لقاءات

بقلم
التحرير الإصلاح
الدكتور احميده النيفر في حوار شامــل مع «الإصلاح» (الجزء الثالث والأخير)
 تطرقنا مع الدكتور احميده في الجزء الأول من الحوار إلى ظروف نشأة الجماعة الإسلاميّة في تونس وعلاقتها بالإخوان وبعلماء جامع الزيتونة المعمور ثم إلى ملابسات مغادرته وثلّة من إخوانه الجماعة في السبعينات ليؤسس الإسلاميين التقدّمين ويصدر مجلّة 15*21 وفي الأخير عن توقف التجربة الجديدة وأسباب ذلك .وفي الحلقة الماضية فتحنا مع الدكتور ملف تيارات الإسلام السياسي ومدى امكانية نجاحها في قيادة الأمّة نحو إعادة مجدها وماهي البدائل التي يطرحها مقابل نقده لهذه التيارات. كما تطرقنا معه إلى تحليل الصراعات بين النخب التي احتدّت بعد الثورات العربية وفي الأخير قمنا معه بإطلالة على التجربة التركية ومدى امكانية تكرارها في بلادنا. ونتطرق في هذا الجزء الأخير من الحوار إلى دور الفقهاء ورجال الدّين وما هي خصائص الفقيه الفاعل القادر على تقديم الإضافة وتنمية الوعي لدى الناس ثمّ نتطرق إلى علاقة الديمقراطية بالدّين وكيفية تعامل المسلمين مع تراثهم ونختم باستقراء لموقف ضيفنا من المرأة والإبداع والحوار المسيحي الإسلامي.
يعتبر البعض أن الجانب التعبدي والفقهي سيطر على الحقل الإسلامي وأن الفقهاء لعبوا دورا سلبيا في تاريخ الأمة وخاصة في هذا العصر ويذهب البعض إلى أننا في حاجة إلى مفكرين وليس إلى فقهاء ... ما هو رأيكم؟
هذا السؤال هام جدّا. ليس بالتعميم يمكن أن نفهم دور الفقهاء في التاريخ الإسلامي. هناك شريحــــة من الفقهاء قدّمت للناس فقها جاهـــــزا لا يتغيّر وساهمت بذلك في تبليد الفكر الإسلامي وفي إبعــــاده عن البحث في أجوبـــــة لتساؤلات المرحلــــة، ولكن ليس جميع الفقهاء هكذا. هناك قسم من فقهاء الزيتونة مثــــلا كان واعيــــا بأنّ المسالــــة لا تقتصر على الفتوى والتحليل والتحريم بل المطلوب إيجاد حلول لقضايا الناس... الفقهاء القدامى أيضا مثل الإمام مالك وبقية الأيمّة كانوا ينطلقون من هموم المجتمع فيتفهّمونها ويقدّمون الإجابات اللّازمـــــة ويدافعون عنــــها، لذلك يجب ألّا نضع الفقهاء في سلّة واحدة . لقد دأب البعض على هذا التعميم السّهل الذي شرّع وجرّأ على بدائل قُدّمت على أنها الأفضل والأصوب والتي لا تقبل أيّة مراجعــــة أو نقــــد. هذا التّعاطي مع مسألة الفقهاء شجّــــع على الاستهانــــة بحهود المؤسسات الأهلية مما سهل فتح الباب على الاستبداد من خلال الاستخفاف بالتاريخ والتراث وهو بذلك في نهاية المطاف ضرب لقدرة المجتمع على أن يفعّل ما لديه من مؤسسات وذاكرة وذكاء للإسهام في تطوير واقعه والنهوض به إسهاما في إثراء الواقع الحضاري العام.   
لكن العديد من الفقهاء والايمّة يتحدثون للناس وكأنهم سلطة ؟
هناك خلط في أذهان هؤلاء بين ما هو «مرجعية» وما هو «سلطة». المرجعية ليست سلطة في ذاتها بل فيما تعتمده من معرفة ووعي وسعة أفق وما تستطيع أن تقدّمه من إجابات ومن اجتهادات ومن آراء فالمطلوب ليس أن نضع عمامة ونخوف الناس من عذاب القبر ...ليس هذه مهام الفقهاء والأئمة. 
هناك من الفقهاء من يعتبر أن له شبه تفويض ديني سماوي فيستعمل خطابا يجعله متميّزا عن الناس (ذهنيّة القسر) لهؤلاء نقول: «أنتم لستم حكّاما، الناس يريدون أن يروا قوة خطابكم وليس خطاب قوّتكم» ...
هناك آية عجيبة في هذا الموضوع ذكرها الله في سورة سبأ (الآية 24) « وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ». هكذا كان الرّسول يخاطب النّاس . الرّسول صلى الله عليه وسلم لم يفرض نفسه بمنطق أنّه جاء بأوراق اعتماده من الله. كان باستمرار يقدّم حلولا لمشكلات مجتمعه والنّاس لم تجتمع حوله لأنها مرعوبة أو خائفة منه... 
إذا المطلوب من الفقهاء تقديم حلول وليس فرض حلول؟
نعم .. ولا يمكن أن يقدّم الفقيه حلولا إلا إذا خضع إلى تكوين آخر وثقافة أخرى ومعالجة المسألة الثقافية والفكرية بعمق ...ولا يمكن للفقهاء أن يكوّنوا مرجعية إلا بعد الحصول على المعارف في أبرز مجالات الحياة و الفكر ...
إذا كانت مسألة الحلال والحرام من بين المهام التي ينبغي أن يتولاّها الفقيه ، فإنّه يجب أن تكون الأمور واضحة بالنّسبة إليه، فإذا أفتى بحرمة أمر ما، فلا بدّ أن يبيّن علّة التّحريم وما هي أدلّته في وجود الضّرر المتأكّد على المجموعة.  خذ مثلا الخلاف حول القروض، موضوع يفرض نفسه في السّياق الاقتصادي والحياتي للجميع أفرادا وجماعات ودولا ، فإذا لم يكن لدى الفقهاء فهم واضح لهذه المسالة وارتباطاتها وشبكة الالتزامات التي ستكون من ورائها ..فكيف سيكون جوابه؟
العلاقة بين الفقيه وهذه المسائل المستجدّة لابدّ أن تكون علاقة قائمة على التحيين والتكوين المعرفي الجيد الذي يفتقده جزء كبير ممن يعتبرون فقهاء في عصرنا... 
يقبل العديد من الإسلاميين الدّيمقراطية والبعض الآخر يرفضها، ماهي حسب رأيكم علاقة الديمقراطية بالدّين وهل تلتقى الدّيمقراطية مع الإسلام أم أن في الإسلام مفهوما آخر للحكم؟  
إذا اعتبرنا الدّيمقراطية مجموعة إجراءات لنظام الحكم والتداول عليه بصورة سلميّة وبما يسمح بتطبيق القانون فلا أرى أيّة مخالفة مع الإسلام ... لكن إذا فهمنا الدّيمقراطية على أنها نظام يفضي في الأخير إلى تفويض الشّعب أمره وتسيير شؤونه إلى نخبة سياسيّة تصبح صاحبة القرار النّهائي بصورة أو بأخرى، أقول بأن ذلك لا يتّفق مع قيم النّظام الإسلامي في الحكم ومع طبيعته كما أفهمه ... المجتمع ( أو الجماعة أو الأمة )  في طبيعة النظام الإسلامي هي المرجع والمآل الذي يجب أن يبقى لديه القرار... أما إن انتخبنا نوابا وأوكلنا لهم كلّ أمورنا بصورة لا تجعل لنا عليهم سلطة أو مراقبة فإنّ ذلك مدخل للوصاية والاستلاب، لأنّ الوكيل يصبح حاكما مطلقا وأصحاب الحقّ يقتصرون على الاتّباع. مثل هذا لا يتماشى مع المفهوم الإسلامي للحكم ولا مع قيم استخلاف الإنسان ومسؤوليته التي سيحاسب عليها. هذا يستدعي طبعا التوصل إلى السّياسات التي تحقّق اليوم المرجعيّة الفعليّة للأمّة في المتابعة والمراقبة والمحاسبة والتغيير.
هناك موقفان من التراث متعارضان الأول هو الإشادة إلى حدّ التقديس والثاني الإعراض والرفض المطلق له. فهل يعني هذا أن المسلمين فشلوا إلى حدّ الآن في التعامل الجيّد مع التراث وكيف السبيل إلى تأسيس منهجيّة وطريقة للتعامل مع هذا التراث تقطع مع هذا التطرف في التعامل وتعيد صياغة العقل المسلم لتأهيله لمراعاة روح الزمان وطبعه وبالتالي تضمن التوازن في شخصيته تجعله متجذرا في هويته و فاعلا في عصره؟
ليس هناك في تاريخ الإنسانية شعب أو مجموعة بشرية كان لها دور في الحضارة وقد قامت بقطيعة مع تراثها.. هذا مستحيل ... حتّى الأمريكان الذين لهم تاريخ قصير نسبيا وليس لديهم تراث وازن مثل الصينيين أو المسلمين أو الأوروبيين، فإنهم تخيروا وسائل عديدة لصنع تراث مثل ما يعرف بالأسطورة المؤسّسة التي يعتمدون عليها كأداة لتفعيلها كتراث.
لا يمكن أن ننهي علاقتنا مع التراث بجرّة قلم ..هذا لا يتيسّر ولهذا فإن موقف الإعراض والرفض المطلق للتّراث موقف خاطئ وقاصر ولا يمكن أن يفضي إلى تحقيق نتائج سياسية وتربوية  وتنموية ناجحة.
وكذلك الذين يقدّسون التّراث بتعلّة أن لهم رسالة قد تكفّلوا بها، هؤلاء جانبوا حقيقة رسالتهم ... رسالتهم هي مهمة استخلافيّة تجعل المكلّف قائما على الفعل في ذاته وواقعه باستمرار بما يقتضيه زمانه وفق تلك الرسالة وما تأسّست عليه من قيم ومعان وتجارب . بهذا لا تكون العلاقة بالتّراث تقديسيّة تجعل منه وثنا يعبد و يعطّل مهمّة الإنسان و قدراته الاجتهاديّة التي سيحاسب عليها..
عندنا عبارة تتكرّرفي القرآن الكريم وهي عبارة «الأسوة»، يقول الله سبحانه وتعالى:« قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ» (الممتحنة 4) وكذلك « لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ»  (الممتحنة 6 ) وأيضا « لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا» (الأحزاب 21)  
 فعبارة «الأسوة» من التأسّي هو التمثّل أي الاستيعاب الواعي فهي ليست الإعادة والتقليد ... الأسوة هي أن تفهم الخصوصيات التي جعلت النموذج الذي تتأسى بفعله يقدّم إجابات بتلك الطّريقة في تلك اللّحظة الزمنيّة. هذا التمثّل هو الذي يتيح لك التّوصل إلى إجابات من خلال تلك التجربة، إجابات أنسب ومختلفة ومستوعبة جوهر تلك التجارب دون تكرارها.
في تقديري المشكل ليس في التراث في حد ذاته بل في آلية التعامل معه. بأي صورة يكون التعامل؟ هل يكون بصورة «الأسوة» أي بفهم المنطق الذي استخدمه النموذج والأب المؤسس ليتمّ تنزيله بعد ذلك في سياق جديد أم يكون بإعادة إنتاج نفس الاجابات؟ 
تعيش المرأة واقعا من التحرر مختلفا كثيرا عن المرأة في المشرق نتيجة المكاسب التي حققتها في العقود الأخيرة . لكن لاحظنا بعد الثورة أن هذه المكاسب أصبحت مجالا للنزاع بين الحداثيين والتيارات الدينية. ماهو موقفكم من المسألة؟ وهل تعتبر موقف حركة النّهضة من مجلّة الأحوال الشّخصية موقفا تكتيكيا أم هو ناتج عن اقتناع ؟
هناك لدى النّهضة اقتناع بأن مجلة الأحوال الشخصية لها إيجابيات و فيها الكثير مما ينبغي أن يبقى لذلك فهي تعتبرها مكسبا، لكن المشكل في تقديري أن حركة النّهضة ليست بصدد البحث عن كيفية تطويـــر هذه المجلّـــة لأنّ أي مكسب لا يطوّر يفقد أهميتـــه. «النّهضة» في هذا الموضوع كما هو شأنها في قضايا أخرى ظلّت تعمــــل وفق الاعتبارات السّياسيّة لذلك أعرضت عن فتح الملفّات الكبرى التي يقتضيها السّياق الثـــوري وسعيـــا منها للحلول «التوافقيـــة» التي تمكّنها من أن تصبح مقبولة لدى من يشكّكون في «صدقيتهــــا» في الداخل والخارج. هذا البحث عن أن تكون مستساغــة دفعهـــا إلى  الانخــراط  فـي « النسق السياسي العـــادي» ( Le politiquement correct ). مــا أفهمه أن جزء هامـــا من إقرار مجلّة الأحوال الشخصية يعود إلى هذا الاعتبار وهو ما يسوّق لدى العديد من أن الوقت غير مناسب لفتح هذا الملف. في حين أن المطلوب الآن هو معالجة قضية الأسرة ومن ضمنها التّشريعات الخاصّة بها وبوضع المرأة ليس بمعنــى الرّجوع إلى أوضاع ما قبل مجلّة الأحـــوال الشّخصيّة بل بما يستلزمه وضع الأسرة التّونسيّة اليــوم بعد خمسين (50) سنة من تجربة تحرير المرأة. هناك مكاسب عديدة، هذا صحيح،  لكن هناك حالات متفاقمة متّصلة بتفكّك الأسرة وبسياسة الإنجاب، كما أنّ هناك أزمة قيم واضحة في العلاقات الزوجيّة ممّا أدّى إلى تفشّي العنوسة وارتفاع نسب الطلاق والزواج المتأخر مع كلّ ما ينجرّ عن ذلك في مجالات الصحة والأمن الدّاخلي. هذه قضايا اجتماعيّة وقيمية وسياسية حارقة ناتجة عن تحولات وضع المرأة والرجل ساهمت فيها مجلّة الأحوال الشّخصيّة إلى جانب عوامل أخرى وطنية وكونيّة. السّؤال هل نسكت عن هذه القضايا ونترك الأطراف الأخرى توظّفها لتطرحها بصورة عدائيّة لهذه المكاسب وفي اتجاهات انتكاسية ؟
اليوم هناك حوار ملتبس حول مجلة الأحوال الشّخصية هو حوار صراعي بين مقاربتين تقديسيّتين كلتاهما تتّهم الأخرى بالحرص على المسّ بما تعتبره الأخرى مقدّسات لا يمكن في نظرهما المسّ بها. لا بد من الخروج من صراع القدسيات الوهميّة الذي يقطع الطريق على أي حوار مدني حيوي. أليس من الأفضل أن نتحاور بديناميكيّة نصّ المجلّة ونبحث عن كيفية تفعيله بصورة أكثر نجاعة وراهمية ؟
أنتم تدافعون كثيرا على الإبداع وترونه مدخلا هامّا للفعل في عصر العولمة .. هل أنتم مع الإبداع  بكل معانيه وكل مستوياته بلا حسيب ولا رقيب أم أن هناك شروطا وحدودا لا يمكن تجازوها من طرف المبدع.؟ 
لا يمكن بالمرّة تحديد حدود مقنّنة واضحة بصفة دقيقة للإبداع،  لكن هناك ما يسمّى العرف أو المزاج العام وما يتّفق عليه المجتمع... الحدود يفرضها المجتمع عبر مؤسساته وعبر الحوار الدّائم بين القوى المجتمعية المختلفة. لقد انتهى طور الدّولة التي تفكّر وتنظّم وتشغّل وتقرّر أي نوع من المسرح يصلح لنا وأي برامج تعليميّة نتطلبها الى آخر ما كان في الخمسينات من القرن الماضي. ذلك عصر انتهى ولقد ساهمت العولمة في وضع حدّ لهذا النّظام. لكن من جهة أخرى هناك حدود وشروط نتواضع عليها بحيث تحقّق تعاقدا عرفيّا متجدّدا لا يمنع الإبداع ... لنأخذ مثالا من تراث الفنّ الإسلامي، هناك مبدئيّا اتفاق بعدم التّصوير في تراثنا، هذا حدّ لم يكن من الممكن تجاوزه. حين وضع هذا الحدّ هل منع الإبداع بعد ذلك ؟ بالتأكيد لا ... ظهرت تصوّرات جديدة وظهرت إبداعات تمثّلت في النّقوش المتنوّعة وروعة استغلال الأشكال الهندسيّة والنمنمات الفارسيّة .. أليس هذا إبداعا؟ أمّا إذا أردنا « إبداعا» دون انضباط بحدود نلتزم بها بوعي بحجّة الحريّة، فذلك تحطيم لمكوّنات الثّقافة الجامعة وتعبير عن نزوع فرديّ جامح لا صلة له بإنسانيّة المجتمع.
معنى ذلك أنه لا يتحقّق الإبداع إلاّ بوجود حدود كبرى وهو ليس خرقا لتلك القيم العامّة وإنّما تمثّلا لها بصورة جديدة والأهمّ هو أن تكون تلك الحدود ناجمة عن اتفاق وتعاقد ووعي بأهمية العيش المشترك وضرورة السّير به نحو آفاق أرحب. هناك مجالات واسعة غير مشتغل عليها هي التي يتّجه إليها المبدع ولا إبداع في الاستخفاف بمعتقدات الآخرين أو بتكفير المخالفين. من هنا، لا يتحقق الإبداع إلا بتحريك الثقافة الخاصّة والذّات والمؤسّسات ( الأسرة والمدرسة والسوق والدولة ) حتى تتغلّب على تناقضاتها الداخليّة وتسيطر على بيئتها الخارجيّة. بذلك يكون الإبداع طريقا للتفوّق الحضاري الذي يحققه الفرد ويستعيد به المجتمع زمام المبادرة التاريخيّة التي يشارك في الحضارة الإنسانية عندما يركّب بينها وبين متطلّبات تحقيق الذاتيّة. في كلمة الإبداع نزوع إنساني دائم لحفظ مدنيّة كل جماعة وإبعادها عن الجمود والفوضى. 
كنتم مهتمين  في فترة من الفترات بالحوار الإسلامي المسيحي. كيف تقيّمون هذا الحوار وهل مازال متواصلا في ظل الحرب المعلنة من الغرب المسيحي على الدول الإسلاميّة وما الفائدة المرجوة منه إذا يبقى في المستوى الأكاديمي فقط ؟ 
الحوار المسيحي الإسلامي تراجع كثيرا في السنوات الأخيرة. ومن بين أسباب تراجعه المسائل التي ذكرتها في سؤالك. ونذكّر بأن الحوار مع الكاثوليك بلغ مستويات متقدمة في فترة بابا الفاتيكان «يوحنا بولس 2» ( 1978-2005) لأنه كان حبرا مؤمنا فعلا بالحوار مع المختلفين. مع انتخاب البابا « بندكتوس السادس عشر» الذي تخلّى عن الكرسي البابوي سنة 2013 ، تغيّر الوضع نوعيّا إذ اتخذت إدارة الفاتيكان في السنوات الثماني تلك مسلكا جديدا وقائيّا لكونها أصبحت تساند فكرة أن المسيحيّة أصبحت  مخترقة حتى في أوروبا من الإسلام ومن غير الإسلام وبالتالي فإن الهوية المسيحيّة الأوروبيّة أصبحت مهـدّدة ولذلك اعتبروا الحوار أمرا غير مرغوب فيه. وبقي الحوار  خلال فتــــرة «بندكتوس السادس عشر» شبه متوقف .  لكن الآن وبوصول البابا الجديد « فرنسوا» القادم من أمريكا اللاتينيّة يمكن أن تتغيّر الأمور ويعود للحوار المسيحي الإسلامي  بريقه خاصّة وأنك إذا تابعت تصريحات البابا الجديد  تشعر أن له نزعة انفتاحيّة إنسانيّة متأثّرة بقضايا المستضعفين وبلاهوت التحرّر الذي كان له شأن في أمريكا اللاتينية والذي يعتمد البعد التضامني الجماعي للمسيحيّة بما يقلّص من حجم المركزيّة الأوروبيّة التي هيمنت في السنوات التي خلت 2005-2013 
أما ما جعلني ارتبط بالمسار الحواري مع المسيحيين هو أنه مسار يثري رؤية المسلم بتعرّفه على طبيعة معتقد المسيحي كما يغيشها هو في أي مسألة من مسائل العقيدة  أو التاريخ أو التشريع أو الحياة العادية. الحوار مع المسيحي في موضوع الوحي مثلا يتيح لي أن أفهم خصوصيته بشكل دقيق كما يجعلني أقدر على إفهامه دلالة الوحي في الإسلام وكما هي اليوم تعاش. من خلال هذا التفاعل أتمكن من مزيد إدراك خصوصيتي العقديّة في هذا الموضوع. الحوار بذلك تَفَهُّمٌ للآخر و مزيد من الوعي بالذات وتركيز للتثاقف المنشود في عالَم التعدد والانفتاح. المهم هو الارتقاء بالخصوصيات بعد الإقرار بها بما يفضي إلى ضرورة تفعيل تلك الخصوصية في الواقع إثراء للإنسانية من خلال التعدد و في ذلك فليتنافس المتنافسون. 
الحوار الديني بذلك غنى للذات وتقويـــة للخصوصيّات الدينية وهو منهج حضــاري وحيـــوي سواء مع المسيحييـــن ومع المسلمين المختلفين عنّا لأن غلق باب الحوار فتـــح لفتن الجهــــل والتدابر أي توفير أسبــــاب العنف المدمّر الذي يفوّت علينا فرصا تاريخيّة متاحة قد لا نولّيها الأهميّة التي تستحق. 
                                                              (انتهى)         
-------
-  حاوره:  فيصل العش