الإفتتاحية

بقلم
فيصل العش
لا يغير الله ما بقوم ...
 ما يحصل في دول الثّورات العربيّة من انتكاسات بعد أقلّ من أربع سنوات من الحراك الثّوري الذي انطلق من تونس لينتشر نحو الشّرق، هو مؤشّر خطير يوحي بعودة الدّكتاتوريّة من الباب الواسع الكبير. فما نراه في مصر من انقلاب على إرادة الشّعب واستعمال غير مبرّر للعنف ضدّ النّاس وما نشاهده ونسمع عنه في ليبيا من إصرار لإجهاض محاولات بناء مؤسّسات الدّولة وما حدث من قبلهما في اليمن ويحدث في تونس لمؤشّرات جدّية لطيّ صفحة «الثّورة» وغلق ملف التّغيير لسنوات وعقود لا يعلم عددها إلاّ الله. فما هي أسباب هذه الانتكاسة السّريعة ولماذا فشل «حكّام ما بعد الثورة» في قيادة سفينة التّغيير وتحقيق جزء ولو قليل من الأهداف التي ثار من أجلها النّاس رغم أنّهم من النّخبة التي تصادمت مع نظام الاستبداد وناضلت طويلا في المجالين السّياسي والحقوقي؟ 
ثلاثة عوامل أساسيّة كان لها دور كبير في تعثّر تحقيق الانتقال الدّيمقراطي وتحقيق أهداف الثّورة، العامل الخارجي بما له من وزن وتأثير من خلال النّشاط المخابراتي للقوى الدّوليّة المعادية للثّورات العربيّة ودعمها لأطراف الردّة بالمال والعتاد والنّصيحة، والعامل الدّاخلي المتكون من عنصرين أولهما سياسة الأيادي المرتعشة التي ميّزت أداء الحكّام الجدد وثانيهما تجاهل المسألة الثّقافيّة وعدم اعتبارها أولويّة الأولويّات.ولقد حذّرنا مرارا وتكرارا من هذا التّجاهل ورفعنا شعار «الثّورة الثّقافية أوّلا» لكن لا حياة لمن تنادي.
فشلت النّخبة حكومة ومعارضة لأنّها لم تقرأ الواقع جيّدا وراهنت على الخارج أكثر من رهانها على الشّعب الذي أوصلها إلى سدّة الحكم وعادت قوى الرّدّة لتفتكّ موقعها في السّاحة وتحاول السّيطرة على ما تبقّى من زخم ثوري مازال حاضرا في صدور المستضعفين من العمّال والفلاّحين والموظّفين والطّلبة وكلّ مواطن ذاق لذّة الحرّية بعد أن ضاق ذرعا من بطش الطّغاة، لكن هذه القوى لن تصل إلى مبتغاها لأن معركة التّحرّر ليست إلاّ في بداياتها وفي ساحتها تقف القوى الوطنيّة المنحازة إلى الشّعب، برغم ضعفها وتشتّتها، وفي يدها سلاح فتّاك سيجعلها حتّى وإن انهزمت في بعض المعارك تنتصر في النّهاية، إنّه الإيمان بقدرات هذا الشّعب وحبّه للانعتاق والحرّية وطموحه اللاّمحدود في العيش بكرامة. من يلتحم بشعبه سيفوز في النّهاية، أمّا من يعتقد أن هذا الشّعب جاهل وأنّه سبب البليّة وأنّ إصلاحه والنّهوض به لا يتمّ إلاّ عبر الإمساك بزمام السّلطة، فليتبوأ مقعده ضمن الخاسرين الفاشلين. لقد جرّبت النّخب منذ عقود التّغيير انطلاقا من الأعلى واستهداف رأس السّلطة والتّعويل على قوّة الدّولة أكثر من الاهتمام بتطوير المجتمع، فكانت النتائج دكتاتوريّات متنوّعة وتبعيّة مقيتة لقوى الاستبداد العالمي. الحلّ ليس في الفوز بكراسي الحكم أو اقتسامها، فما الفائدة من حكم بدون سلطة وما قيمة أن تكون ربّان السّفينة والمقود ليس بيدك بل بيد غيرك يرسم لك الطّريق ويفرض عليك اتّباعه. الحلّ يبدأ بمراجعة عميقة لمنهج التّغيير والعمل على تثوير ثقافة المجتمع ليحصل التّغيير من خلال النّاس. ولا يمكن أن يتحقق ذلك في ظلّ انعدام الثّقة بين النّخبة والجماهير ولكي نبني هذه الثّقة فإنّنا لسنا في حاجة إلى سياسيين ومثقّفين يجيدون فنّ المناورة والخطابة ورفع الشّعارات الرنّانة بل إلى رجال يجمعون الثّقافة بالسّياسة، يعيشون ضمن النّاس، يقاسمونهم همومهم ويتبنّون مطالبهم ويصدعون بالحقّ ولو على أنفسهم ويعيدون الاعتبار لقيم العمل الطّوعي والتّضحية بمصالحهم من أجل الصّالح العام. إنّنا في حاجة إلى «المثقف العضوي» على حدّ تعبير «قرامشي» ذلك الذي من خلال أعماله وإبداعاته ونضالاته يحوّل أفكاره المنبثقة من معاناة المجتمع ومضامين الواقع إلى برامج ومشاريع واقعيّة بعيدا عن المخيال الإيديولوجي الذي يحكم جزءًا كبيرًا من النّخبة الحاليّة.
ولأنّ الهيمنة الثّقافية هي المدخل الرّئيسي للهيمنة الاقتصاديّة والسّياسيّة، فإنّ هذا المثقّف يجب أن يعي أنّ المعركة الحقيقيّة هي ثقافيّة بالأساس وأنّ مدارها يشمل الصّراع على الأجهزة الثّقافيّة (مؤسّسات التّعليم، المساجد، المسرح، المهرجانات،الإعلام،...الخ) وليس صراعا على الجهاز السّياسي للدّولة لأنّه عبر هذه الأجهزة فقط يمكن إصلاح ثقافة الجماهير وتغيير ما بأنفسهم ليتحوّلوا إلى قوّة ضاربة وسند قويّ لطلائع التّغيير، وعندها فقط ستنجح الثّورة ويحدث التّغيير المنشود  «إن الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم» صدق الله العظيم.