في العمق

بقلم
د.لطفي زكري
هل نحن مفسدون؟
 هل الإفساد طبع متأصّل فينا؟ هذا السّؤال أفسد عليّ نومي ليلة عزمت على التّفكير فيه. والسّبب في ذلك هو المفارقة الجامعة في القرآن الكريم بين شهادة الملائكة بأنّ الإفساد في الأرض طبع متأصّل في الإنسان حين تساءلت أمام الله قائلة: «أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ» (سورة البقرة الآية 30) والإقرار الإلهي بمسؤوليّة هذا الإنسان عن ظهور الفساد برا وبحرا في قوله تعالى: «ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» (سورة الرّوم الآية 41) من جهة، وبين ما يزعمه الإنسان لنفسه من إرادة إصلاحيّة في قوله تعالى: «إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِيَ إِلاَّ بِاللَهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» (سورة هود 88) من جهة ثانية. فأيّ إصلاح سيضطلع به كائن طبعه الإفساد وعلى يديه ظهر الفساد؟ ثم ألا يفترض في الكائن القادر على الإفساد أن يكون قادرا على الإصلاح أيضا؟ وهل يكون المفسد بالضّرورة فاسدا بإرادته أم بإرادة كونيّة؟
يبدو أن ما ساهم في مضاعفة حيرتي أمام هذه الأسئلة هو ما درجنا عليه في حواراتنا من حديث عن الإفساد والفساد والمفسدين بعد أن نتربّع على عرش الإصلاح والصّلاح ونجمع حولنا المصلحين أمواتا وأحياء ونضع الفساد والمفسدين في قفص الاتّهام ظانّين بذلك أنّنا أمسكنا بخيوط المشكل ولم يبق أمامنا سوى أن نباشر الإصلاح بمحاكمة الإفساد متناسين أنه طبع متأصّل فينا وأن مسؤوليّة انتشار كل مظاهره ترد في النهاية إلينا. 
إن الاستمرار في هذا التقليد الغبيّ يحملنا على الاعتراف بأنّنا معشر المفسدين مازلنا نجهل الإفساد ومشتقّاته بالرّغم ممّا نشعر به من بداهة ووضوح في الحديث عن مظاهره ومخاطره، والسّبب في رأيي هو أنّنا لم نكلّف أنفسنا طرح السّؤال الأكثر بداهة وهو هل نعرف الإفساد المتأصّل فينا؟ وهل نعرف الفساد المكتسب بأيدينا؟ أفلم ننتظر طويلا حتى نعرف الحركة مع نيوتن؟ وزدنا قرنا من الانتظار حتى عرّفنا ماركس بالاستغلال وبقينا ننتظر قرنا آخر حتى عرّفنا فرويد بحقيقة اللاّشعور فينا ولم نعرف السّلطة بعده بنصف قرن إلا بفضل تحليلات فوكو. لكنّنا إلى اليوم مازلنا لا نعرف ماهية الإفساد ولا علاقته بالفساد والمفسدين والفاسدين. ولا يبدو أن التّحاليل الفيزيائيّة النيوتونيّة ولا الاقتصاديّة الماركسيّة ولا النّفسية الفرويديّة ولا البنيويّة الفوكويّة قادرة على مساعدتنا في تحقيق مطلوبنا. فأقصى ما تتيحه لنا هذه المقاربات هو اجتياز عتبة الجهل بالموضوع إلى بوّابة عدم المعرفة به. فأن نعرف الإفساد هو بالتّحديد أن نعرف آليات اشتغاله وذلك ببيان حقيقة الأنا المفسد؟ وماذا يفسد؟ وكيف يفسد؟ وأية علاقة يفترضها الإفساد بين المفسد والفاسد في عالم الفساد؟ 
لعل ما يضاعف عسر الإجابة عن هذه التساؤلات هو أنّنا اليوم نبدو أكثر أفلاطونيّة من أفلاطون في التّشريع للإصلاح بمحاربة الإفساد. فالمعلوم عن هذا الفيلسوف أنه كان - في حديثه عن عالمي الكون والفساد- أكثر المشنّعين بعالم الفساد وأحرص المشرّعين لعالم الكون. لقد كان الموقف الأفلاطوني واضحا من عالم الفساد بوصفه عالما لا يصلح ولا يُصلح وليس أمام الإنسان المقيم في عالم الفساد من حلّ سوى القطع معه ومغادرته نحو عالم الكون أو عالم المثل. فحسب أفلاطون لا يمكن للإنسان أن يتحرر من النّزوع إلى الإفساد إلا بالقطع مع عالم الفساد وذلك بالانفصال عن الجسد بوصفه الحدّ الذي يصلنا بهذا العالم ويشدّنا إليه. ولا يمكن للإنسان أن يكفّ عن الإفساد إلاّ بالموت الذي يشكّل في رأيه بداية الحياة الحقيقيّة. أمّا نحن فنقيم جدارا سميكا بيننا وبين الإفساد ومشتقّاته ظانّين بذلك أنّنا أمسكنا بخيوط المشكل وما علينا سوى الاجتهاد في حياكة الحلّ الذي يناسبه متناسين أن عيب المفسد أنه يرى نفسه مصلحا وأن عيب المصلح هو أنه لا يرى نفسه مفسدا. إن المفسد/المصلح وهو يرسم خطوط التّباعد الموضوعي بين المفسدين والمصلحين أو بين الفاسدين والصّالحين، لا يشعر بالقرابة الذاتية بين الإفساد والإصلاح كما نبّه إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (10) أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ» (البقرة الآية 10-11).
إن مشاريع الإفساد ومشاريع الإصلاح تبدو واحدة في واقع يتراءى للبعض فاسدا وللبعض الآخر صالحا. ونحن نحكم على مشروع ما بأنّه مشروع إفساد إذا كان رأينا في الواقع أنه صالح ونحكم على مشروع مقابل بأنه مشروع إصلاح إذا كان رأينا في الواقع أنه فاسد. فلا معنى لإفساد الفاسد ولا معنى لإصلاح الصالح. إن المفسدين والمصلحين ليسوا بفاسدين وهم  يتعايشون في عالم الفساد والصّلاح النسبييّن. وطالما بقي الإفساد هو رأينا في الآخرين والإصلاح هو رأينا في أنفسنا فإن معرفتنا بحقيقة الفساد والصلاح تبقى غائمة ومهزوزة. ذلك أنه لا يمكننا في واقع العلاقات البينذاتية والوجود المشترك أن ننسب شرف الإصلاح لأنفسنا وأن نلصق تهمة الإفساد بالآخرين إلا بضرب من الوصاية أو توهّم امتلاك الحقيقة المطلقة. فالإفساد لا يتم إلا في ظلّ توفّر قابليّة الفساد كما أن الإصلاح لا يتم إلا في ظل قابلية الصلاح. وقد تزيد هذه القابلية أو تنقص فتجعل المفسد يصلح من حيث أراد الإفساد أو تجعل المصلح يفسد من حيث أراد الإصلاح. ويبدو أن هذه المفارقة الغريبة هي التي تجعل الإنسان مترددا في رسم حدود منطقة الفساد ومتخوفا من تحولها في وعي الآخرين إلى منطقة صلاح. 
إن عقلا جمعيّا يسمّي الفاسد صالحا والظّالم عادلا والشّقي سعيدا والقبيحة جميلة... لا يمكنه في رأينا أن يعي الخيط الرفيع الذي يصل الإفساد بالإصلاح أو يفصله عنه. بل لا يمكنه أن يعالج ما خلّفه الإفساد من فساد بمجرد صدق النّية في الإصلاح والرّغبة الحقيقيّة في الصلاح. وحتى وضع قائمة بأسماء المفسدين ليس دليلا على صحّة الدعوى أو الاتّهام مثلما أن وضع قائمة بأسماء المصلحين ليس دليلا على البراءة من الإفساد أو الامتناع عن الفساد. إنّ التّوتر بين الإفساد والإصلاح قديم متجدّد، فمنذ آدم وأبنائه الأُول كان الصّراع قائما بين المحافظين والإصلاحيّين، أي بين الخائفين على تبدّل ما هو كائن وبين الرّاغبين في التّحول عنه إلى ما ينبغي أن يكون. وهو عين الصّراع الذي يرويه أفلاطون في سيرة سقراط الذي اتّهمته أثينا بإفساد عقول الشّباب حين دعاهم إلى إصلاح طريقتهم في التّعليم باستبدال التّلقين بالتّوليد والكتابة بالمشافهة بحجّة أن الأهم بالنسبة إلى الفرد هو أن يتعلم كيف يفكّر أولا قبل أن يتعلّم كيف يخطب وكيف يكتب. وهو أيضا عين الصّراع الذي ترويه النصوص الدّينية عن علاقة الأنبياء والرّسل بعقائد أقوامهم وما يرونه فيها من فساد وما هي بحاجة إليه من صلاح. ففي كل هذه التّجارب التّاريخية يبدو الإفساد فعل إعاقة وتعطيل للإنتاج والإبداع الإنسانيين أو فعل إرغام للكائنات الطبيعية والإنسانية على الخروج عن سنن وجودها وقوانين استمرارها في البقاء وذلك بتوظيف كل الإمكانات المعرفيّة والتّقنيّة المتاحة. في المقابل يكون الإصلاح فعل دفع للإنتاج والإبداع الإنسانيين مع الحفاظ للكائنات الطبيعيّة والإنسانيّة على حقّها في احترام سنن وجودها وقوانين استمرارها في البقاء وذلك بتوظيف كل الإمكانات المعرفيّة والتقنيّة المتاحة.
إنّ هذا الخطّ الفاصل بين الإفساد ومشتقّاته من جهة وبين الإصلاح ومشتقّاته من جهة ثانية ليس له قيمة إجرائيّة إلا في ظل التقاء العقول والمشاعر تحت سقف القيم الكونيّة في رحاب التّنوع الطّبيعي والإنساني لرفع التّحدي وبيان أن الكائن المفسد قادر على الإصلاح. وبالرغم من أن الإفساد والإصلاح في دنيا البشر لا جنسيّة لهما إلاّ أننا قد نجد لهما في الإيديولوجيا بمختلف صورها مبرّرات التسويق. لكن متى يكون المرء مفسدا ومتى يكون مصلحا في هذا العالم؟ إن المفسد هو كل إنسان يبدع في إنتاج عوائق التّطور الطبيعي للأحياء أو عوائق التّطور التّاريخي للحياة الإنسانيّة والمصلح هو كل من يبدع في إزالة عوائق هذا التطوّر في بعديه الطبيعي والإنساني. ويكون الواقع الطبيعي والإنساني فاسدا بقدر ما يشهده من ركود وعطالة يتحول بمقتضاهما إلى محيط آسن يبعث على الخوف والانكماش والهروب من تحمل المسؤولية. وفي المقابل يكون هذا الواقع صالحا بقدر ما يتيحه للكائنات الطبيعية من إمكانات الحفاظ على مسار تطورها وحمايته مما قد يلحقه من تشوهات بأيدي الناس وبقدر ما يتيحه للوجود الإنساني من آفاق الإبداع والإنتاج المتحرر من قيود التبعية والوصاية. لكن من نحن؟ وما علاقتنا بالإفساد والفساد وبالإصلاح والصلاح؟
نحن مفسدون ومصلحون بإراداتنا وبأيدينا لكننا فاسدون وصالحون بإرادة الله وحده. أما في واقع الحياة الإنسانيّة فإنّ إفسادنا وفسادنا وإصلاحنا وصلاحنا يصنع داخل المخابر المختصّة في صناعة الرّأي العام. لذلك لا يمكن تمييز المفسد من المصلح ولا الفساد من الصلاح في صورة تركّب وتعدّل بغرض القصف والتّضليل الإعلاميين إلاّ بجهد نقديّ لآليات اشتغال وسائل الإعلام والجهات التي تعمل لحسابها. ولعلّ ما يزيد في صلف هذا الإعلام المشوِّه والمشوَّه هو نجاحه في نشر الغباء المبرمج وفي تحكّمه في انفعالات النّاس ومواقفهم من الإفساد والإصلاح سواء بالتهويل والتضخيم أحيانا أو بالتحقير والتقزيم أحيانا أخرى إلى حدّ يتراءى لهم فيه الإفساد إصلاحا والإصلاح إفسادا. ذلك أن صورة الواقع في وسائل الإعلام ليست دوما مطابقة أو محرفة بل قد ترد مقلوبة تماما. وأمام هذه القدرة التصنيعيّة للإفساد والفساد وللإصلاح والصلاح في وسائل الإعلام نتساءل عن اتجاهات التأثير بين المفسدين والمصلحين أو بين نزوع الإنسان إلى الإفساد ونزوعه إلى الإصلاح، أي هل أيسر على الإنسان أن يكون مفسدا أم أن يكون مصلحا؟
يعتقد عادة أن الإفساد أيسر على النّاس من الإصلاح لأنهم في الإفساد ليسوا بحاجة إلى معرفة قواعد أو قوانين تركيب الأشياء أو اشتغالها بل لعلّ الجهل بها هو السبب الذي يؤدي إلى إفسادها، أما في الإصلاح فإنهم يكونون بحاجة ماسّة إلى العلم بتلك القواعد والقوانين حتى يحسنوا إصلاح ما تمّ إفساده. والواقع هو أن الحاجة إلى المعرفة أو العلم بآليات اشتغال الأشياء متساوية في الإفساد والإصلاح وبخاصة عندما يتعلّق الأمر بأجسام أو كيانات (فردية أو جماعية) تفتقد لنظام حماية ذاتيّة تجعلها قادرة على إصلاح نفسها بنفسها واستعادة توازناتها دون تدخّل الإنسان. ويحتاج الإفساد كما الإصلاح إلى الزّمن الضروري لإنجازه ولظهوره في الطبيعة وفي حياة الناس. وهذا يعني أن الإفساد والإصلاح مساران متحايثان تاريخيّا وليسا مرحلتين متعاقبين أو متجاورتين. بحيث لا يقتضي الشروع في الإفساد التوقف عن الإصلاح كما لا يقتضي الشروع في الإصلاح الانقطاع عن الإفساد. فالإعداد للحرب مثلا لا يكون إلا في زمن السّلم والجنوح إلى السّلم لا يكون إلا في زمن الحرب دون أن يعني هذا بالضرورة وفي كل الأحوال أن الحرب ترادف الإفساد وأن السّلم يرادف الإصلاح. 
ليس مناقضا لمنطق الخلق أن يكون الإفساد طبعا متأصلا في الإنسان، ذلك أن الله «الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ» (سورة السجدة الآية7) ما كان ينبغي له أن يخلق كائنا طبعه الإصلاح لأن ذلك سيكون مناقضا لوضع الصّلاح الذي خلق عليه الله الأشياء، فكان من الضروري أن يخلق كائنا مفسدا حتى يكون بعد ذلك للإصلاح معنى. ولعل هذا بالذّات ما يفسر الرد الإلهي على تساؤل الملائكة في قوله تعالى: «إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونُ» (سورة البقرة الآية 30) دون أن ينكر عليها ما وصفت به الإنسان من إفساد. وما لا تعلمه الملائكة هو أن الكائن المفسد قادر على الإصلاح بما علّمه الله من أسماء هي في النهاية مهارات الإصلاح التي لا تحسنها الملائكة لأن الإفساد ليس طبعا متأصلا فيها. وذاك هو مغزى الكدح الإنساني إلى الله وما يعنيه من تحايث بين الإفساد والإصلاح وسعي نحو المطلق. إن الله بوصفه وجودا لا متناهيا لا يخلق نظيرا بل يخلق كائنا متناهيا في إفساده وإصلاحه لا يستطيع أن يفسد كل شيء ومن ثم ليس عليه أن يصلح كل شيء بل من حقه أن يعمل على تجاوز وضعه المتناهي بالسعي نحو مطلق لامتناهي. فالحمد لله الذي جعلنا مفسدين في الأرض برّا وبحرا حتى نحظى بشرف الإصلاح ما استطعنا.
-----------
-  أستاذ فلسفة وناشط نقابي
zekri.lotfi@planet.tn