في العمق

بقلم
لسعد الماجري
من الوحي إلى القرآن(أومسألة جمع القرآن)
 إن الهدف من هذا المقال هو الاستمرار في تبيان المسار التكويني للقرآن الكريم فلقد تعرضنا في مقالات سابقة إلى التسميات المختلفة في الزمان للقرآن من ذكر إلى تذكرة إلى حديث إلى قرآن ثم إلى كتاب تباهي به أمة الإسلام الأمم الأخرى من أهل الكتاب. وتحدّثنا عن أن الوحي كان لصيقا بالتاريخ أي بالواقع وبالظروف التي يتنزّل فيها مطابقا ومستجيبا لحيثيات هذا الواقع وتلك الظروف. ثم ألمحنا فيما سبق إلى أن الدراسة التكوينية للقرآن الكريم لها أهداف خاصة بالمجال العربي والإسلامي تختلف فيها عن الدراسة التكوينية التي قام بها مفكرون وباحثون غربيون في كتبهم من أناجيل وتوراة والتي ذهبوا فيها إلى حد اكتشاف مدى التحريف الذي نال من نصاعة كتبهم عبر أزمنة كتابتها. ولقد تطرقنا بإسهاب إلى أن كتابنا العظيم القرآن الكريم يختلف كثيرا عن الكتب الأخرى من نواح مختلفة كمدّة وطريقة جمعه وكتابته وكيفية قراءته وترتيله ومناهج تفسيره وكيف أن الله عز وجلّ تكفّل بحمايته من الزيغ والبطلان. واليوم نتطرّق بإذن من الله وتوفيقه إلى مسألة على غاية من الأهمية وهي مسألة جمع القرآن والتي تفسّر طريقة تحوّل الوحي إلى نصّ مكتوب ضمن الرسم العثماني الذي هو عليه الآن.  
1.طريقة الجمع حازمة علميا
اٍنّه من الثابت تاريخيا في هذه المسألة أنها اتخذت شكلا أكثر حزما في ظل الحضارة الإسلامية على عكس ما حدث عند الأمم الأخرى أصحاب التوراة أو الأناجيل. ولعلّ تكفّل الله تعالى بحفظ المصادر من الضّياع والنسيان قد أكدته الأحداث التاريخية وما انتهى إليه النص المصدر أي الوحي المنزّل إلى الكتاب القرآن الذي بين أيدينا.
«لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه» – سورة القيامة الآيات 16 و 17.
«بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ»- سورة البروج الآيات 21 و 22.
 إنّ الثابت أصلا أن الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلّم) كان قد اعتمد كتّابا خاصّين به وذلك حرصا منه على حفظ القرآن بالكتابة من الضّياع بعد أن كان موزّعا على صدور الرّجال حفظا. تذكر الروايات أنه كان من بين كتّاب الوحي, أبو بكر وعمر وعلي ابن أبي طالب وأبان ابن سعيد، وأبي ابن كعب، وزيد ابن ثابت، وثابت ابن قيس، وعبد الله ابن مسعود وغيرهم. ويبدو أن المنقطعين الأوائل لكتابة الوحي هم أربعة : عبد الله ابن مسعود  وسالم  ومعاذ  وأبي ابن كعب. وكانت العملية تقوم تحت الإشراف الشخصي للنبي (صلى الله عليه وسلّم) ومراقبته. 
1.1.المرحلة التاريخية الأولى : عملية الجمع مادية
إن عملية جمع القرآن ابتدأت تاريخيا في فترة خلافة أبي بكر وليس أيّام عثمان رضي الله عنهما. إن من الواجب تبيان أن في خلافة أبي بكر لم يكن إلّا جمعا ماديا أي جمع كل ما تمكن جمعه من عند الصحابة حفّاظ الوحي. فهناك روايات عدة وأهمها ما جاء على يد البخاري في صحيحه ولقد أورد هنالك بابا كاملا عن جمع القرآن رواية عن الصحابي زيد ابن ثابت أشهر حفّاظ الوحي أنه قال فيها أن أبا بكر أرسل له بعد معركة اليمامة وهي معركة كبيرة قتل فيها مسيلمة الكذاب قائد الرّدة وكان أبو بكر هو من حارب هذه الرّدة من جزء من المحسوبين على الإسلام والذين ارتدّوا بعد رحيل الرسول (ص) إلى الرفيق الأعلى .لقد كان أبو بكر رضي الله عنه حينئذ آخذ بنصيحة عمر ابن الخطاب وخشية انقراض حفّاظ الوحي بعد أن استشهد منهم عدد لا بأس به في معركة اليمامة، فطلب أبو بكر من زيد ابن ثابت أن يجمع الصحف التي كتب فيها القرآن من جميع قرّاء الوحي قائلا له: «اٍنّك رجل شاب عاقل لا نتّهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله (ص)- فتتبّع القرآن فاجمعه». قال فتتبّعته أجمعه من السعف واللخاف والورق وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره. ثم يقول فكانت الصحف التي جمعت عند أبي بكر إلى أن توفاه الله ثم من بعده عند عمر ابن الخطاب ثم عند ابنته حفصة بعد مماته».
2.1.المرحلة التاريخية الثانية : عملية الجمع غير مادية
 ثم في زمن عثمان تأخذ عملية الجمع منحى غير مادي وإنما منحى تنظيمي ترتيبي حيث تذكر لنا المصادر نفسها أي البخاري في صحيحه أنه زمن عثمان وهو بصدد إعداد الجيش المسلم لفتح أذربيجان وأرمينية قدم عليه حذيفة ابن اليمان وقال له : «يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى» وهو أي حذيفة لم يعجبه ما رآه من المجنّدين العراقيين والشاميّين وتناحرهم في إثبات كل واحد منهم أن قراءته للقرآن هي الأصح. فأرسل عثمان رضي الله عنه إلى حفصة بنت عمر طالبا منها أن تعطيه كل النسخ التي تجمعت عندها ليجعل منها نسخة واحدة. ثم كلّف كلا من زيد ابن ثابت أشهر كتّاب الوحي وسعيد ابن العاص وعبد الله ابن الزبير وعبد الرحمان ابن الحارث فنسخوها في المصاحف. وكان عثمان قد أوصاهم بأن يكتبوا بلسان قريش في حالة وقوع أي اختلاف في نقلها مستندا إلى أن القرآن عندما نزل على الرسول الكريم إنما نزل بلسان قريش وليس بلسان قوم آخرين. فلمّا أتم هؤلاء الرجال عملهم على أحسن وجه وجمعوه في مصحف واحد أرجع عثمان الصحف الأصلية إلى حفصة بنت عمر ونسخ الكثير من ذلك المصحف الواحد الذي أسماه المصحف الإمام وأرسل منه إلى كل البلدان والأمصار وأمر بحرق ما خلافه.
2.أدوات جمع القرآن
لقد كان رسولنا الكريم يقرؤهم ما ينزل عليه من الوحي تباعا فيكتبونه على أدوات متنوّعة كانت متوفرة آنذاك من رقاع وقطع من الأديم ومن عسب ولخاف وعظام الأكتاف والأضلاع للحيوانات وكذلك في أحيان أخرى من الورق وكان هؤلاء الكتّاب الذين اختصهم الرسول الكريم بهذه المهمة السّامية والذين كان لهم الفضل في وصول القرآن إلينا منزّها من كل التشويهات يحتفظون بما كتبوه ويراكمونه كلاّ على حدة كلّ حسب طريقته الخاصة ولم تكن هناك طريقة واحدة موحّدة يتّبعونها في التراكم والمحافظة على ما كتبوه. إلّا أنه من الثابت أيضا أن الرسول كان يتدخّل بنفسه ويبيّن للكتّاب أين يجب وضع تلك الآية من تلك السورة. فاستنادا إلى حديث الترمذي عن عثمان جاء فيه : «كان الرسول (صلى الله عليه وسلّم) مما يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه شيء دعا بعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا» : مثلا : السورة التي تذكر فيها البقرة أو المائدة أو هود ...الخ. فسميت هذه السور بتلك الأسماء التي ذكرت فيها.  وفي مثل هذا الإطار يتنزل قول زيد ابن ثابت الأنصاري أشهر كتاب الوحي : «كنا عند رسول الله نؤلف القرآن من الرقاع».
3.حول اٍمكانية النقصان عند الجمع
 وبالرغم من أن المصادر التاريخية المتنوعة من علماء الإسلام والمفسرين ورواة حديث (انظر المراجع للقرطبي والطبري والمسعودي أسفله) وغيرهم يعترفون بأن ثمة آيات قد تكون سقطت بفعل عملية النقل من الصحف المتعددة التي كانت بأيدي كتّاب وحفّاظ الوحي أو رفعت كما قال بعضهم  ولم تدرج في المصحف. فذلك حسب رأينا لا يعزو أن يكون جدّ قليل اٍن ثبت فعلا وطبيعي جدا حسب رأينا في عملية معقدة جدّا من الجمع من صحف متعددة أن تسقط أجزاء طفيفة لسبب أو لآخر كموت كاتب للوحي أو مرضه أو سفره حين عملية الجمع أو على العكس من ذلك لأن الله أراد ذلك استنادا إلى قوله تعالى : «ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير» .فالنقصان خير من الزيادة.
وفي هذا الإطار يمكن أن نسوق بعض الأمثلة التي ذكرت في المصادر التاريخية السابقة (انظر المراجع للقرطبي والطبري والمسعودي أسفله) على بعض السور التي سقطت منها بعض الآيات قي عملية النقل مثل سورة الأحزاب التي كانت تعادل سورة البقرة حسب الروايات. فالقرطبي في تفسيره يذكر أن سورة الأحزاب مدنية نزلت في المنافقين اللذين كانوا يؤذون رسول الله ويطعنون فيه وغير ذلك وهي 73 آية على ما وصلتنا وكانت تعدل سورة البقرة التي تحتوي على 286 آية وهذا حسب القرطبي رواه أبي ابن كعب أحد كتّاب الوحي وجامعي القرآن ويقول الإمام القرطبي رضي الله عنه : «وهذا يحمله أهل العلم على أن الله تعالى رفع من سورة الأحزاب إليه ما يزيد على ما في أيدينا (منها) وأن آية الرجم رفع لفظها» ويذكر القرطبي أيضا رواية عن عائشة زوج الرسول رضي الله عنها أنها قالت : «كانت سورة الأحزاب تعدل على عهد الرسول الكريم 200 آية فلما كتب المصحف لم يقدر منها إلا على ما هي عليه الآن».
وفي نفس هذا السياق لم يتبق من سورة براءة اٍلّا ربعها  الى غير ذلك من الأمثلة الأخرى التي تذهب اٍلى أن هناك آيات قد رفعت أو أنسيت أو سقطت من النقل في المصحف العثماني الذي هو بين أيدينا الآن.
ولقد روى الطبري في تفسيره عن الحسن أنه قال في قوله تعالى :»ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها. ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير»- سورة البقرة 106. قال : اٍن نبيكم (صلى الله عليه وسلّم) أقرئ قرآنا ثم نسيه فلا يكن شيأ. ومن القرآن ما قد نسخ وأنتم تقرؤونه وفي لفظ آخر : «قال: اٍن نبيكم (صلى الله عليه وسلّم) قرأ علينا قرآنا ثم نسيه». وعن ابن عباس قال : «كان مما ينزل على النبي (صلى الله عليه وسلّم) الوحي بالليل وينساه بالنهار فأنزل الله الآية :»ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها. ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير».هذا ويعلّل بعض علماء الاٍسلام من أهل السنة ظاهرة سقوط بعض آيات من القرآن الكريم بكونها داخلة في معنى النسخ. غير أن علماء آخرين أنكروا أن يكون ذلك من النسخ وقالوا أن ما ذكر من ظاهرة النقصان لا يعزو أن يكون خبر آحاد والقرآن لا يثبت بها واٍنما يثبت بالتواتر.
4.قي القبول علميا بفرضية مبدأ النقصان
ونستخلص من كل ما قيل أنه ليس هناك أي دليل قطعي على حدوث أي زيادة أو نقصان في القرآن كما ورد علينا في المصحف العثماني منذ الجمع. أما قبل ذلك فالقرآن كان موزعا بين صحف كثيرة وفي صدور الرجال من الحفظة وطبيعي جدا أن ما كان يتوفر عليه ذاك الصحابي يختلف عن غيره كمّا وترتيبا وطبيعي أن يحدث بعض النقصان اٍن ثبت بالتحقيق حين جمعه زمن عثمان أو من قبل زمن أبي بكر وعمر فالناس الذين قاموا بالعملية رغم صرامتهم وحزمهم ليسوا معصومين من الخطأ وقد وقع بالفعل تدارك بعض النقص. وهذا لا يتعارض مع الآية الكريمة التي تقول : «اٍنّا نحن نزّلنا الذكر واٍنّا له لحافظون»
 ولعل الآيات الكريمة التالية تلقي ضوءا على هذا الشيء فتجعلنا نتفهم ونتقبل هذه المسألة دون عناء. فالقرآن نفسه يتقبل مسألة حصول النقص :
«سنقرءك فلا تنسى الا ما شاء الله» سورة الأعلى رقم 6-7 وهذا يثبت أن الله قد يكون شاء أن تنسى بعض الآيات.
«وما أرسلنا من قبلك من رسول أو نبي الا اذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم». سورة الحج 52.
« وما كان لرسول أن يأتي بآية الا باذن الله لكل أجل كتاب. يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب». سورة الرعد 38 و 39.
5.قي عدم توفر مبدأ الاجماع على النقصان
إن كل ما تثبته المصادر التاريخية يؤكد بما لا يدع مجالا للشك على صدقيّة كتابنا العزيز فكل ما جمع في الكتاب ضمن الرسم العثماني الذي بين أيدينا الآن لم يقع تغييره أو تبديله لا ضمن المباني ولا ضمن المعاني. وهذا لا يختلف فيه اثنان. أما قبل عملية الجمع فلا يمكن أن نصادر علميا فرضية أن تكون بعض الآيات التي نزلت وحيا قد تكون لم تصل إلى حالة الجمع ضمن الكتاب وهذا رغم عدم الإجماع حوله تحقيقا فالآراء داخل العلماء المسلمين من السنة مختلفة منها من تقول بالنقصان ومنها من ترفض القول به. ونحن هنا نأخذ العصا من الوسط ولا نقول بالنقصان فعلا وإنما لا نصادر الحق العلمي في البحث والتدقيق والتحقيق ضمن المجال العلمي القرآني من أهل الاختصاص والبحث التاريخي والتقصي من أجل البت في مثل هذه الأمور ونقول وحتى في حالة حدوث بعض من النقصان فلن يعزو أن يكون ذلك نادرا ولا يمسّ من جوهر القرآن بشيء. فالكتاب يقيّم ضمن خاصيتين علميتين وهما:
1- عدم التناقض في المعاني بين الآيات التي في جنبات هذا الكتاب.
2- التكامل في المباني والألفاظ ضمن صيرورة نزول الآيات حسب الترتيب الزمني للنزول.
وبالرجوع إلى هذين الخاصيتين يكون القرآن الكريم كتابا لم يأته الباطل من بين يديه ولا من خلفه وتكون الدراسة التكوينية لمسألة جمع القرآن تأكيدا آخر على خلوه من التحريف.
المراجع المعتمدة:
(1) مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة. جمعها محمد حميد الله. طبعة 5- بيروت. دار النفائس.1975.
(2) المسعودي أبو الحسن علي ابن حسين.مروج الذهب ومعادن الجوهر. تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد. طبعة 4. القاهرة : المكتبة التجارية الكبرى. 1964-1965. الجزء الرابع في المجموعة الثانية.
(3) الطبري أبو جعفر محمد ابن جرير. تاريخ الطبري : تاريخ الأمم والملوك. طبعة 2- بيروت. دار الكتب العلمية. 1977. المجموعة السادسة.
(4) القرطبي أبو عبد الله محمد ابن أحمد. تفسير القرطبي
(5) رضا محمد رشيد. الوحي المحمدي
الجابري محمد عابد. بنية العقل العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية. الطبعة 8. بيروت مركز دراسات الوحدة العربية. 2004 (نقد العقل العربي 2)
------
- أستاذ  جامعي في الاٍعلامية الصناعية
وتواصل الاٍنسان والآلة 
mejrilassad@yahoo.fr