لقاءات

بقلم
التحرير الإصلاح
الدكتور احميده النيفر في حوار شامــل مع «الإصلاح» (الجزء الثاني)
 تطرقنا مع الدكتور احميده في الجزء الأول من الحوار إلى ظروف نشأة الجماعة الإسلاميّة في تونس وعلاقتها بالإخوان وبعلماء جامع الزيتونة المعمور ثم إلى ملابسات مغادرته وثلّة من إخوانه الجماعة في السبعينات ليؤسس الإسلاميين التقدّمين ويصدر مجلّة 15*21 وفي الأخير عن توقف التجربة الجديدة وأسباب ذلك .وفي هذه الحلقة نفتح مع الدكتور ملف تيارات الإسلام السياسي ومدى امكانية نجاحها في قيادة الأمّة نحو إعادة مجدها وماهي البدائل التي يطرحها مقابل نقده لهذه التيارات. كما تطرقنا معه إلى تحليل الصراعات بين النخب التي احتدّت بعد الثورات العربية وفي الأخير قمنا معه بإطلالة على التجربة التركية ومدى امكانية تكرارها في بلادنا.
يقودنا كلامكم إلى جماعات الإسلام السياسي التي أوصلتها الثورات العربية إلى سدّة الحكم ولديها الآن موقع أساسي ... يرى البعض أن الإسلام السّياسي قد ضيّق واسعا وعطّل صفة من صفات الإسلام وهي عالميّته حيث اعتمد الإسلام سلاحا لمواجهة الغرب ومنافسيه في الداخل والخارج ؟ فهل هذه الفكرة صحيحة؟
الإسلام السياسي هو وليد لحظة تاريخية، فحركة الإخوان المسلمين ظهرت مباشرة مع سقوط وإلغاء الخلافة العثمانية كقوة سياسيّة تعبّر عن حرص المسلمين على الفعل التاريخي. فالخليفة العثماني رغم ضعف حكمه ووهنه والإنهاك الذي أصابه في فترة حكمه الأخيرة، كان يمثل حاجزا أمام مطامع الغربيين من انقليز  وروس وفرنسيين وحرصهم على تقسيم العالم الإسلامي وتفتيته،  في هذا السياق نفهم لماذا تأسست الجماعات الإسلاميّة في تلك الفترة كالإخوان المسلمين وحزب التحرير على قاعدة الإسلام السياسي. 
الإسلام السياسي يهدف إلى صنع بناء ضدّ المستعمر، لذلك فإن فكرة مزاحمة البرنامج الاستعماري هي أساسية في طرح الإسلام السياسي، لكن جماعات الإسلام السياسي ركّزت على فكرة التنظيم والتأطير والحشد وأهملت بقية الجوانب. فبقدر ما نقبله كإجابة لمتطلبات للحظة تاريخيّة، بقدر ما ندرك أنه محدود وليس قادرا على الإستجابة لمقتضيات تلك اللحظة التاريخية بمجرد الاعتماد على الآليات والإجراءات والاختيارات التي تبنّاها و التي جسّدها التنظيم السري و المغلق و المنفصل عن المجتمع. 
معالجة المسألة الإسلامية في رأيي لا يمكن ان تكون من المدخل السياسي بالأساس وهذه هي نقطة خلاف أولى بيننا وبين الإسلام السياسي ، فهل كان محمد صلى الله عليه وسلّم رسولا أم  رئيس دولة؟ أم أن رئاسته وقيادته للجيش وقيامه بالغزوات كانت من مقتضيات رسالة و مشروع أريدا  للجزيرة العربية بالخصوص وللإنسانية بصفة عامة ولم يكن ممكنا التوصل إلى تلك الرسالة بالفصل بين الخصوصية الأساسية لتلك الرسالة و بين مهام الزعامة السياسية ؟ أيهما الأول و الأصل؟ 
ما نراه للجواب هو أن الأساس كان القيام بالمهمّة الرساليّة الإنسانية و التي اقتضت في ذلك السياق التاريخي جمعا مع مهام سياسية وعسكرية معينة لا مناص منها بل يجب التصدي لها والتفكير فيها. من ثم تأكدت مهمة تأسيس نظام سياسي مركزي هي دولة المدينة لمحاربة الشّرك والتقيّد بضوابط تربوية واجتماعية لمنع عودته والتصدي لمؤامرات اليهود ؟ 
الإسلام السّياسي اليوم طرح على نفسه الاستجابة لمتطلبات فترة تاريخية لكن إجابته كانت  بأدوات ويقينيّات ليست ثابتة وفيها ما يقال الكثير. فبعض الأطراف من الإسلام السياسي تريد محاكاة تجربة الرّسول في إقامته لدولة المدينة وهي بهذه الطريقة تضع خطوات الرسول محمد صلى الله عليه وسلّم في سياق مسقط ليس له علاقة بالرؤية الرّسالية الدينية الإنسانية التي جاء بها والتي اقتضت الظروف أن يؤسس دولة وفقها، وهم يغفلون أيضا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أسّس دولته في شكل عقد اجتماعي قائم على التعاقد.
فنحن كإسلاميين تقدميين قلنا مثلا أن هناك قضايا حيويّة من الضروري والحيوي طرحها للنّقاش مثل قضية دولة الإسلام الأولى، هل كان هناك مشروع دولة أساسا أم هو أمر اقتضاه السّير التاريخي وبالتّالي ليس لدينا الآن  مثلا مشكل مع الدولة الوطنية؟
 أما الإسلام السياسي فهو لا يؤمن بالدّولة الوطنيّة ويرغب في القفز عليها وعدم العمل من أجلها ويدعو إلى العودة للخلافة ( حزب التحرير مثالا) فهو يعتبر الحديث عن أقطار كالجزائر وتونس كلاما فارغا ولهذا يدعو الإسلام السّياسي إلى العودة للخلافة لأنه انطلق من مُسلمة أولى هي أن المشروع الإسلامي هو بالأساس مشروع بناء دولة ولا يمكن  تحقيق الإسلام في الواقع إلا بتطبيق الشّرع ضمن إطار دولة دون تحديد حدودها الإقليمية أو الوطنية.
من خلال هذا التحليل كيف ترون مستقبل الإسلام السّياسي؟
بالشكل الذي نراه عليه اليوم، وطريقة التفكير التي يتبناها، أرى أنه سيدخل في تجاذبات ونوع من التنازلات والتسويات حتّى تصبح إسلاميته «لايت» كما يُقال أو لا خصوصية تميزها ... 
أنا أتصور أن العاملين في حقل الإسلام السّياسي إذا واصلوا أعمالهم بنفس الطريقة التي يعملون بها الآن والتي عملوا بها في أوقات سابقة في جهات أخرى، فإنه لن تكون لهم إضافة يقدمونها للمشهد السّياسي وبالتالي لن تتبيّن حقيقة الإضافة المنتظرة من الخطاب الإسلامي في هذا العصر. مؤدى هذا هو تحولّهم إلى رقم سياسي لا يستطيع الفكاك من التنميط الاجتماعي السّياسي السائد.  
عندما نحلل أداء حركات الإسلام السّياسي خلال السّنوات الثلاثة التي مرت، لا نرى ما يلفت النظر في ما يخصّ الإضافات النوعيّة المنتظرة. 
أنا هنا لا أتحدّث عن الأخطاء في الحكم لأنه بعد الثورة لا أحد قادر تجنب الهفوات والزّلات، لكن من يستطيع أن يعطينا الخصوصيّات التي ميّزت اختيارات الإسلاميين وهم في الحكم أو في المجلس التأسيسي، إلاّ إذا استثنينا فكرة «الترويكا» التي تعتبر ميزة من ميزات الإسلام السياسي في تونس. لقد قبلت حركة النّهضة التعايش والعمل المشترك في نفس الحكومة مع العلمانيين. ولكن إلى أي حدّ وقع تأسيس هذا الخيار ( فكرة «الترويكا») هل حصلت بناء على  مراجعات فكرية مؤسسة بالنسبة إلى الحركة ككل وخاصّة لدى قواعدها وقواعد الإسلام السياسي بصفة عامّة؟. هو في نظري اختيار سياسي مرحلي يمكن أن يتلاشى ولا يجد له سندا فكريا وعقديا مما يضطر الآخر ويدفعه للقيام هو أيضا بالمراجعات اللازمة تكون ضمانا لهذا التعايش المنشود.
لكن إذا حدث كما تظهر بعض المؤشرات أن اتجهت حركة النهضة إلى الفصل بين ما هو عمل سياسي وعمل دعوي فكري، و تأسيس هذا الفصل و تدعم بمعيارية وطنية في التعامل مع الفرقاء السياسيين فسيكون لذلك تداعيات ايجابية إذ سيبني مجالا سياسيا جديدا .  أما إذا واصلت في خطّها الحالي فستصبح كأي حزب آخر وستصبح الصفة الإسلامية تسمية دعائية لا مضمون لها و لا فاعلية تنتظر منها على المستوى الوطني و العربي .
نقدتم الإسلام السياسي فما هو بديلكم ؟ اليوم نحن في مواجهة مستمرة مع الاستعمار المباشر وغير المباشر الذي يمتصّ ثرواتنا ويخلق الفتن فكيف البناء ؟ ... كيف يمكن أن نعيد لهذه الأمة مجدها ؟ 
نحن نطمح إلى نهضة شاملة وثورة ثقافيّة ودلالة النّهضة تختلف عن كلمة الإسلام السياسي لأنها تعني حركة وعي وروحا معاصرة ومنظومة قيم فاعلة لذلك فهي تتطلب العمل على مختلف الواجهات والأبعاد وليس البعد الحزبي فقط وغير المؤسس.
هناك العديد من المداخل لبناء هذه الثورة الثقافية المبدعة لكن المدخل الأول هو أن تمتلك خصوصيتك العميقة التي تتيح إعادة بناء المنظومة الثقافية للمجتمع وتركيب نسقها القيمي بشكل يجعلها قادرة على إنتاج متناسب مع مقتضيات عصرك في المستويات المادية والعقلية والروحية. هذا هو مشروع التغيير البديل بصورة عامة. فالبديل يمكن بناؤه من خلال خصوصية الذات الثقافية والتصورية والوطنية والدّين الإسلامي جزء مؤسس لهذه الذات المميزة. الخصوصيّة المميّزة في رأيي  يمكن أن تتحدد في مجموعة من الأمور.
نأخذ الجانب الديني نفسه، فما معنى أنّ لنا دينا نتميز به عن المجموعات الأخرى؟ بماذا يتميز الخطاب الدّيني الإسلامي منذ ظهوره إلى الآن ؟ 
العبادات هي ركيزة من ركائز الدين الإسلامي ، فهل سنهتم بالعبادات ونفهمها في سياق آخر؟ نفهم أن فيها معاني تكشف الذات بوصفها مجالا أعمق من نفسية الفرد العادية و أن فيها معاني التضامن وقيمة للمجموعة وما يترتب عن ذلك من العمل ضمن المجموعة وإبراز الجانب الاجتماعي لهذه العبادات أم أننا نمارسها فقط للحصول على الأجر والفوز بالجنة في الآخرة؟ المطلوب البحث عن إجابة للسؤال التالي: «كيف يمكن أن يصوغ الدّين الإسلامي نموذجا إنسانيا متفردا من دون أن يصبح طاغيا وصداميا ؟»...
في نفس هذه المقاربة بناء الفرد لا يكون على حساب مصلحة الجماعة والجماعة لا يكون بناؤها طاغيا ومدمرا لقيمة الذات الفردية. هذه مسألة لها استتباعات في المنظومة التعليمية و الثقافية و الاقتصادية إذ تقتضي وضع سياسات توازن مؤكد بين قيمة الفرد و حريته وقيمة الجماعة و مقتضياتها المختلفة .هذا التوازن هو الذي ميّز الخطاب الإسلامي دينيا في شعائره واختياراته القيمية وفي اختياراته المادية لكن هذا يحتاج إلى تحيين و معاصرة لكي يصير هذا التجاذب بين الفرد والجماعة أداة لفاعلية وطنية عوض أن يكون مشكلة. 
الخطاب الإسلامي المجدّد وغير التّقليدي لا يعتمد مقولة الإسلام دين و دولة بل هو خطاب للفرد الجماعي الذي يعتبر أن الإسلام دين وأمة وأن الفرد مطالب من خلال نفس الخطاب أن ينضوي ضمن اختيارات ومقتضيات المجموعة بحيث تكون المفارقة بين الفرد والجماعة مبدعة ومؤسسة لحركة فيها مصلحة للطّرفين وبالتالي للمجتمع والوطن؟ بنفس هذا التمشي يكون التّوتر ما بين مصلحة جماعة ما وبقية الجماعات التي تكون «الجماعة الإنسانية» دافعا لتطور العلاقات الإنسانيّة فتحافظ المجموعة على مصالحهـــا وفي نفس الوقت حافزة وإيجابيــة للآخريـــــن ( انظر الفتوحات الإسلامية).
هذا التحدي في دلالته الإنسانية يمثل الأساس لنفكر في البديل الجاعل من هذا التوتر الخلاق ما بين مصلحتك كفرد أو كقطر أو كمجموعة داخل المشهد السياسي ضمن مستلزمات الواقع  مدخلا ضروريا إذا كنا نريد أن نؤسس لبدائل جديدة في المستويات الاقتصادية والتشريعية والتربوية والثقافية ... إنه المنطلق الذي يحقق حوارا ويوجد ديناميكة مثاقفة صحية وشاملة... 
انظر إلى طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، لم يتم التفكير إلى حدّ الآن بصورة منهجية في في ضرورة مراجعة تلك الطبيعة في ضوء دلالة ما حصل في 17/12/2010 و14/1/2011. ما حصل لم يكن مجرّد انتفاضة ترمي إلى استبدال مجموعة حاكمة بأخرى رغم أن الظّاهر كان كذلك. تلك الأحداث كانت في عمقها انطلاقا في سيرورة ثوريّة تعمل من أجل  الانعتاق من إطار الدولة القائمة على احتواء المجتمع والتسلّط عليه وتهميش كل طاقاته وكفاءاته واحتياجاته. لذلك فلا بدّ من السّعي إلى إقامة منظومة مغايرة تقوم الدولة فيها على التعايش المتوازن مع المجتمع وما يستتبع ذلك من استحقاقات سياسيّة وأبعاد تنمويّة اقتصاديّة تتوقف على تحققها كرامة التونسي من حيث هو إنسان وتماسكُ المجتمع من حيث هو نسيج من العلاقات التي ينبغي أن تقوم على التوازن و العدل.  مرة أخرى هناك توتر خلاق من أجل تجاوز سياسات الوصاية على المجتمع. الملاحظ أن عموم المجال السياسي في تونس بقي إلى اليوم بما فيه الإسلام السياسي يعمل جاهدا للسيطرة على دواليب الدولة لأنه ما زال يظن أن ذلك سيتيح إعادة صياغة نظام المجتمع. 
من جهتنا ولحوصلة ما سبق فإننا نعمل لجعل العناصر التي تبدو متناقضة وثنائيّات متصادمة، أن نجعل منها طاقة للإبداع والبناء .. أنا لا أرى أن فكرة الثنائيات هي فكرة إسلامية ... مبدأ التوحيد هو الأساس. وإذا أردنا أن نفهم التوحيد فهما حركيا حضاريا لا بدّ أن نفهمه من خلال  هذا التوتر الخلاق ما بين فردانيتك وجماعيتك وما بين وطنيتك وإنسانيتك وما بين حزبيتك والتعدد الحزبي وما بين حبّ كسب المال واليقين بأنك تعمل لملاقاة الله .
لماذا نجد زعيما للحركة الإسلامية خارج العمل السياسي؟ هل هو ضرورة أم اختيار؟
بقطع النظر عن مصطلح الزعامة أقول إن الشخصية الدينية إذا دخلت عالم السياسة «تتقزم»  أي تفقد الكثير من قيمتها وقدرتها على الإضافة ...لأن الشخصية الدينيّة إذا ولجت عالم السياسة فإنها عندما تريد أن تنتج مواقف دينية فهي تنتجها على مقتضيات إكراهات السياسة ومقتضياتها الموضوعية ولم يعد بمقدورها أن تنتجها وفق إرادتها...فالسياسة لها شروطها وقوانينها التي تلزمك بها إن التزمت بانتماء حزبي معيّن. إذن استقلالية الشخصية الدينيّة عن العمل الحزبي أراها ضرورية ولازمة غير أن هذه الاستقلالية لا تعني عدم الالتزام بمقتضيات السياسية في المستوى الوطني ذلك أن الشخصية الدينية عضو في المجتمع و له أداء سياسي يجمعه مع بقية المواطنين. فالعمل السياسي المنظم والحزبي يقضي بأولويات تحدّ من فاعلية الشخصية الدينية التي تستطيع أن تفعّل قناعاتها وقيمها من موقع المواطنة والمساهمة في الأعمال المدنية أي أنها غير مدعوة إلى اعتزال الحراك المجتمعي بل تساهم فيه بشكل مختلف وليس بالانتماء الحزبي إذ الشأن السّياسي ليس محصورا في العمل الحزبي.
 أنتم بدأتم إماما خطيبا في جامع «أبي امحمد» بتونس العاصمة أي بين الناس وكان لكم حضور كبير والآن نجدكم في جمعية فكرية ثقافية «رابطة تونس للثقافة والتعدد»أي بين النخبة ..كيف تفسّر ذلك؟
عندما كنت إماما لم أكن إماما فقط ولكن كنت في نفس الوقت في الحركة أي ضمن مجموعة لأنك لا تستطيع أن تنفتح على الناس بدون أن يكون لديك انتماء ضمن مجموعة. هناك حركة تفاعل ما بين انضوائك في انتظام وبين خدمتك في المجتمع. اليوم بالنسبة إليّ الرابطة هي الجماعة التي تكون خلفية للانفتاح على المجتمع بل هي رابطة الوصل بين النخب و بين أفراد المجتمع و طاقاته المختلفة.
 نصل الآن إلى رابطة تونس للثقافة والتعدد لماذا هذه الرابطة وما هي أهدافها؟ 
إذا انطلقنا من التسمية في حدّ ذاتها ومن الكلمات الأربع التي تكوّن التسمية يمكن أن نقول إنّ رابطة تونس للثقافة والتعدد هي أداة عمل و تواصل لإيجاد حوار(ولهذا هي رابطة تجمع أطرافا متعددة و مختلفة)، حوار يعيد لتونس قيمتها وتميّزها (لهذا التزمنا بكلمة تونس) وللثقافة التي هي التعبير الأشمل عن الاختيارات والذائقة الجامعة بين الناس والتي تتنزل فيها  فاعلية المجتمع وفي نفس الوقت الرهان على جعل التعدد ثراء وليس مصيبة ... هذه 4 معاني نحن بصدد تفعيلها في مجموعة أنشطة هي ندوات وأيام دراسية وورشات ومنشورات وموقع الكتروني ورسالة أسبوعية نصدرها ... نحن نؤمن أن اللقاء الذي سميته أنت بالنخبوي إن هو بقي على مستوى النخبة فهو مهدد بالتلاشي، لذلك يجب أن يرصد و يحلل و يفتح نوافذ وأبوابا عديدة على مختلف مكونات المجتمع بتعدد مستوياتها. لهذا نحن نفكر مثلا في الانفتاح على الجامعة عبر برمجة محاضرات موجهة للطلبة ونفكر قريبا في إقامة ندوة حول تجديد الفكر الدّيني و أخرى عن النظام التربوي. العمل في الرابطة  ليس عملية انطوائيّة بل هو مدخل للمجال المفتوح الذي يجب العودة إليه باستمرار لكي تفهم إلى أي حدّ كانت اختياراتك صائبة ... نريد أن تكون لدينا بدائل واقتراحات مميزة في المسالة السياسية ومستلزماتها الفكرية والقيمية والمسألة التعليمية فلسفة ومناهج ومضامين وبرامج والمجال الثقافي بمختلف تعبيراته من مسرح وسينما وشعر ورواية لأهمية هذه التعابير وتأثيرها على الذوق الجماعي والفردي ولقدرتها على الارتقاء بالحس العام من خلال الرهان على الكفاءات الثقافية الفردية. نعمل كذلك على طرح المسائل القادرة على تحقيق تجديد للفكر الديني بما يتطلبه ذلك من مراجعات للمنظومة العقدية والقيمية والتربوية بما يحقق تجاوز القطيعة الموروثة بين الشريعة والوعي الإنساني وبما يحرر الفكر الإسلامي من أعباء الأنساق التاريخية الخاص بالأنظمة السياسية. التجديد المطلوب في مستوى الفكر الديني الإسلامي يعيد لهذا الأخير توازنه الداخلي الذي لم يحصل في الماضي إلا عبر الإقصاء والقمع والتهميش. بهذه الاهتمامات الخاصة بهذه المشاغل الأربعة يمكن تقديم بدائل أو مشاريع أو رؤى مميزة قادرة على الإسهام في إبراز مستلزمات العقد الاجتماعي والثقافي المنشود.
على إثر قيام الثورات العربية وسقوط بعض أنظمة الاستبداد لاحظنا عودة قوية للصراع الإيديولوجي بين التيارات الثلاث القومي والعلماني والإسلامي؟ هل هو دليل فشل ونتيجة غياب برامج واضحة قادرة لتقديم حلول للواقع المريض أم أنه صراع حتمي لابدّ منه؟ لماذا عاد الصراع بين الأطراف الثلاث؟
لا  أعتقد أن هذا الصراع حتمي ... لكن قبل الحديث في هذا الموضوع دعني أصحح عدد القوى المتواجدة على الساحة الوطنية، هم ليسوا ثلاث قوى إيديولوجية فقط بل أربعة ... القوميون والإسلاميون والعلمانيون والدساترة،أصحاب الفكرة الوطنية، الذين يؤمنون بأن ما تحقق في 50 سنة له قيمة كبيرة وأن أطروحتهم ما تزال قادرة على إخراج البلاد من الأوضاع الصعبة ...هذه المجموعة الرابعة مهمّة.. 
لماذا عاد الصراع بهذا الشكل؟... 
للإجابة على هذا السؤال علينا معرفة حقيقة ما جرى أيام الثورة،  أولا لم يشارك هؤلاء في الثورة بصفتهم الجماعية الحزبية، لقد أخذوا القطار وهو يسير ولم يكن لديهم بصفتهم الجماعية تلك، الوقت لفهم ما حدث وما هي دلالاته وما هي مقتضياته ولذلك كان المهمّ بالنسبة إليهم هو كيف يفرضون نفس الإجابات المعهودة لديهم بصورة أو بأخرى سواء من كان في السّلطة أومن كان متحالفا معها أو من كان مهمّشا ... 
السياق الذي دخلت فيه الأطراف الكبرى هو سياق امتلاك جهاز التغيير مع فكرة الوصاية على المجتمع وأن الدّين بالنسبة إلى جانب من هذه الأطراف أداة من أدوات تمكين السّلطة السّياسية من مزيد من الشرعيّة. هذا هو التوصيف العام المشترك الموجود لدى التيارات السّياسية الغالبة ولهذا سيتواصل الصراع بينها لاتفاقها الضمني على أمرين: الوصاية والتوظيف. إنها تعبر عن إعادة إنتاج النظام القديم ولكن بصيغة أخرى .
هؤلاء في غالبيتهم العظمى مدركون أنه من غير الممكن تحييد الدّين في تأثيره على المجتمع فالجهود التي بذلت طيلة حكم بورقيبة وطيلة حكم  بن علي لم تفض إلى إزاحة الدّين وتقليص تأثيره على سلوكات المجتمع و الأفراد لذلك فمدنية الدولة تعني الوصاية و التوظيف. ما يلاحظ في أوروبا يؤكد عكس هذا التوجه فعندما تم تحييد تأثير الكنيسة، أصبحت الدولة لديها القدرة على الإسهام في مواطنة جديدة مسؤولة ... الوضع عندنا في العالم العربي وفي تونس بصفة خاصة مختلف لذلك فلا بد من العمل من أجل نخب سياسية جديدة ووعي مواطني فاعل لتجاوز مآزق إيديولوجيات الوصاية والتوظيف التي تريد جعل «العفاريت داخل القمقم» وتحت إرادتهم ووصايتهم.
الدين لدى إيديولوجيات الوصاية و التوظيف « عفريت» وليس طاقة تحرر وإبداع لذلك هناك وفاق بينها على توظيفه أو على الأقل تحييده... هناك عجز عن تصور علاقة من نوع آخر وهذا ما يغري البعض بالعودة إلى التجارب السياسية التي أدت إلى فشل ذريع في هذا المجال بالذات. مفارقة المشهد السياسي الحالي في هذا الشأن أن الاختلاف والصراع الظاهرين يخفيان اتفاقا على أن لا يكون شأن الدين خارج الوصاية وبعيدا عن التوظيف الحزبي ومن مشمولات المجتمع وتصبح مهمّة الدولة تطبيق القانون والحرص على إعطاء الناس حرياتهم ليعيشوا المجال الديني بحرية و اقتناع ومسؤولية.
إذا المسألة هي صراع إيديولوجي في ظاهره لكنه صراع حول الوصاية والتوظيف للدين بصفته روح المجتمع وأجهزة الدولة؟
نعم هذا صحيح و أنا أرى بعد تجربة الحكم خلال السنوات الثلاث التي تلت الثورة أن حركة النهضة بصفتها أهم تيار في الإسلام السياسي التونسي تبقى لها حظوظ لكي تخرج من هذا المأزق لكن ذلك مرتبط بشروط أولا النجاح في الفصل بين مهمتها السياسية ومهمتها الدعوية وثانيا أن تنخرط في  حوار وطني حقيقي في مجموعة من القضايا الأساسية بعيدا عن منهج التوافقات و التسويات الهشة للنظر في علاقة الدّين بالدولة وعلاقة الدولة بالمجتمع ومشكلة الثقافة والمجتمع ... انظر على سبيل المثال لا الحصر التخبط العشوائي الذي تعيشه وزارتا الثقافة والتعليم وهما تبحثان عن حل لموضوع  علاقة الثقافة بالمجتمع.
كيف سنكوّن المجتمع ضمن تعدّد المداخل؟ هذا هو سؤال من أسئلة الحوار الوطني الحقيقي. لأنه لم يعد مجديا التعامل الارتودوكسي الذي أعدّت به البرامج القديمة وتعدّ على اساسه البرامج الإعلامية والثقافية الحالية التي تثير سخط وغضب عموم الناس في المسرح والغناء و التلفزة وغيرها 
الوصاية و التسلط الموجودان لا يتعلقان بالمجال الديني فقط ولكن في جملة من القضايا الأساسية ... وهذا رهان حضاري و سياسي يمكن للإسلاميين أن يعتمدوه إذا ما أرادوا أن ينقذوا أنفسهم وتكون لديهم الريادة والمبادرة الوطنية لا أن يصبحوا رقما سياسيا من جملة الأرقام. أكثر من ذلك هم إن التزموا به سيدفعون بالآخرين للإسهام في بناء مجال سياسي جديد عبر مراجعات مؤلمة و ضرورية لمستقبل الوطن.
هناك من يرى أن التجربة التركية يمكن أن تتكرر في تونس وأن هناك تشابه كبيرا بين حزب العدالة والتنمية التركي وحزب حركة النهضة . ما هو رأيك؟
ثلاث بقاع في العالم الإسلامي وبالتحديد في البحر المتوسط وهي تركيا وتونس ومصر مهمّة جدّا من حيث موقعها الجغرافي و الاستراتيجي والحضاري .. هذا المثلث الريادي في العالم الإسلامي مترابط تاريخيا و لديه مشتركات عديدة ومؤثرة خاصّة في التاريخ الحديث.  فقد شهد تحولات كبيرة بداية من ظهور التنظيمات في تركيا ثم مع محمد علي في مصر ثم في الحركة الإصلاحية التونسية و كيف أخذ بعد ذلك مدى كبيرا في العلاقة مع الغرب خاصة في عملية تحديث تركيا ومصر وتونس..
لكن هذا لا يعني أن التجارب التي حصلت في دول المثلث الريادي كانت من دون خصوصيات فالتجربة التركية لها خصوصيات كبيرة ... حزب العدالة والتنمية لم يظهر بمعزل عن سلسلة من الأحداث التي سبقت تأسيسه وهو نتاج للتجارب والمحاولات التي سبقته وعلى رأسها التي قام بها المرحوم نجم الدين أربكان معلّم أردغان . أصبح هناك نضج وتراكمات في التجربة الجديدة . 
وما ميّز هذه التجربة وجعلها تأخذ مداها وتستجيب لمقتضيات المجتمع هو أنه هناك مؤسسات قوية في تركيا من بينها الجيش والمؤسسة الدّينية والاجتماعية التي كان لها  دور كبير ومؤثر بصورة لم تسمح للنظام العلماني أن يقصيها. لذلك فإن إقرار العلمانية في تركيا أتاح لمؤسّسات الدولة والمجتمع أن تعمل بصورة مميزة وهذا ما يجعلنا نلاحظ مثلا أن المجموعات الوقفية ظلت تعمل بنجاعة في الجانب الخيري والصحي والعلمي ونشر الكتب وتحقيق المخطوطات ولم يقع نقضها أو حلّها ... 
الطرق الصوفية العريقة لها موقعها وتأثيرها التربوي  في المجتمع من خلال دورها التأطيري و السلوكي و الذوقي و على أخلاق الناس وانضباطهم. المجتمع التركي لم يقع فيه التفكك الذي حصل في بعض المجتمعات الإسلامية بفضل المؤسسة الدينية التي بقيت تحضنه وتكوّنه .... في تركيا هناك مؤسّسات فاعلة وبالخصوص هناك مؤسسة تقوم على المرجعية الإسلامية وليس على السلطة الدينية وهذه المؤسسة لم تكن في يوم من الأيام في صراع  أو عداء مع السياسيين... هذا موجود في تركيا ولا يوجد في تونس أو في مصر. هناك  فرق كبير بين المرجعية الدينية  والسلطة الدينية ولو أن الفرق الفاصل بينهما دقيق لكن من الضروري التفريق بينهما باعتبار أن المؤسسة الدينية لا تفرض الحلول بل هي مجال لاقتراح الحلول و تقديم الخدمات المساعدة للأفراد و المجموعات فهي لا تجبر ... مثل هذا السياق مفقود في البلاد التونسية ... 
مصداقية هذه المؤسسات في النموذج التركي استمدتها من الحلول ومن الاستقلالية والكفاءة  التي تقدّمها للمجتمع  وليس من موقع السّلطة أو التسلّط اللذين يحجبان عنها صفة المرجعية. قوة مؤسسات النموذج في تركيا في مقترحاتها  وفي مصداقيتها وهذا يقودنا للحديث عن التجربة التونسية لنتساءل هل يفكّر الإسلاميون في مثل أهمية هذه المؤسّسات خاصة بالنسبة للعمل الاجتماعي التوعوي والتربوي، مؤسسات تعرف واجباتها تجاه المجتمع ولا تخلط بين المرجعية الإسلامية وسلطة المؤسسة الدّينية ؟ 
(يتبع)
-------
-  حاوره:  فيصل العش