في الصميم

بقلم
د. مصباح الشيباني
الصحيفة وبناء الدولة المدنية في الإسلام
 يتبين من خلال نصّ «الصّحيفة» أنّ التجربة السّياسية للرّسول (ص) في المدينة قد قامت بإرساء مبادئ الدّولة المدنيّة التي تتوافق مع خصوصيّة المجتمع العربي في زمانه (بدايات تشكلّه كأمّة). ومن مظاهر هذا النّجاح في بناء هذه «الدّولة المدنيّة» أنّها بدأت حدودها تتوسّع في ظلّ حكم الرّسول (ص) وبعده، شمالا وشرقا وغربا، حيث ضمّت مختلف الأعراق والأجناس واللّغات والثّقافات دون تعارض أو تعصّب أو اقتتال بينها. فكانت هذه الدّولة هي «النموذج» الذي أرسى أسسه الرّسول (ص) ليس فيها أي تمييز بين سكّانها سواء كان على أساس العرق أو الدّين. بل إن الرّسول الأكرم (ص) قد قَبِل ودعا إلى التعايش السّلمي مع اليهود في أّوّل يوم دخل فيه المدينة، متّبعا قول الله تعالى«لكم دينكم ولي دين»(1). وهذا الحكم الإلهي أصبح مع السنّة النبويّة خيارا تشريعيّا. لقد كانت فكرة الدّولة خلال المرحلة المكيّة غائبة كليّا حيث لم يتضمن النّص الدّيني أو السنّة النّبوية الشّريفة أيّة إشارة إلى هذه الفكرة، ولم يتضمنا أية معالجة لمكوّناتها الموضوعيّة (كمنظومة التشريع) أو لأطرها الشكليّة (نظام الحكم أو جهاز السّلطة) (2) .أما في المرحلة المدنيّة فقد صار النّص التّأسيسي (القرآن) يسجّل الممارسات الفعليّة للجماعة المسلمة في علاقاتها الكليّة مع الجماعات الأخرى القبليّة والدّينيّة، وفي علاقاتها الدّاخليّة بين الأفراد والقوى الاجتماعيّة من خلال المعالجات ذات الطّابع التشريعي. وكان النّص الدّيني «المقدّس» يترجم حركة الواقع وهي تمضي باتّجاه الدّولة كفعل اجتماعي بحت، ولم يكن ينشئ هذه الحركة بتكليف آمر أو بإلزام صريح...ولم يتضمن أيّة إشارة إلى الدّولة ذاتها ككيان كليّ، أو إلى إطارها السّياسي، أو نظام الحكم وإدارة السلطة فيها(3).
ونتيجة صعوبة انتقال المجتمع العربي من حالة الجاهليّة والقبليّة والاقتتال الدّاخلي إلى حالة التّحضر والمدنيّة وبناء الدّولة بشكل يسير، فإنّه تطلّب أيضا ثورة فكريّة وثقافيّة ودينيّة طويلة الأمد تكامل فيها التّشريع والتّقنين مع التّثقيف والتّدريب والتّربية بشكل تدريجي من قبل الرّسول الأكرم. فقد قام الرّسول (ص) بدور الرّسالة الدّينيّة والقيادة السّياسية معا. وقد ساعده المنحى «السّياسي المدني» في بناء الدّولة على تجسيم التعدّدية في الواقع مثلما دعا إلى ذلك الدّين الإسلامي في عديد الآيات. والتفاضل بين النّاس والشّعوب والأمم في الإسلام أصبح معياره الوحيد هو التّقوى والإيمان واتّباع القرآن الكريم وتعاليمه والسّيرة النبويّة الشّريفة. 
هكذا كان لـ«صحيفة المدينة» تأثيران على الأقل: الأوّل عملي والثاني نظري. فتأثيرها العملي تمثّل في توحيد المسلمين في أمّة واحدة حتّى يسموا عن بقية الشعوب والأمم، فانتقلوا من حالة التّناحر والضعف، إلى مرحلة الوحدة والقوّة ولم يعودوا مستضعفين في الأرض. أما تأثيرها النظري فقد تجلّى في إرساء ثقافة الحريّة والتّربية على ثقافة التعدّد واحترام مبدأ الاختلاف في العقيدة في ظلّ الحفاظ على الانتماء المشترك إلى الوطن عملا بقوله تعالى:«ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن»(4). فأن يكون المسلمون أقليّة أو أكثريّة، فإنّ ذلك لا يغيّر شيئا من قيمة دينهم ولا من استعدادهم لقبولهم آراء الآخرين بغاية التّسامح والتّعايش السلمي في إطار الوطن الواحد. وعندما هاجر الرّسول(ص) إلى المدينة وأقام فيها هذه الدّولة ووضع لها هذا «الدستور» لم تكن قبائل يثرب قد دخلت كلّها في الإسلام. فاليهود دخلوا مع «أمّة الإسلام» في إطار «الرّعية» لهذه «الدولة المدنيّة» الجديدة، فكوّنوا جميعا «أمّة» السّياسة في هذه الدولة(5) وبالتالي، أرسى الرّسول (ص) في ظلّ هذه الدّولة أبعاد جديدة في التّعايش بين الأعراق والأديان ، وحذّر المسلمين كثيرا من عصبيّة الجاهليّة ونعراتها. فقال الرّسول (ص) في الحديث الذي يرويه أبو داود: « ليس منّا من دعا إلى عصبيّة، وليس منا من قاتل على عصبيّة، وليس منا من مات على عصبيّة»(6). بل إنّ استعمال القوّة في الإسلام لم يكن مطلوبا لذاته وإنّما لغيره باعتباره أحد الوسائل الاضطراريّةـ عندما تعجز الوسائل الأخرى ـ لإقامة حكم الله سبحانه في الأرض(7). ولعلّ أهم عنصر قوّة في الحضارة الإسلاميّة والذي ساعد دولة الرسول (ص) في الانتشار والتّقدم، فإنّه تمثل في غياب أي سلطة سياسيّة دينيّة مطلقة مثل ما حصل في بعض الكنائس المسيحية أو البوذيّة أو غيرها(8). ومن هنا يمكن أن نفهم سرّ اللّحمة الاجتماعيّة في المجتمع الإسلامي من خلال خاصّيتين إثنتين وهما: خاصّية الوحدة من جهة أولى وخاصّية التعدّد من جهة ثانية. فمن خلال تحقيق المجتمع الإسلامي التّوازن بين هاتين الخاصّيتين تقوّت الحضارة العربيّة الإسلاميّة وتقدّمت على جميع الصّعد، وتحوّلت العصبيّات القبليّة والاختلافات الدّينيّة والعرقيّة بين أهل المدينة إلى مصادر للاستقرار ولتحقيق الوحدة بينهم.  
لقد مكّنت «الصحيفة» مجتمع المدينة من الانتقال إلى طور وواقع جديدين، إنه طور الأمّة وواقع الدّولة المدنيّة. كما مكّنته من تشكيل الرّوابط القوميّة والإسلاميّة الجديدة التي ستعلو في الأثر على روابط النّسب والعرق والدّين. فلا مجال للشّمولية الدّينيّة التي لا تقبل بمبدأ التعددية أو بـ «مدنيّة الدّولة» في الإسلام. لذلك، يجب أن نواجه بعض الكتابات الانتقائيّة التي تسعى إلى تشويه الدّين الإسلامي والسّيرة النبويّة الشّريفة. فـ «دولة الرّسول الأكرم(ص) ضمّت في رعيّتها وضمن «مواطنيها»، إلى جانب المؤمنين، الأعراب الذين «أسلموا» أي انقادوا للنّظام الجديد، وحاربوا في صفوفه وأسهموا في بناء دولته دون أن يدخل «الإيمان» بالعقيدة الدّينيّة إلى قلوبهم. وهؤلاء ذكرهم الله في قوله تعالى «وممّن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردّوا على النّفاق»(9).
فلا القرآن الكريم ولا السنة النبويّة دعتا إلى قيام السّلطة الدينية كنظام للدولة، أو إلى القضاء على الرّوابط الاجتماعية والدينيّة أو التّمسك بها باعتبارها الرّوابط الوحيدة للدّولة وللمجتمع الإسلاميين. لقد قامت دولة المدينة، بعد الهجرة، على معايير جديدة وانتفت فيها جميع أشكال العصبيات، وبدأ العرب بذلك يعيشون طورا إنسانيا جديدا(10). وليس في القرآن الكريم ولا في سنّة النبي (ص) مجالا للحكم الكهنوتي أو «الحكم بحق إلهي»، بل إنّ جوهر الدّين الإسلامي هو دعوة المسلمين وغيرهم إلى اختيار نظام الحكم المناسب لهم وبالتّالي، دعت هذه الصّحيفة ضمنيّا إلى ما يسمّى بـ «مدنيّة السّلطة السّياسيّة» لنظام الدّولة.
لهذا، بات اليوم، التجديد في النّظام السّياسي للدّولة ضرورة ملحّة باعتباره سنّة من سنن الله، لأنّه كما يصدأ السّيف فيحول الصدأ بينه وبين الفعل الخلاّق، كذلك تصيب السّنون المنظومات الفكريّة، ومنها الأديان، بالبدع والخرافات والإضافات التي تحجب جوهر الدّين فتعطّل فيه الطّاقات والفعاليّات(11). فمنطق العلم وقانون التّطور يقول أنّ التغير أو التطّور البشري هو عملية متكاملة وشاملة، يتم عبر تفاعل الإنسان مع محيطه الطبيعي، أي عبر ما يسمى في علم الاجتماع بـ «الحراك الذّاتي للمجتمع» من حيث أنساقه الاجتماعية والسّياسية والمّادية والرّمزيّة والدّينيّة. ومن المعروف أن فترات الانحطاط السّياسي والحرمان الاقتصادي في تاريخ الشّعوب والدّول عادة ما يصاحبها إقبال على التفكير الدّيني المتشدد من قبل الأفراد، بحيث يفسرّون الهزائم وعدم التّقدم والانحطاط عن طريق إرجاعه إلى قوى غيبيّة(12).
ومن سنن الله سبحانه وتعالى في الخلق، ومن نعمه في الاجتماع الإنساني، التعدّد والاختلاف. فالتعدّدية جعلها الله قانونا وسنّة لا تبديل لها ولا تحويل، في كل عوالم الخلق. فهي من أعظم نعم الله لتحقيقها الحريّة والسّعة واستنفار الطّاقات للتّسابق في ميادين الإبداع. وهناك اقتران بين نعمة التعدّدية وبين الابتلاء بها والاختبار فيها، لتمييز الرّاشدين الذين يوظّفونها من أجل تحقيق التّكامل والتّوازن في بناء المجتمع، وبين الذين يعتمدونها سبيلا للتّناحر والتّقاتل والتشرذم والتّفتيت (13). « ولو شاء ربّك لجعل النّاس أمّة واحدة و لا يزالون مختلفين»(14) . 
فالتعدّد والاختلاف بين النّاس ليس حقا قانونيّا فقط، بل هو سُنّة دينيّة. وهذه الثقافة السّنيّة لا يمكن أن تتأسّس إلا في مناخ سياسي وثقافي تعدّدي في طرق التفكير وفي الوعي. فكل مجال من مجالات العلاقات والحياة الاجتماعيّة أو السّياسيّة وكل المؤسسات في الدّولة والمجتمع تحتاج إلى نسق ثقافيّ مدنيّ يؤسّس حركتها ويحدّد رؤيتها إلى العالم. فالتغير السّياسي الذي تؤسّس له الثّقافة المدنيّة ضروري لضمان الاستقرار الاجتماعي في مجتمعنا الإسلامي.
فالتحدّي الرّاهن الذي تواجهه الأمّة العربيّة والإسلاميّة هو في جوهره تحدّ حضاري وسياسي وليس دينيّا أو مذهبيّا مثلما يريد البعض أن يسوّق له. فعدم نهوض مجتمعاتنا العربية والإسلامية كان نتيجة غياب الاستنارة و «العقلانية» في الفعل السّياسي في واقعنا، ونتيجة تهميش البعد الثّقافي والحضاري للدّين الإسلامي في تجربة بناء مؤسّسات الدولة والمجتمع، وخاصة من قبل بعض الأنظمة السياسيّة العربيّة. وبالتّالي، فإنّ ضغط العامل السّياسي هو الذي أيقظ الاهتجاس الدّيني بمسألة الخلافة، فانتقلت من منطقة المسكوت عنه إلى منطقة النّظر والجدل(15)، إذ مثلت هذه الفكرة دافعا لآلاف من الشّباب العربى والإسلامي أن يلجأوا إليها، ويلجأوا إلى تشكيل جماعات عمل سياسى ـ ديني من الفئات المستغَلّة والمضطهدة ومن العاطلين عن العمل والمهمّشين اجتماعيّا وسياسيّا وثقافيّا، التي لها مواقف مضادة للمؤسّسة السّياسية المدنيّة الحاكمة، فلبس عندهم الحق بالباطل. واكتساح هذا الخطاب الدّيني المتشدّد المشهد السّياسي العربي والعمل على إحياء مشروع «الدّولة الدّينية» أو كما ما تسمى بـ «دولة الخلافة» يعتبر في جزء منه شكلاً من أشكال ردّ الفعل على الخطاب السّياسي العنيف والمعادي للدّين الإسلامي الذي مارسه النّظام السّياسي الرّسمي العربي خلال العقود الماضية، وخاصة مع انطلاق الحملة الدّولية ضد ما يسمّى بمقاومة «الإرهاب» بعد أحداث 11 من سبتمبر 2001. 
الهوامش
(1) سورة الكافرون، الآية 6.
(2) عبد الجواد ياسين، الدين والتدين، التشريع والنص والاجتماع، التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2012، ص 353.
(3) المرجع السابق، ص 354.
(4) سورة العنكبوت، الآية 46.
(5) محمد عمارة، التراث في ضوء العقل، دار الوحدة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1984م، ص 128.
(6) محمد عمارة، التراث في ضوء العقل، ص 147.
(7) السيد محمد حسين فضل الله، الإسلام ومنطق القوة، دار الملاك للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، 2003م، ص 22.
(8) عبدالوهاب بوحديبة، لأفهم فصول عن المجتمع والدين، الدّار التونسية للنشر، تونس، 1992م، ص 67.
(9) سورة التوبة، الآية 101.
(10) محمد عمارة، التراث في ضوء العقل، ص 148.
(11) محمد عمارة، الإسلام والمستقبل، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 1984، ص 10.
(12) Michael Hill, A sociology of Religion,  London: Heinemann, Educational Books, 1981, pp. 205- 227.
(13) محمد عمارة، الفتنة الطائفية..متى وكيف ولماذا؟، صحيفة المصريون الألكترونية http;//www.almesryoon.com
(14) القرآن الكريم، سورة هود،الأية 118.
(15) جورج قرم، تعدد الأديان وأنظمة الحكم: دراسة سوسيولوجية وقانونية مقارنة، دار النهار للنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1992، ص 217.
-----------
-  أستاذ وباحث اجتماعي، جامعة صفاقس ـ تونسabounour05@yahoo.fr