مقالات في التنمية

بقلم
نجم الدّين غربال
دور الصكوك في النهوض بالوضع الإقتصادي والإجتماعي في تونس
 بات معلوما حاجة اقتصادنا المستمرة والمتزايدة لتدفّقات ماليّة إضافيّة خاصّة في ظلّ انخفاض معدّل الادّخار المحلّي الذي وصلت نسبته إلى 15.8 % من الدخل الوطني سنة 2012 و استمرار ضعفه سنة 2013 ببلوغه  17.4 % .
و قد عكس هذه الحاجة كل من تراجع معدلات الاستثمارات في السنوات الأخيرة ومحدودية جهازنا المصرفي الذي لم يقدر على القيام بوظيفته التمويلية المنتظرة نظرا لمشاكله الهيكلية وقلة السيولة وحوكمته التي ينقصها كثير من الرشد.
كما باتت حاجة اقتصادنا مؤكدة إلى أدوات تمويل متميّزة ومبتكرة نظرا لمحدوديّة دور الآليّات التقليديّة في إنعاش اقتصادنا ولما أثبتته من فقدانها القدرة على حماية الاستقرار الاقتصادي باعتمادها على آلية الإقراض بالفائدة كما ذهب إلى ذلك الاقتصادي «Maurice ALLAIS»ر(1) وما سبّبه ذلك من تفاقم للأزمات وتتاليها.
فالإقراض بفائدة يعتبر حجر الزاوية في التمويل التقليدي وإذا أخذنا السّندات على سبيل المثال باعتبارها آليّة من آليّات التمويل التّقليدي وجدنا أنّها شهادات دين وبالتالي هي شكل من أشكال ذلك الإقراض لتكون بذلك ضمن الآليات المتسبّبة في ما عرفه العالم من أزمات.
فما هي أداة التمويل المتميّزة والمبتكرة القادرة على تلبية حاجة اقتصادنا وما مميّزاتها وأي نفع لها في تحقيق التنمية ببلدنا وكيف تستخدم؟
1- -  الصكوك: ماهيتها و مميزاتها
أما الصّكوك التي شهد قطاعها على المستوى العالمي - منذ سنة 2011 - نموّا بنسبة قدرت بما يقارب 28 % وأصبحت تستهوي دولا عديدة في الشرق والغرب على حدّ السواء، فهي أداة ماليّة مبتكرة تنتمي إلى نوع مختلف تماما عن التمويل التقليدي سواء من حيث الأسس أو من حيث النّتائج يعرف بالتّمويل الإسلامي.
فكل صيغ التّمويل الإسلامي تقوم على تملّك أصول حقيقية، والصّكوك ليست استثناء لذلك فهي تعرف على أنها شهادة ملكيّة يستفيد صاحبها من أرباحها نظرا لتحمّله مخاطر توظيفها(2) وفقا لقاعدة « الغنم بالغرم» كما جاء في الحديث الصّحيح لرسول الإسلام صلى الله عليه وسلّم.
وإذا دقّقنا القول أدركنا أنّ « صكوك الاستثمار تخول لصاحبها حق الاشتراك في الأرباح والخسائر في حدود ما قدّمه من أموال ويستحق حاملها عائدا دوريّا تحت حساب الأرباح ولكنّه لا يشترك في إدارة الشركة وبذلك يختلف أصحاب هذه الصكوك عن حملة السّندات في كونهم ليسوا دائنين للشّركة وعن حملة الأسهم في كونهم لا يشتركون في إدارة الشّركة»(3)
ومن الناحية العمليّة تجسّد الصّكوك بوثائق متساوية القيمة يقع إصدارها بهدف توفير الموارد الماليّة اللاّزمة للاستفادة منها بالتّناوب استثمارا وإنتاجا وتشغيلا وتبعا لذلك خلقا للثّروة ودعما للنّمو وإسهاما في التنمية.
كما تمثّل حصصا شائعة في ملكيّة أعيان أو منافع أو خدمات في موجودات مشروع معيّن أو نشاط استثماري وذلك بعد تحصيل قيمة الصّكوك وقفل باب الاكتتاب وبدء استخدامها فيما أصدرت من أجله.
وتستخدم الصّكوك كبقيّة أدوات التّمويل الإسلامي في تمويل مشاريع نافعة للنّاس غير ضارّة تكون حقيقيّة لا افتراضيّة أو وهميّة مساهمة بذلك في تقليص الهوّة التي أحدثتها الماليّة التقليديّة ما بين الدّائرة النقديّة والدّائرة الحقيقيّة وما أنتجته من هزّات في عالم المال والأعمال وما أفرزه ذلك من ظواهر اجتماعيّة كالفقر والبطالة والتّفاوت، الأمر الذي أصاب سلم العديد من المجتمعات في مقتل.
وتصنّف الصّكوك على أنّها منتج مميّز للسّوق الماليّة الإسلاميّة تمكّن من تجاوز محدوديّة السّوق الماليّة التقليديّة، فالسّوق الماليّة بمعناها الواسع هي «سوق يوظف فيها المدّخرون أموالهم لغاية الاستثمار» وهي «سوق الأموال طويلة الأجل يتمّ فيها توجيه المدّخرات النقدية أي أموال المدخرين نحو الاستثمار في المشاريع المنتجة مع الإبقاء في الوقت نفسه على عنصر السيولة».
ومن أهم العوامل التي تؤثر في نموّ هذه السّوق الماليّة «حجم المدّخرات أي الأموال المعروضة في هذه السّوق وكذلك حجم الطّلب على الأموال طويلة الأجل»(4) ونظرا لقدرة الماليّة الإسلاميّة على توفير السّيولة عبر آليّة الصّكوك فهي تتجاوز بذلك حدود السّوق الماليّة التقليديّة.
- -2   كشف بعض المغالطات
من المغالطات المروّج لها والتي تستوجب الدّحض نذكر:
* المغالطة الأولى : « الصّكوك الإسلاميّة هي قروض رقاعيّة يتمّ فتحها للاكتتاب وهي رقاع خزينة مثل بقيّة الدّيون تصدرها الدّولة».
 والحقيقة أن آليات التمويل الإسلامي تبنى على المعاملات بين السّلع والخدمات وليس على النّقود، أما القرض فهو نقد مقابل نقد مع زيادة سعر الفائدة ومن المهمّ الإشارة إلى أن العالم الغربي اتّجه إلى التمويل الإسلامي بعد الأزمة الاقتصاديّة العالميّة التي كانت نتيجة لسعر الفائدة.
 فسعر الفائدة هذا هو الأساس الذي يقوم عليه المنهج التقليدي في التّمويل وقد أثبت هذا المنهج فشله بصورة جليّة نتيجة الأزمات الماليّة التي عصفت بركائز النّظام المالي التقليدي خاصة أزمة عام 2007 . أمّا المنهج الإسلامي في التّمويل فهو لا يقوم على سعر الفائدة بل يموّل المشروع من العائد عبر إصدار صكوك إسلاميّة تمثل حقوق ملكيّة لحامليها بالإضافة إلى حصّة من الرّبح يحصل عليها بعد دراسات جدوى وهي أرباح متوقّعة تعطي حصيلة إصدار الصّكوك إلى الحكومة ويوزّع نسبة مائويّة من الرّبح على أصحاب المشروع وباقي الرّبح يعطى للحكومة.
ومن خصائص التّمويل الإسلامي الذي بها ينأى بالحالة الاقتصاديّة للمجتمعات عن الأزمات ويحدّ من المجازفات في الأسواق المالية والتي تتغذّى عادة بالتّداين نذكر:
- هامشية الإقراض في هذا النّوع من التمويل.
- تقييد التّداين عبر ربطه بتبادل السلع والمنافع.
- عدم جواز التّداين لتسديد دين آخر.
- تحريم بيع الدّين بالدّين.
- تنفير النّاس من التّداين بدون حاجة حقيقية.
- التّقييد الصّارم للعمليّات المالية.
* المغالطة الثانية : «الصكوك الإسلامية شكلا من أشكال تفاقم الديون».
والحقيقة أن من خصائص الصّكوك الإسلاميّة أنها تشترك في استحقاق الرّبح بالنسبة المحدّدة وتحمل الخسارة بقدر الحصّة التي يمثلّها الصّك ويمنع حصول صاحبه على نسبة محدّدة مسبقا من قيمته الاسميّة أو على مبلغ مقطوع كما تتحمّل مخاطر الاستثمار كاملة وتتحمّل الأعباء المترتّبة على ملكيّة الموجودات الممثلة في الصّك سواء كانت الأعباء مصاريف استثماريّة أو هبوطا في القيمة أو مصروفات الصّيانة أو اشتراكات التأمين.
* المغالطة الثالثة : «الصكوك هي سندات»
والحقيقة أن الصكوك ليست سندات رغم بعض أوجه الاتفاق بينهما والتي نعدّدها قبل عرض أوجه الاختلاف.
فما هو مشترك بينهما أنّ كلاهما أوراق ماليّة متداولة ذات استقرار كبير ومخاطر متدنّية غرضها التّمويل ويمكن من خلالهما التّحكم في حجم السّيولة النقديّة.
أما ما يميّز الصّكوك الإسلاميّة عن السندات الربوية أنها:
-  حصص شائعة في المشاريع المدرّة للرّبح، أمّا السندات فهي قروض ربويّة في ذمّة مصدرها.
- عوائد تلك الصّكوك ناتجة عن ربح حقيقي بينما السّندات التزام من مصدر السّند بفوائد محدّدة تدفع لحامل السّند وما زاد من أرباح يعود للمصدر.
- الصّكوك هي أوراق ماليّة تمثّل أصولا حقيقيّة بينما السندات أوراق ماليّة تمثّل دينا في ذمّة مصدرها.
- 3 -    منافع الصكوك
أ) منافع الصكوك في السوق الداخلية
• تمليك الأصول لأكثر عدد ممكن من النّاس إدماجا لهم في الحياة الاقتصاديّة وتشريكا لهم في تحمّل مسؤولية النّهوض بالمجتمع فضلا عن توفير موارد دخل إضافي لهم.  
• تحقيق أرباح مشروعة لأهل العفو (ما زاد عن الحاجة) « وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ»(5) مقابل تمويلهم لمشاريع نافعة للمجتمع.
• جذب المدّخرات وفائض أموال المستثمرين ورجال الأعمال وإدخالها في العمليّة الإنتاجيّة فتساهم الصّكوك بذلك في علاج مشكلات البطالة والتضخّم عبر أنشطة إنتاجيّة جديدة نظرا لما يوفره توظيفها من فرص عمل إضافية وما يزيده من حجم المنتجات، فيساهم بالتّالي في التّحكم في الأسعار وتحسين القدرة الشرائيّة للمستهلكين.
• تشجيع من لديهم فوائض ماليّة على عدم اكتنازها حفاظا على قيمتها أو تنميتها عبر استثمارها في اقتناء الصّكوك.
• توفير فرصة لمن له سعة من مال تجنّبه الإسراف أو التبذير وترغّبه في المقابل في أن يكون ما زاد عن حاجته موردا لإنتاج نفع آخر له -عادة  ما يغفل عنه كثيرون - يتمثّل في محيط سليم تحاصر فيه الجريمة ويطيب فيه العيش وبيئة اجتماعيّة متكافلة على مستوى الصحة والتعليم تصاغ ضمنها علاقات سليمة وأخرى طبيعية نظيفة وصحيّة تضفي جماليّة منعشة لحياته.
• توفير سيولة الاستثمار أي توفير المال المخصّص للاستثمار.
• إثراء موارد التّمويل الضروريّة للمشاريع الكبرى من بنية تحتية وغيرها التي تحتاجها التنمية في المجتمعات.
• آلية مجدية لإدارة موجودات المصارف والمؤسسات المالية التي إن كان لها فائض توظّفه في الصّكوك وإن احتاجت للسّيولة باعتها في السّوق الثانوية.
• آلية للتّوزيع العادل للثّروة حيث ينتفع جميع المستثمرين بالرّبح الحقيقي الناتج عن توظيفها.
ب) منافع الصكوك في السوق الخارجية
• المساهمة في حلّ الأزمة الماليّة الرّاهنة والتخفيف عن الجهاز المصرفي التّقليدي في ظلّ انخفاض معدّل الادّخار المحلّي نظرا لأنّ الصّكوك أداة تمويل جديدة توفّر تمويلا لازما ممّن يؤمنون بجدواها من الأجانب ويعتقدون في شرعيّتها ويرغبون في استثمارات جديدة في القطاعين العام والخاص في بلدنا.
• دعم الثّقة في اقتصادنا المحلّي نظرا لأنّ المستثمرين إنّما يقدمون تمويلهم للمشروعات على أساس ثقتهم في جدوى المجالات التي سيتم الإنفاق فيها والعائد المتحقّق منها وليس على أساس الفائدة المحدّدة سلفا.
• المساهمة في تمويل عجز الموازنة المتوقّع زيادته نظرا للضّغوطات التي تواجهها الماليّة العموميّة.
• تمويل مشروعات عامّة أساسيّة للعمليّة التنمويّة أسوة بالتّجارب النّاجحة في دول مثل ماليزيا وتركيا والبحرين والتخفيف على الاقتصاد المحلّي من مخاطر الاقتراض الخارجي الذي يرتبط بأعباء أخرى على الدولة.
- 4 - كيفية استخدام الصكوك؟
بعد أن قدمنا تعريفا للصّكوك وعرضنا منافعها في السّوق الدّاخلية والخارجيّة، نمرّ إلى توضيح كيفيّة استخدامها.
تستخدم الصكوك وفقا لصيغ التّمويل الإسلامي كالمشاركة والمرابحة والمضاربة والإستصناع والسلم والمزارعة وغيرها ونكتفي بذكر بعض من هذه الصيغ للتوضيح.
ففيما يعرف بصكوك المشاركة، تستخدم هذه الآلية في إنشاء مشروع أو تمويل نشاط على أساس المشاركة بين طرفين أو أكثر فيصبح المشروع ملكا لحاملي الصكوك وتدار تلك الصكوك إما:
• على أساس الشّراكة في الرّبح وفي تحمّل المخاطر التي عادة ما تكون منعدمة أو هامشيّة نظرا لأنّ المشروع قائم على حسن تقدير ممن يؤمنون بالقدر وبالإتقان في العمل « إن الله يحبّ إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه» (6)
• على أساس المضاربة وذلك بتوفير الموارد الماليّة لأصحاب الطّاقات البدنيّة أو المهارات الفنّية أو الابتكارات الذّهنية وبذلك يمكن امتصاص جزء لا يستهان به من مختلف أصناف العاطلين عن العمل.
كما يمكن للصّكوك أن تكون أداة تمويل عملية شراء حاجة تنموية وتصبح هذه الحاجة مملوكة لحامل الصّكوك الذي يستفيد بهامش من الرّبح حين يقوم بعمليّة بيعها مرابحة.
ويقع إصدار الصّكوك أيضا لتحصيل رأس مال السلم ويصبح منتج السلم التنموي مملوكا لحاملي الصّكوك فيما يسمى بصكوك السلم.
 ففي غياب التمويل اللاّزم لمشاريع تنموية كالطّرق السيّارة والموانئ والمطارات ومحطات القطار والمترو والمستشفيات وغيرها، يمكن للمنتفعين بها مستقبلا أن يساهموا في تمويلها سلفا عبر آلية الصّكوك على أن يتمتّعوا بخدماتها مستقبلا هم والأجيال القادمة.
    الهوامش
(1) الاقتصادي MAURICE ALLAIS متحصل على جائزة نوبل للاقتصاد سنة 1988
(2) المخاطر هي مدى الأمان في العملية الاستثمارية
(3) د أشرف محمد دوابة: (2008) الاستثمار الإسلامي – المجلس العام للبنوك و المؤسسات الإسلامية – CIBAFI.
(4) د محمد بشير علية :(2013) الموسوعة الاقتصادية الحديثة مركز النشر الجامعي    
(5) قرآن كريم : آية رقم 219 من سورة البقرة
(6)  رواه أبو يعلى في ((مسنده)) (7/349)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (1/275)، وابن عَدي في ((الكامل)) (6/361)
-------
- أستاذ وباحث جامعي، رئيس مركز الدراسات التنموية
najmghorbel@gmail.com