قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
مرشّح الضرورة
 هل كان «الجورنالجي» محمد حسنين هيكل يعني ما يقول، أم كان خارج السّياق التّاريخي للتطوّر الحضاري حين قال بأنّ السيسي مرشّح الضّرورة فى ما نفترض جدلا أنه انتخابات مصرية قادمة؟ هذا الكاتب الكبير صاحب الكتب المبثوثة فى مكتبات الوطن العربي منذ استطاع أن يكون صحفيّا سياسيّا مفكّرا ألمعيا يلتقي الرؤساء والملوك ويحلّل المواقف والخطاب. نظر وقدّر ودبّر ثم أعلن أن لا غنى للمحروسة عن حكم السّيسي وأن لا ضير في أن لا يكون لهذا المرشّح أي برنامج، فهل خرج في ما قاله عن السياق العادي لتوالد الاستبداد بعضه من بعض ؟ وهل بإمكان هذا الثمانيني أن يقول غير الذي قال أو يرى غير الذي رأى؟
مات جمال عبد الناصر فجأة فوجد السّادات نفسه رئيسا للمحروسة وهو الذي كان ظلاّ للرئيس بلا صلاحيات تذكر ولا دور سوى التشريفات، وهكذا بدأ عهده مرتبكا، فنسي نظّارته عند أداء القسم غير أنه استطاع أن يزيح الحرس القديم ويهوي به إلى غيابات السّجون، ليصبح القائد الأوحد حتى أطال المقام في الحكم وقد أصبح بقدرة قادر الرئيس المؤمن، بطل العبور وبطل الحرب والسّلام، ضرورة لمصر لا غنى عنه ولا فكاك منه.
جلس الرئيس المؤمن على كرسي وثير وإلى جانبه كل أركان حكمه يشرف في أبّهة عظيمة على استعراض عسكري يقوم به «أولاده»، كما كان يسمّيهم، ولم يكن لديه أدنى شكّ في ولاءهم جميعا لسيادته، وفجأة لعلع الرّصاص وعمّت الفوضى ليسقط المؤمن مضرّجا في دمائه ولات حين مناص ولم يجد الحراس أمامهم من فعل سوى الارتماء على نائبه الذي أصبح من الضروري للبلد والنّظام أن يبقى حيّا حتى يرث الحكم وما تحته، والله يؤتي ملكه من يشاء.
لم يكن مبارك رجلا خارقا ولا ألمعيّا، بل كان مثل سلفه قبل تدخّل القدر، يشغل منصبا عيّن فيه من قبل الرئيس ثقة منه في كون المعين لن ينقلب عليه وكمثل سلفه بدأ مبارك عهده مرتبكا خائفا  متعهّدا أن لا يُطيل البقاء واعدا بتحويل مصر إلى بلد متقدم حرّ ديمقراطي. ثم تولّت آلة الحكم بعد ذلك تعهد حكمه بما يلزم من الرّعاية والمدد وهكذا تحوّل من ضرورة اقتضاها الانتقال الدستوري إلى رجل حكيم يعرف ما لمصر وما عليها، لا يخطئ الحكمة في ما يتّخذه من قرارات تجعل من مصر دولة حديثة يهابها الجميع، في توازن تامّ بين مقتضيات السّلام مع عدوّ الأمس واستحقاقات الدّعم اللامشروط لقضية العرب الأولى فلسطين، وما على المصريين الوطنيين إلا الالتفاف حوله طائعين أو مكرهين، وقد جلب لمصر استقرارا وأمنا.  ليس هذا فحسب، بل أصبح في آخر عهده ضرورة لمصر لا مناص منها ولا بديل للمصريين عنها لولا أن كان للثّائرين رأي آخر وقد ضاقت بهم البلد من طول بقاء الضّرورة، فردّدوا بصوت واحد في كل السّاحات والميادين   «ارحل يعني امشي  هو انت ما بتفهمشي؟» ولذلك رحل
جاء المجلس العسكري وعبثا حاول مريدوه أن يطيلوا بقائه ثم أتاح الاختيار الحرّ لأهل مصر أن يأتوا برئيس منتخب منهم يدخل قصر الرئاسة مرفوعا بأصوات الشعب ولم يكن من السّهل على آلة حاكمة منذ عهود أن تستسلم لإرادة الناس وهي التي اعتادت أن تصنع الرؤساء تدرّجا من ضرورات المفاجأة الى المرشّح الضّرورة الذي لا بديل عنه. آلة صمّاء بلا وجدان لا ترى في الدّولة إلا العسكر بعدّتهم وعتادهم ومصالحهم، عسكر يدير المشهد بإعلامه هو وقضائه هو ومعهم كتّابه ومفكروه وشركاته وأمواله وكل ما يحتاجه من أدوات كفيلة بسحق الناس وتحويلهم الى عبيد.
لن يكون السيسي حينئذ إلا ضرورة لآلة الحكم ومهما حاول معنا  «الجورنالجي» الذي لم يدركه الخرف، وإن  أدرك الطاعنين في السّن من أمثاله، فلن نرى ضرورة للمحروسة إلا في رئيس يختاره النّاس لا يطيل البقاء حتى يأتيه الموت وإنّما يحكم مادامت تلك إرادة ناخبيه. أما ما عدى ذلك فهو الخراب  وقد بدأ الخراب فعلا يحيط بمصر وما حولها. 
ليس الأمر حكرا على الحكم في مصر ونخبه التي برّرت قتل وسجن الآلاف من النّاس ولا ضير عندهم في المزيد فها هي الجزائر تنتخب على قاعدة الضرورة رئيسا يؤدّي اليمين على كرسي متحرّك وها هي سوريا تستعدّ لانتخاب رئيسها مبايعة له على قتل أكثر من مائة وخمسين ألفا من أعداء الشّعب وتشريد ملايين آخرين من أمثالهم، أما نحن فسوف نكون مضطرّين أيضا للعودة مرّة أخري للرّجل الضّرورة الذي أنقذنا في السّابق وإن لم نفعل فقد تكون الكلفة أكبر مما نتوقعه  هكذا يُقال وهذا هو ظنّ المتنفّذين...
--------------
- مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
lotfidahwathi2@gmail.com