بهدوء

بقلم
ياسين بن يحي
الفتنة الكبرى
 جرت العادة بعد أي حدث جلل يحصل في البلاد وتحديدا في السّاحة السّياسية كالذي نعيش على وقعه هذه الأيام أن ينقسم النّاس الى ثلاثة مواقف وأصناف (إذا ما استثنينا أؤلئك  الذين لا يعنيهم الشأن العام). 
فتجد الصنف الأول، وهو من ينعت في كثير من الأحيان بالثورجي، تجده يطلق لسانه بالشّتم والتخوين واتّهام الآخرين بالإنبطاحيّة والجبن وإلى غير ذلك من التّهم التي تتجاوز في بعض الأحيان الأخلاق والمبادئ العامة في التعامل مع الموضوع.
أما الصنف الثاني، وهو من يلقب بالإنبطاحي والمطبع مع الماكينة الحزبية، تجده يسرع في التبرير والبحث عن حجج قد يكون تلقّنها سلفا ليساهم في احتواء الصّدمة التي أصابت المجموعة. ولعلّ من أهم هذه الحجج هي التدرّج وفقه الواقع و دروس«صلح الحديبية» وما إلى ذلك من القصص التي تهرّت ولم تعد تقنع الناس خصوصا بعد كثرة الاستشهاد بها حتى في غير محلّها.
أما الصّنف الثالث، وأعتبر نفسي منهم، وهو أيضا ممن ينعتون بأنهم خارج الموضوع أو في التّسلل أو الذين لا يفقهون شيئا، فتجدهم يتلقّون الخبر كالصّاعقة فيجدون الصّراع قائما وفتيل النّار قد اشتعل بين الطّرف الأول والثّاني، فيتساءل كل واحد منهم هل يدلي بدلوه في الموضوع؟ هل يعبّر عن رأيه كالبقيّة؟ هل يآخذ موقفا ممّا يحصل؟ أم يلتزم الصّمت حتى تمرّ العاصفة كي لا يزيد الطّين بلّة؟
كل صنف من الأصناف التي ذكرتها له إيجابيات وله سلبيات. فالصّنف الأول دائما ما يذكّرنا بشعلة الثّورة والأحلام والأهداف التي رسمناها من خلالها وهو يمثّل أيضا صفّارات الإنذار التي يخشى العديد الاقتراب منها أو الاعتداء على أحلامها. ولكن ما أعيبه على هذا الصّنف أنّه مناسباتي فقط. فأذكر على سبيل المثال عند احتجاز أحد أبناء الثورة بالكرم، أقاموا الدّنيا ولم يقعدوها وأشعرونا أنّها ثورة ثانية قادمة في الطّريق ولكن للأسف بعد يومين أصبح الجميع يتحدث على مقابلة رياضيّة في إطار كأس رابطة الأبطال الأوروبيّة والمثال على ذلك كثير.
أما الصنف الثاني فهو يتّسم بالرّصانة وفي أغلب الأحيان لا يتســـرّع في أخـــذ المواقف والقـــرارات ويسعـــى الى النّظر إلى المآلات والمستقبـــل. وما أعيبـــه على هـــذا الصّنف أن لديــه التـــزام تنظيمـــي أكثر من اللاّزم ففي بعض الأحيـــان أنت مطالب أن تكون لك الجرأة على رفض القرارات والمواقف التي ترى فيها حياد على المبـــادئ. أذكر على سبيل المثال في مؤتمر لفصيل طلابي داخـــل الجامعة كان من بين مقررات المؤتمر أنّـــه لا سبيل للتّطبيع مع النّظام السّابق حتى وإن صدر ذلـــك عن الحزب ولكن للأسف لم يصدر الى حدّ هذه اللحظة حسب علمي بيان لهذا الفصيل يوجّه فيه نقدا حادا لقيادة حزبه بخصوص اقترابه من رموز النّظام البائد خاصّـــة بعد ما أصبحنـــا نتحدث عن ذوبان الجليد وحيث وصل الأمر الى التّنازل عن قانون تحصين الثّورة.
ويحسب للصّنف الثّالث أنّه يتجنّب جلّ المشاكل  ويسعى بطريقة أو بأخرى إلى إخماد نار الفتنة وعدم تأجيج الوضع أكثر ممّا هو عليه. غير أنّ لهذا الصّنف العديد من المؤاخذات لعلّ أبرزها وقوفه على الرّبوة وتعاطيه مع الوضع بسلبية مفرطة، إذ يجب عليه أن ينزل الى الواقع ويمارس العمل من الميدان وأن يقول للمحسن أحسنت وللمسيء أسأت ويبتغي بذلك قول الحق ونصرته لا أن يخشى من فقدان علاقاته وتواصله مع إخوانه حين يقوم بتوجيه اللّوم على هذا الطّرف أو ذاك.
لم يكن هذا التصنيف هو الهدف مـــن هذا المقــــال، ولكن ما يجول بخاطري دوما هو البحث عن الرّابـــط وأوجه التشابه بين ما نعيشه اليوم وبين أحداث الفتنة الكبرى التي حصلت في عهد علي رضي الله عنــــه. فبعد اغتيال الصحابي الجليل عثمــــان بن عفان رضــــي الله عنه وتولي سيدنا علي الخلافـــــة تعالت الأصــــوات من هنا وهناك مطالبـــــة الخليفة الجديـــــد بالقصــــاص من قتلة عثمــــان. وقد كان هذا المطلب مشروعا بل واجبــــا، خاصّـــة وأنّ المنادين بالقصاص يرون القتلة أمامهم يرتعون ويمرحـــون ولا يرون أي خطى عملية نحو العدالة الانتقالية. في المقابل كان ردّ سيدنا علــي واضحــــا حيث اعتبــــر أنّ القصـــاص من قتلة عثمان أمر حتمي وواجب غير أن المسالة تتطلب بعض الوقـــت خصوصــــا وأن الفترة هي فترة انتقالية والخليفة الجديد لم يتمكن من المسك بدواليب الأمور وبأجهزة الدولة بعد.
لا يسعني أن أمرّ دون أن أعرّج على الطرفين. ففي الطرف الأول نجد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة أم المؤمنين ومعها كل من الصحابيين الجليلين طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام. دون أن ننسى الشقّ الآخر حيث نجد صهر رسول الله وابن عمه وأوّل من أسلم من الشباب: سيدنا علي.
إن كنت مجبرا على اختيار أحد الفريقين فأنت في موقف لا تحسد عليه. مع من ستقف؟ مع من يطالب بمطالب مشروعة وواجبة وحتمية؟ أم مع من يرى تأجيل هذا الطلب لاحقا لعجزه حاليّا وفي انتظاراستقرار الأوضاع والتمكن  من دواليب الحكم؟
فهل يصحّ لنا أن نبحث عن روابط بين الحاضر والماضي فنعتمد شواهد تاريخية معيّنة لنفسّر بها مواقف ظرفيّة تمّ اتخاذها من هذا الطرف أو ذاك؟ أمّ أنّ ذلك يصنّف في خانة التعسّف على التاريخ وتوظيف في غير محلّه؟ وهل  صحيح  أنّ التاريخ يعيد نفسه أمّ أن ما حدث لأسلافنا (الفتنة الكبرى مثالا) لا يمكن أن يتكرر فـ «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ»؟ (الآية 134 سورة البقرة) 
لنفترض جدلا أن التاريخ يعيد نفسه وأنّه باستطاعتنا استخراج أوجه الشبه بين ما نعيشه اليوم وبين أحداث الفتنة الكبرى، فمن سيكون في حالتنا هذه علي ومن سيكون عائشة وطلحة والزّبير؟
-----------
-  طالب
yacine.benyahia@gmail.com