قرأت لكم

بقلم
مهى عزوز
قراءة في ديوان الصراخ الخافت
 هكذا شاء ناجي الحجلاوي، صاحب التّجارب الشّعريّة، أن يعنون مجموعته الأخيرة الصادرة سنة 2013. والمفارقة في العنوان كما المفارقة في الزمن تؤكدّ أنّ مدار الاهتمام في هذه المجموعة هو كثرة المفارقات. فإن كان جنس الصّراخ أن لا يكون خافتا، فإن الزّمن الّذي صدرت فيه المجموعة لم يعد يجد لنفسه مبرّرا للكتمان. ورغم ذلك جاء العنوان صراخا خافتا يحيل في ما يحيل عليه ازدحام أصوات غير متجانسة في الظّاهر يحمل بعضها بعضا وكأننّا بالعنوان يحمل أيضا في جملة معانيه أنّ المفارقات لها أيضا إيجابيّتها والضّجيج يحمل في بعض ما يحمل أصواتا صادحة وإن خفتت.
مدار العنوان في المجموعة على المفارقة والمفارقات ترصّع العناوين الفرعيّة ممّا جعل جميع أشكال المركّبات النّحويّة الواردة في العنوان تحقّق التعبير عن معنى المفارقة. ومن ذلك ما حمله المركّب النّعتي «الصّراخ الخافت» ومركب الإضافة «ظلال الغياب» و«بين ماء ونار» والمركّب الإسنادي « قد يستعير البحر من موجاته» ذلك أنّ البحر ليس في حاجة إلى الاستعارة إذ اقترن دوما في الحقيقة كما في المجاز بالدّلالة على الامتلاء. وحتّى العناوين الّتي جاءت ألفاظا مفردة لم تخل من الدّلالة على مفارقة قد يوحي بها لفظ الأرجوحة أو لفظ التّيه وفي كلاهما إيحاء بأنّ المكان قد لا يكون المكان.
ومن مظاهر المفارقات في متن الكتاب مفارقات أسلوبيّة ونقصد بها تلك الّتي توخّاها اللّفظ لشدّ رحاله إلى المعنى. والغالب على الدّيوان أنّه من الشّعر الحرّ، تؤكّد ذلك جميع نصوصه الّتي انتظمت على التّفعيلات فهي بحور وليست بالبحور نجد فيها من التّفعيلات المتقارب (الصّراخ الخافت) والرّمل (رسالة من بطّال) والكامل (كغزّة أو أشدّ) ما يوهم بالبحر ولكنّها ليست بالبحور وانتظم بعضها حرّا طليقا فهو شعر وليس بشعر.
على أنّ الشّعر وإن رام أن يكون سبيل الشّاعر في القول إلاّ أنّه قد اتّخذ لنفسه مطيّة أخرى متمثّلة في القصّ فلا تكاد تخلو قصيدة من تضمين قصّة قرآنيّة أو من الأمثال أو أسطورة قديمة أو معاصرة. فالنّصوص الأولى من هذه المجموعة تحيل في أكثر من مناسبة على قصّة موسى تلقي به أمّه إلى اليمّ وتقصّه الأخت، أو قصّة يونس يتخفّى في بطن الحوت حتّى يزول عنه الخطر وقصّة المائدة دُعي إليها أصحابها فكفروا، وأصحاب رقيم يخرجون إلى النّاس بعد ثلاثمائة أو يزيد ليشهدوا على ما أصاب القوم من انهيار القيم. والقصّة والأسطورة مأخوذة من التّاريخ الإسلامي وهذا الّذي سمّاه الإعجاز بالحمام والعنكبوت أو هي مأخوذة من تّاريخ الأمثال عند العرب «وبراقش تجني على أهلها بما تفوّهت به من النّباح» والأسطورة تونسيّة معاصرة أقصد أسطورة من فرّ من لهيب الحريق إلى الحريق البوعزيزي. وسواء كانت العودة إلى هذه الأقاصيص بتوظيف معانيها الرّاسخة منذ الأزل في الدّلالة أو بتحوير للمعاني كما وقع من استقراء جديد لسورة المائدة والخوان الجديد يتّخذ من القدس وغزّة وأرض فلسطين طعاما للظّالمين وسواء كشفت الأسطورة عن حكمتها أو انكشف أمرها عن سرّ حريّ به أن لا يستبين فإنّ ممّا ميّز ديوان الحجلاوي هو هذا المزج بين إيقاعات الشّعر وإيقاعات الخيال وتدبّر حكمة ما كان وما سيكون.
غير أنّ المفارقة الأخرى الّتي يحتويها النّص مفارقة مضمونيّة تتمثّل في الإيهام بالحديث المطلق عن هموم الشّاعر والمثقّف والإنسان في عصر امتلأ بالمتناقضات وغامت فيه الرؤيا فلا تكاد تكشف عناوين من قبيل الصّراخ الخافت أو طريق الماء أو براقش عن ارتباط بالواقع المعاصر من أي ناحية من النّواحي غير أنّ استقراء النّصوص يشي بعكس ذلك. إنّ الحديث عن أمّ موسى في التّابوت يتفطّر عليه قلب الأمّ والأخت تقصّه والجناس الصّوتي غير التّام بين موسى ومرسي يؤكّد تبنّي الشّاعر موقفا من قضّية سياسيّة معاصرة يبررّها أنّ الأرض كانت أرض أنبياء وبهم يؤمن المسلمون والاهتمام بشأنها من لوازم قضاياهم الأثيرة ليس نصّ طريق الماء إلاّ مباركة لأرض مصر وأرض موسى أو مرسي وقد استشرف الكاتب بوصوله الحكم بداية الانفراج يقول « كلّ شيء في طريق الماء ماء والسّماء تكتب الرّيح كتابا بمداد من الدّماء أنت في التّابوت نور للعمى يملأ الأجواء صحوا وبهاء ويبشّر كلّ شيء في طريق الماء أخضر» 
وأرض مصر تستوقف المؤلّف في مرحلة أخرى من تاريخ ثورتها في نصّ «الصّراخ الخافت» وما امتلاؤها بالحديث عن قصّة يوسف وأهل العزيز وأمّ موسى مرّة أخرى إلاّ مؤكّد لهذا الارتباط والسّؤال يتكرّر منذ مطلع النصّ إلى نهايته «على أيّ درب نموت وفي الماء كرم وتوت إذا جفّ حبر وزالت الصحف إمامك كفّ وقلبك ميعاد ماء أزف لك الامتلاء كمن أودعت ابنها البحر يوما ولكننّا ههنا قاعدون كدودة قزّ وفينا من العنكبوت بيوت» ليس النّص إلاّ حديث عن ميدان رابعة وعلامته هذه الكفّ المرفوعة كالأمام.
وقد نرى ذلك أيضا في نصّ بين ماء ونار فالعنصران الماء والنّار يوهمان بالحديث عن المطلق من عناصر الخلق لكن استقراء القصيدة وخاصّة التّصريح بالاسم العلم «يا عزيزي» يؤكّد تبنّي المؤلّف موقفا من البوعزيزي ولعلّ حذف بو من الاسم اختيارا له دلالته في النّص خاصّة وأنّ الشّاعر يأبى إلاّ أن ينهي قصيدته قائلا: «ليتك لم تجبني يا عزيزي كي أظلّ في الحلم العميق وتفر أنت من لهب الحريق» القصيدة في نهاية الأمر رصد لمفارقة بين الأحداث من ناحية وما كتب عن تلك الأحداث من ناحية أخرى وذلك ما عكس انشغال الشّاعر بقضايا الوطن الرّاهن وهو ما يزداد تأكّدا من ذلك مع استقراء بقيّة النّصوص.
ولكن ذلك لا ينفي أبدا مواقف عامّة من قضايا انسانيّة في جوهرها، اسلامية في طرحها وفي لفظها ذلك شأن الشّهادة ببعديها الإسلامي والإنساني وما يدفع الشّهداء من الدّم ودماء في سبيل تحقيق الرّقي لمن سيأتي بعدهم.
وهكذا كانت مجموعة الصّراخ الخافت لناجي الحجلاوي مدّا لجسور التّواصل بين المختلفات حدّ التّناقض تربط بين الحاضر والماضي وتبوح في صوت خافت.
-----------
-  شاعرة تونسية