شؤون البلاد وإدارة أمور الرّعيّة لأنّ في الإستبداد والإنفراد مدعاة للتّفريط في الحقوق. 
وشهدت بعد ذلك « الحركة الإصلاحيّة» حالة من الفتور متأثّرة بعوامل عديدة داخليّة و خارجيّة نذكر منها على سبيل المثال :
* فشل التجربة النّاصريّة التي كانت تمثّل محاولة للنّهضة الإقتصاديّة والإجتماعيّة والسّياسيّة، وقد أجمع المفكّرون بأنّ من أسباب فشل هذه التجربة هو تقديم المبادئ الإقتصاديّة والإجتماعيّة على الدّيمقراطيّة بالإضافة إلى الضربة العسكريّة سنة 1967 خلال حرب الايام الستّة أو ما يعرف بالنكسة التي نشبت بين إسرائيل  كطرف أول وكل من مصر وسوريا والأردن كطرف ثاني.
* خضوع الدّول العربيّة لأنظمة إستبداديّة تجمعها غياب الحرّيات والدّيمقراطيّة والفشل في تحقيق التّنمية الإقتصاديّة والإجتماعيّة والسّياسيّة وتغلغل الفساد وسيطرة رجال السّلطة على الموارد.
* سقوط الإتّحاد السوفياتي وإنهيار جدار برلين وتأثير ذلك في المفاهيم والأفكار.
* النّظام العالمي الجديد وانعكاسات العولمة التي كرّست الهيمنة والتّبعيّة .
وقد تتالت الدّعوات للإصلاح في الدّول العربيّة بعد رحيل الإستعمار، ولم تأتي هذه الدّعوات للإصلاح إستجابة للضّغوط الخارجيّة وإنّما جاءت كحاجة وطنيّة وضرورة ملحّة لتغيير الأوضاع، وتزامنت هذه الدعوات للإصلاح مع تنامي الدّعم الأمريكي والغربي للأنظمة الإستبداديّة. وفشلت جميع الدّعوات للإصلاح إلى أن اندلعت ثورات الرّبيع العربي وبقي الأمل معلّقا على التّجربة التّونسيّة التي تمرّ بحالة مخاض عسيرة تعترضها مخاطر كثيرة تتلخّص في مخاطر الفقر والإرهاب والثورة المضادّة. وبرزت أحزاب سياسيّة إتخذت من الإصلاح مشروعا مستقبليّا وبرنامجا أساسيّا لتحقيق التنمية الشّاملة والعادلة على غرار حزب «الإصلاح والتنمية التونسي» ويعتبر نشاط هذا الحزب عمليّة تجديد للفكر الإصلاحي التّونسي.
2 – الإصلاح و الثورة :
لا يمكن أن تكتمل دراسة « نظرية الإصلاح في الفكر السياسي» إلاّ بدراسة علاقة هذه النظريّة بمفهوم الثّورة كنمط أو أسلوب آخر لتغيير الواقع، ويمكن التّمييز في هذه الحالة بين إتجاهين، الأول يجمع بين الإصلاح والثورة والثاني يفصل بينهما.
الجمع بين الإصلاح و الثورة
يقوم الاتّجاه الذي يجمع بين «الإصلاح» و«الثورة» على مبدأ يرفض التّعارض والتّناقض من خلال المفاضلة وأولويّة أحدهما على الآخر، ويتأسّس هذا الاتّجاه على فكرة تقديم الإصلاح على الثورة زمنيا وأخلاقيا وقيميّا، باعتبار أن الإصلاح هو الأصل لتغيير الأوضاع والثّورة هي الفرع والأولى الإنطلاق من الأصل من أجل تحقيق أهداف الفرع. وهذا الجمع بين مفهومين متعارضين مفاده المحافظة على وحدة المجتمعات وتماسكها وإن وجدت الخلافات والإختلافات.
الفصل بين الإصلاح و الثورة
يذهب بعض المفكرين إلى ضرورة الفصل بين«الإصلاح» كتغيير تدريجي للأوضاع و تعديلها نحو الأفضل لا سيّما في ممارسات وسلوكات مؤسّسات فاسدة أو متسلّطة، أو إزالة ظلم أو تصحيح خطأ أو تصويب إعوجاج. والثّورة تعني قلب الأوضاع و تغييرها إمّا نحو الأفضل أو نحو الأسوأ، وتوجد عدّة أشكال للثّورات منها السّياسيّة ومنها الإقتصاديّة والعلميّة والمعرفيّة لقلب الواقع الموجود وتغييره، وهذا التّوجّه نحو الأفضل مفاده التّعارض الموجود بين مفهومي «الإصلاح» و«الثورة». ويمثّل الإثنان نمطين لتغيير الواقع، ولكن يرى البعض أنّ هذا الواقع يفترض نمطا وحيدا للتغيير ، بمعنى ضرورة الإختيار بين أحدهما، فإمّا التّوجه نحو إصلاح الأوضاع تدريجيّا أو الاعتماد على الثّورة كقلب للأوضاع رأسا على عقب. 
3 – منهجية الإصلاح في الفكر السّياسي
لا وجود لمنهجيّة موحّدة يقوم عليها الإصلاح، ولكن يعتبر التّدرج في تغيير الواقع مبدأ أساسيا من مبادئ الإصلاح، وفيما يلي نقدّم لكم مجموعة العناصر التي تقوم عليها منهجيّة الإصلاح التي تعتمد على مبدأ التدرّج كمحاولة لصياغة تمشّي موحّد يجمع الجميع حول فكرة الإصلاح:
- يعتبر إعداد دستور للدولة يستجيب لطموحات الشّعب وتطلعاته خطوة أولى في إتّجاه الإصلاح.
- تشخيص الواقع السياسي والإقتصادي والإجتماعي للبلاد وإعداد الحلول المناسبة لذلك.
- تأسيس قضاء عادل ومستقلّ بعيد عن التّجاذبات السّياسية، لا علاقة له بالحكومة ولا يعيّن من قبلها.
- الإلتزام بمبدأ الإنتخاب كشرط أساسيّ للتداول على السّلطة.
- توفير الإطار المؤسّساتي لضمان إحترام حقوق الإنسان والحرّيات العامّة.
محاسبة الفاسدين وملاحقتهم وعزلهم من المناصب الإداريّة والسّياسيّة في الدولة والعمل على إسترجاع الأموال المنهوبة.
- إعداد برنامج واضح للإصلاح الإقتصاديّ و الإجتماعيّ والإداريّ والسياسيّ والثّقافي يقوم على المحافظة على المكاسب ومكافحة الفساد.
الخلاصة
وهكذا تعتبر نظريّة الإصلاح متجذّرة في الفكر الإنساني العالمي، وقديمة جدّا قدم وجود الإنسان على الأرض، تقوم على منهجيّة واضحة أساسها البناء ومكافحة الفساد بمختلف أشكاله وأبعاده. وكان «الإصلاح» شعار كلّ نبي ورسول إلى قومه حتّى إذا جاء الإسلام خاتما للأديان جعله محور فلسفته وشريعته.  
المراجع 
- القرآن الكريم
- محمد محفوظ 2004 : الإصلاح السياسي والوحدة الوطنية، المركز الثقافي العربي ، بيروت، 143 ص.
- حسن محمد المعلمي 2012 : مفهوم الإصلاح في القرآن الكريم وآليات تطبيقه من خلال السنة النبوية، دار غيداء للنشر و التوزيع ، فلسطين، 304 ص.
- محمد عبده 1960: «رسالة التوحيد»، الطبعة السابعة عشر، مكتبة القاهرة.
- أحمد أمين 1965: فجر الإسلام، الطبعة العاشرة،مكتبة النهضة المصرية.
- خير الدين التونسي 1868: أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، دار الكتاب المصري، القاهرة، ص85.
 ------------
- باحث وعضو اللجنة المركزية لحزب الإصلاح والتنمية
geographie_tunisie@yahoo.fr