لقاءات

بقلم
التحرير الإصلاح
الدكتور احميده النيفر في حوار شامــل مع «الإصلاح» (الجزء الأول)
 الجلوس إليه متعة ومحاورته تجعلك تتمنى أن تتحرك عقارب الساعة ببطئ شديد بل لعلّك تريدها أن تتوقف ليتوقف الزمن حتّى لا ينتهي اللقاء. تبحر عبر إجاباته بين ثنايا الماضي والحاضر وتستشرف المستقبل من خلال ما يطرحه من أفكار. إنه الدكتور «احميده النيفر» المفكر التونسي والأستاذ الجامعي المتخصّص في أصول الدين والفكر الإسلامي المعاصر. سيرته الذاتية دسمة لا يمكن أن نستعرضها في مقدّمة هذا الحوار ولهذا ارتأينا أن نخصّص لها مساحة لاستعراضها مفصّلة على أعمدة مجلّة «الإصلاح» بعد الانتهاء من نشر الأجزاء الثلاثة من الحوار . تطرقنا مع الدكتور احميده في الجزء الأول من الحوار إلى ظروف نشأة الجماعة الإسلاميّة في تونس وعلاقتها بالإخوان وبعلماء جامع الزيتونة المعمور ثم إلى ملابسات مغادرته وثلّة من إخوانه الجماعة في السبعينات ليؤسس الإسلاميين التقدّمين ويصدر مجلّة 15*21 وفي الأخير عن توقف التجربة الجديدة وأسباب ذلك .
كنتم من بين المؤسسين للجماعة الإسلامية في بداية السبعينات ...ماذا كانت أهدافكم وفي ما كنتم تفكّرون؟ 
في الحقيقة كان لدينا اهتمام بجانبين اثنين، الأول الجانب التعبّدي وهدفنا الأساسي كان الإجابة على السؤال التالي:«كيف نعيد للمسجد والخطاب الديني مكانته؟». والجانب الثانـــي يتصـــل بالمجـــال  السلوكـــي بالبحث عن جواب للسؤال التالي:« كيف يمكن أن نعيد للفرد التونسي سيرته المتزنة والمتخلقة ..؟» ولهذا كان اهتمامنا كبيرا بقضايا التربية والأخلاق ومقاومة الميوعة والسلوك المبتذل المتفشي آن ذاك داخل المجتمع. كان عملنا دعويا صرفا من دون تخطيط دقيق أو مشروع واضح المعالم.
إذا لم يكن لديكم في البداية هاجس التّنظم وفكرة بناء تنظيم للعمل الإسلامي على شاكلة تنظيم الإخوان المسلمين في مصر؟
صحيح ... فكرة التنظيم جاءت من بعد لم نكن في البداية نعرف عن الإخوان المسلمين إلا كونهم ابتلوا بالسجون ومورس عليهم التعذيب الوحشي. ولم تكن العلاقة معهم فكرية ولا تنظيمية ويمكن الرجوع إلى الأعداد الأولى من مجلة المعرفة التي بدأت تصدر في 1972 سوف لن تجدوا نصوصا تتحدث عن الفكر الإخواني بتاتا ...فقط كان هناك تعاطف شبه فردي مع إخوة تعذّبوا وسجنوا وصمدوا في سجون عبد الناصر. ومع حلول سنة 1974 طرح موضوع التنظيم والعلاقة بالإخوان المسلمين لأول مرة.
قبل الحديث عن العلاقة بالإخوان ، هل يمكن أن نقول أن حراككم في تلك الفترة كان له علاقة بالزيتونة أم لا؟
إرجاع المسجد والخطاب الديني إلى مكانتهما كان هدفنا ولم يكن من الممكن تحقيقه بتجاهل المؤسسة الزيتونة ومشايخها. زد على ذلك أن الشيخ عبد الفتاح مورو الذي هو أول من بدأ بالنشاط (ثمّ التحق به الأستاذ راشد الغنوشي سنة 68-69 بعد عودته من فرنسا ثم التحقت أنا بهما سنة  1970)، كان زيتونيا وكان يرافق الشيخ أحمد بن ميلاد والشيخ العربي العنابي والشيخ محمد الأخوة ويحضر دروسهم ويزورهم في بيوتهم. وكان مغرما بالطريقة المدنية وبالتصوف وبشيوخ الزيتونة. أنا لم يكن لدي علاقة بالفكر الإخواني، بل بالعكس كان لدي توجه قوميّ وكنت أعتبر الإخوان خطرا على التيار القومي وأنه يهدّد فكرة الوحدة العربية التي كان يتزعّمها جمال عبد الناصر.
الأستاذ الشيخ راشد الغنوشي كانت له علاقات فكرية بالإخوان لكنه لم يكن إخوانيّا تماما. النواة الأولى المؤسسة للجماعة الإسلامية ( مورو والغنوشي وشخصي) لم يكن يهيمن عليهم الخط الإخواني أبدا وفي المقابل كانت علاقتها بالزيتونيين مؤكدة . من بين هؤلاء نذكر الشيخ الزغواني الذي كان كثير النشاط وكان يقدم دروسا بصفة تقليدية بالمسجد وكذلك الشيح حسن الخياري والشيخ أحمد بن الميلاد والشيخ محمد صالح النيفر والشيخ الشاذلي النيفر والشيخ الهادي بالحاج والشيخ الخطوي والشيخ الحبيب المستاوي والشيخ عبد القادر سلامة (صاحب رخصة مجلة المعرفة) والشيخ الشاذلي بلقاضي الذي كان يقدم لنا دروسا عن التوحيد والفقه ومواضيع أخرى في رحاب جامع الزيتونة كل يوم أحد وكنا نحضر له منذ الصباح. لم يكن هناك قطيعة مع مدرسة شيوخ الزيتونة، كان لدينا عليها بعض المؤاخذات والملاحظات حول طريقة التعليم التلقينيّة والاعتماد على بعض المراجع المعينة دون سواها.  
لنعد إلى الإخوان المسلمين،  متي بدأت العلاقة معهم ؟
كما سبق وذكرت لم تكن العلاقة مع تنظيم الإخوان المسلمين من أولوياتنا في الجماعة الإسلامية ولم تكن مسألة مطلوبة لأن الدوافع المحلية في تونس كانت في تلك المرحلة تغنينا عن الانتظام الإخواني. أول الاتصالات الرسمية مع الإخوان المسلمين كانت خلال  سنة 1974 حين كنت نائبا للأستاذ  راشد الغنوشي وجاءتنا دعوة من جماعة الإخوان المسلمين لزيارتهم في مصر. فلما تعذّر على الأستاذ راشد، تمّ ترشيحي للقيام بالزيارة وكنت مصحوبا بالمرحوم محفوظ النحناح من الجزائر وكان المطلوب مني أن أتعرف على حركة الإخوان وأقدّم تقريرا للجماعة عند عودتي.
في الحقيقة لم يعجبني ما شاهدت خلال زيارتي وما عاينته لم يكن إيجابيا. كان لنا لقاء مع مجموعة من الإخوان في مقر مجلّة «الدعوة» الناطقة بلسان الإخوان من بينهم المرحوم عمر التلمساني  وكان آنذاك رئيس تحريرها وقد استغربت لطبيعة أجوبته عن أسئلة طرحتها عليه تتعلق بتحليل الوضع الداخلي وتقييم الوضع السياسي بمصر والإشكاليات المطروحة وكذلك الوضع الدولي. لم يكن يقدم أجوبة مبنية على مواقف وتحاليل عميقة بل كان يجيب ببساطة مطلقة مكتفيا بسرد ما كان يحفظه من نصوص للشهيد حسن البنا. شعرت من خلال الأجوبة أن المجتمع الذي يعيش فيه الإخوان لم يكن مجتمعهم، هناك نوع من القطيعة والاحتياط والحذر والتوجس من المجتمع بل أكاد أقول الخوف منه. كما شعرت بأن الذين جلست إليهم هم عناصر للتنفيذ وليس للتفكير وهذا أقلقني كثيرا لأنني كنت أريد أن أعرف كيف يفكرون وكيف يقيمون أوضاعهم.
 وبعد 4 أو 5 أيام من الزيارة تمت دعوتنا للقاء بالمرشد العام للجماعة فسألتهم من يكون فرفضوا ذكر الاسم وقالوا ستكتشفونه عندما نحملكم إليه فكان أن رفضت الذهاب معهم في حين وافق «محفوظ نحناح» على الذهاب معهم وقال لي بالحرف الواحد « وضعيتنا في الجزائر مختلفة عن وضعيتكم ولابدّ لنا من سند،  فالفرونكفونية قوية و منتشرة في الجزائر والهيمنة الأجنبية موجودة بشكل كبير ولا يمكن تأسيس حركة إسلامية من دون سند، وإن طلبوا مني البيعة سأبايع» 
كان في ذهن الإخوان أننا جئنا لمصر للبيعة والتعبير عن ولائنا للتنظيم ولكن الهدف بالنسبة إلي كان مختلفا. وعندما عدت إلى تونس أخبرت الإخوة في الجماعة بما حدث ولم يصدر عنهم أي نقد أو استنكار يذكر وهو ما يؤكد أن مسألة العلاقة بتنظيم الإخوان والولاء لهم لم يكن مطروحا داخل الجماعة في تونس.
لكن هناك من يقول أن العديد من قيادات الجماعة الإسلامية كانت منخرطة في تنظيم الإخوان المسلمين؟ هل يعني هذا أنهم منخرطون بصفة شخصية وأنتم لا تعلمون؟
قد يكون ذلك صحيحا، العمل التنظيمي في تلك الفترة هو عمل سرّي وكل عمل سرّي لا يمكن التحكم فيه بشكل كامل وليس لديك القدرة لضبط كل شيء، فقد يكون هناك من انتمى لتنظيم الإخوان المسلمين وكتم عنّا ذلك. ونحن كمسؤولين لم يكن لدينا القدرة على مراقبة كل شيء وهذا من أخطار العمل السرّي...
إذا متى أصبحت مشكلة العلاقة مع الإخوان مطروحة بصفة واضحة ومؤثرة ؟ 
كان ذلك في سنوات 77 و78 عندما أصبح للجماعة أعضاء انتقلوا من المعاهد الثانوية إلى الجامعــة .. وجدوا أنفسهم فــي وضعية صعبـــة بتكوين دينــي فيه كثير من «الترميــق»    BRICOLAGE   وهو خليط بين التصوف والأفكــار الزيتونيــة وشيء من حركة التبليغ ومقولات بعض  المفكرين كمالك بن نبي وأبي الأعلى المودودي. لم يكن بمقدور أبناء الجماعة الإسلامية بمثــل هذا التكوين مواجهة الفكر الماركسي الذي كان لديه حضور وخبرة كبيرة في العمل الجامعــي .. حينها طرح موضــوع البناء الفكري واقترح  اعتماد البناء الإخواني كمرجــع. وكان هناك اختلاف حقيقي حول الموضوع انتقل من الحوارات الداخلية إلى أعمدة مجلة المعرفــة وكنت بحكم رئاستي لهيئة التحرير قد كتبت مجموعة من المقالات تحت عنوان «من أين نبدأ؟» وبعض الافتتاحيات تساءلت فيها عن جدوى اعتماد الفكر الإخواني في عملية البناء الفكري لمناضلي الحركة. كان واضحا أن خط تحرير مجلّة المعرفة في ذلك الوقت غير مقبول لبعض العناصر داخل الحركة وقد تطور الخلاف إلى درجة أنني فوجئت بحذف جزء من إحدى افتتاحيات المجلة قبل نشرها دون علمي (فقرة حول فكر البنا).
لتطويق الخلاف طلــب منــي الأستاذ راشد الغنوشـــي أن أعدّ نموذجـــا لطريقة تكوين إطارات الحركـــة مختلفا عن نموذج الإخوان المسلميــن، فأعددت كتيبا صغيــرا يحتوي على مجموعــة من النصــوص تراعي الانتمــاء الإسلامي للمستفيد وتجعله في نفس الوقت منفتحــا على عصــره. لكن هذا المقتــرح تمّ رفضه من طرف قيادة الحركة بتعلّة أنها تريد توفير تكوين لعناصرها لا يشتمــل على  شبهات ومراجعات لأن ذلك من شأنه أن يخلـــق اهتــزازات ومشاكل وبالتالــي لا تنتج شخصيــة حركيــة متماسكة ومتّحدة.
لو تتفضلون بتذكيرنا برؤيتكم للموضوع آن ذاك ؟ 
قلت آن ذاك أننا نعيش في واقع تونس مختلف ولنا خصوصيتنا التي نعمل بها ولحركة الإخوان خصوصيتها وأن عدم الارتباط بها لا يعني إعلان الحرب عليها. دعوت إلى دراسة التجربة التونسية الحديثة ومعرفة خلفيتها الفكرية التي بدأت مع التجربة الإصلاحية قبل الاستعمار وأثناءه وكنت واثقا من أن مثل هذه الدراسة ستجعلنا نعي أن اعتماد المنهج الإخواني قد يصلح على المدى القريب لكنه لا يفيد على المدى المتوسط والبعيد. الخط الإخواني هو خط قائم على بناء جماعة معزولة عن مجتمعها وعلى ارتباط تامّ مع الشرق، هذا المعنى التنميطي ليس له حظوظ كبيرة في النجاح في واقعنا التونسي. لأن الفكر التونسي فكرنقدي ومفتوح يطرح المسائل على أكثر من وجه ويرفض أن يكون منمّطا باستمرار. الوجهة الفكرية في تونس لم ترتبط بصفة تامّة مع الشرق بل كانت تبحث دائما عن الخصوصية المميزة دون فك الارتباط به.
إذا كيف حسم الأمر؟
لحسم الموضوع داخل الجماعة انعقد في صائفة 1978  لقاء بضيعة الشيخ عبد القــادر سلامـــة بجهة مرناق حضره عدد يتجاوز الثلاثيـــن أذكر منهم الأستاذ راشد الغنوشي والشيخ عبد الفتاح مــــورو والمرحوم صالــح كركر والحبيب ريحان وزياد الدولاتلـــي وعبد القادر الجديدي. وقدّمت مقترحي لكنّه لم يلق صدى كبيـــرا لدى المجموعة الحاضرة ما عدى بعض الأشخـــاص أذكر من بينهم الحبيب ريحان. وقد أبدى الآخرون حرصــا شديــــدا على الانضــواء تحت مظلّة الفكـــر الإخوانـــي ربمـــا لمقتضيـــات المرحلـــة التــــي لا تسمح بالقراءات النقدية وطرح الإشكاليات وإنما تتطلب فكـــرة واضحة وموقفا محددا من المجتمع ليوفر الحصانة للمجموعـــة وبالتالي يمتثلون للتنظيــم.
أخذت الأمور منحى لم أقبل به فانسحبت من مجلة المعرفة ومن رئاسة تحريرها وتسلّم الأخ صلاح الدين الجورشي رئاسة التحرير لمدة قصيرة ( 3 أعداد )  ثم انسحب هو الآخر وانطلقت عملية الفرز داخل التنظيم. 
كانت المجموعة التي تتبنى نفس المنهج الذي اقترحته  متواجدة  أساسا في العاصمة (المركز الرئيسي) ومشرفة على العمل التلمذي والجامعي (أذكر منهم لطفي غربال والمرحوم منصف القلعي ومنصف دريرة ونجيب العرفاوي وزياد كريشان والهادي بن رمضان وتوفيق بالرحومة ومالك كفيف وفتحي التوزري ومنير المجدوب والحسني العكرمي والهادي المناعي) فتمّ استبعاد هذه المجموعة القيادة وتعويضها بالمرحوم صالح كركر بمعية الحبيب المكني الذي أسندت إليه رئاسة مجلّة المعرفة. ويمكن لأي شخص استخراج الخط الفكري الذي سيطر آن ذاك على الجماعة الإسلامية من خلال الاطلاع على مضامين أعداد مجلّة المعرفة في تلك الفترة.
بعد خروجكم من الحركة الإسلامية أسستم مجموعة الإسلاميين التقدميين ؟ فهل كانت لديكم علاقة فكرية مع ما يسمى باليسار الإسلامي في مصر؟ 
ليس بصفة مباشرة، فبين خروجنا من الجماعة وتأسيسنا مجلة 15*21 كان هناك على الأقل سنتان أو ثلاثة،  فمسألة ظهور الإسلاميين التقدميين لم تحدث بصفة فورية. كنا نجتمع لمناقشة قراءاتنا للعديد من إنتاجات المفكرين العلمانيين ومجلة المسلم المعاصر وكتابات الدكتور حسن حنفي  ثم أصدرنا ما اتفقنا عليه من رؤى في شكل رسائل اهتمت كل واحدة منها بمجال (مدخل نظري- المسالة الثقافية - المسألة التربوية - المسألة السياسية-  الاجتماعية) وكانت هذه الرؤى ثمرة نقاشات فكرية هامة وطويلة.. في نفس الوقت كانت هناك مساع من بعض أطراف داخل الاتجاه الإسلامي لرتق الخلاف وعودة وحدة الصف... وبرزت آنذاك فكرة تأسيس منابر أو تيارات داخل الحركة لمنع الانشقاقات والانقسامات لكن تلك المساعي ذهبت أدراج الرياح ولم تحقق أهدافها.
ظهر إثر ذلك ما يسمى بالإسلاميين التقدميين. لم نستعمل نفس الاسم الذي طرحه حسن حنفي بالرغم من أننا كنا متفاعلين كثيرا مع ما يطرحه من أفكار ورؤى وكنا نؤمن بأن الخطاب الديني يجب أن يكون مرتبطا بالواقع الفكري والاجتماعي وبتحوّلاته. استعملنا مصطلح «التقدمي» لأننا رأينا أنه من الضروري التأكيد على فكرة التقدّم لأن التاريخ يصنع ولا يعاد إنتاجه. هذا المعنى حرصنا عليه لارتباطه بالفكرة التونسية بل المغاربية. لأنك إذا أخذت تاريخ المغرب الإسلامي إلى حدود الأندلس ستجد أنه مرتبط بالشرق الإسلامي لكنك ستجد دائما الإضافة المغاربية ذات النزوع التحليلي العقلاني.
من خلال التسمية أردنا أن نذكّر بأن التقدّم هي قيمة أساسيّة، يمكن أن تستوعب فكرة اليسار لكن الأهم من ذلك أنها تلغي فكرة أن التاريخ فيه تكرار بما يركز قيمة الإنسان فيما يحققه بذاته  وبما يفعله.. قيمة «التقدم» تتضمن أيضا مسألة الصراع التاريخي الذي يصنع قيما جديدة وأنه لا توجد حلول جاهزة نستخرجها من تراثنا بل الحلول تختلف من زمان إلى آخر وإذا لا نفهم هذا لا يمكن أن نصنع التاريخ.
أردنا ايضا أن نثبت أنه ليس لدينا مشكلة مع الغرب فهو جزء من الحضارة الإنسانية رغم أنه لدينا مشكلة مع السياسات الغربية الاستعمارية والفرق بين الأمرين شاسع لذلك فإنه يتوجب علينا عوض أن نعلن الحرب على الغرب أن نبحث عن صيغة لبناء جسر للعلاقة بين نسقين ثقافيين، بين القرن الخامس عشر الهجري والقرن العشرين  ومن سيوشك أن يحل محله (الحادي والعشرين) أي بين خصوصيتنا الأصيلة ثقافيا وبين السياق العالمي والفكر الإنساني. ولهذا جاءت تسمية مجلّة 15*21
الإسلاميون التقدمون كان لهم دور كبير في الساحة الإسلامية خاصة بعد إصدار مجلة 15*21 فلماذا توقفت المجلة ولماذا تشتت الإسلاميون التقدميون؟
كان الانشقاق عن الحركة الأم عملية فيها مغامرة كبيرة لأن كل مجموعة تصنع  قطيعة مع المؤسسة الأم التي احتضنتها وولدتها تبقى لفترة ممتدة تعاني من الإجابة على السؤال هل أن الاختيار الذي أخذته هو الأنسب أم لا؟ 
بالنسبة إلى الإسلاميين التقدميين المشكلة مزدوجة تتلخص: أولا،  في الخوف من أن يكون اختيار الانسحاب من الحركة الأم غير صائب وأن الأجدر كان البقاء ومحاولة التغيير من الدّاخل، وثانيا الخوف من عدم القدرة على بناء فكر إسلامي جديد ومختلف نوعيا عن الموجود ..
فالمسألة ليست مسألة تنظيمية فقط لأن البناء الذي كنّا نريد إنجازه يجسد رؤية وفكرا جديدين وهذه ليست عملية معدّة مسبقا بل هي عملية تتطلب عملا شاقا ووقتا وكفاءات ونفسا طويلا وصبرا كبيرا وهي سباحة ضد التيار. 
هناك أمر آخر كان أشدّ إرباكا للمشروع التقدّمي وهو أن التوقيت لم يكن مناسبا فالسياق الذي ظهر فيه واكب حملة أمنية شرسة وقمعا مسلّطا على مناضلي الاتجاه الإسلامي .. هذا خلق لنا إحراجا كبيرا فكيف تسمح لنفسك أو لمجموعتك  بطرح تساؤلات عقدية ومنهجية (مثل هل النص القرآني يقرئ بأكثر من وجه؟) وهناك أناس ملاحقون ومطاردون ويحاكمون بصفة تعسفية...هذا يصبح وكأنه نوع من الاستخفاف بالناس ودعم موضوعي للقهر والاستبداد. ولذلك كان المشروع مدعوّا في النهاية ليكون محدودا في مداه وليس مشروعا متكاملا.
 فماذا حدث إذا؟
المشروع توقف بعد فترة قصيرة وأخذ كل شخص لنفسه خطا نقديا وإسهاما خاصا في المراجعات لكن في حدود اهتماماته الخاصة فمن كان مهتما بالمجال الحقوقي انضمّ  إلى الجمعيات الحقوقية الموجودة آنذاك وعلى رأسها الرابطة التونسية لحقوق الإنسان ومن كان يعمل في المجال الجامعي اهتم بالدراسات الأكاديمية ومن كان يأنس في نفسه العمل السياسي التنظيمي التحق بالمجال السياسي الخ...
عملية التركيب التجميعي والتراكم المطلوب لإنشاء رؤية ومشروع رائد تعذر وقوعه بصورة كاملــة ولذلك صدر  22 عددا من  مجلة 15*21 ثم توقفت عن الصدور ... عندما تعود بذاكرتك إلى ما حدث في التسعينات على المستوى الوطني والعربي تفهم أن الوقت لم يكن مناسبا لنجاح التجربة ... ليس برغبتك ولكن الواقع هو من فرض إيقـــاف المشـــروع. على كل الأحوال فقد تبيّن تدريجيــا أن الخروج التظيمي عن « الجماعة» كان هو الحل الأسلم.  
أفهم من إجابتك أن التجربة توقفت ولم يتم بالتالي تأسيس تنظيم الإسلاميين التقدميين ؟
لا يمكن بناء تيار فكري فاعل على أسئلة أو مراجعات فقط. التنظيم يتطلب يقينيّات وليس تساؤلات ومراجعات. موضوعيّا لم يكن من الممكن نجاح التجربة التنظيمية كبناء فكري تجميعي فيه نوع من التراكم فضلا عن قساوة العمل التنظيمي الذي انقطعنا عنه كانت حائلا دون إعادة نفس التجربة  .. لذلك فإنه لم يكن من الممكن في التسعينات أكثر من بعث منتدى تجتمع فيه النخب وتقدم فيه بعض المحاضرات والمراجعات من خلال الخصوصية الإسلامية التي يشترك فيها الإسلامي التقدمي مع الإسلاميين مهما كان الاختلاف و مع غيرهم من الوطنيين.
صحيح أن «الإسلامي التقدّمي» يمتاز بأن له هاجس التساؤل الدّائم والقراءة النقدية، بمعنى أنه حين يقوم بعمل أو يقدم فكرة يلاحقها بالأسئلة، لكن له خصوصية إسلاميّة بمعنى أن له ثوابت أو ما يطلق عليها البوطي رحمه الله باليقينيات الكبرى. ونسبة الثبات واليقينيات لديه أقوى مقارنة بالمراجعات ... 
وجود هذه الخصوصية  في العالم الإسلامي أي الثوابت واليقينيّات هي التي جعلت الغرب يتفطن لأهمية الإسلاميين. وهو يعلم علم اليقين، على عكس نخبنا العلمانية، أن العالم الإسلامي يمثل تحدّ حقيقي له لأنه قادر أن يولد خلفية متماسكة ووحدة في الفكر .... وبالتالي قادر أن يكون رائدا في الحضارة الإنسانية.  
لعلّي أفهم من كلامكم أن الإسلاميين مهما اختلفوا في أفكارهم ومناهجهم وأدوات تحليلهم لهم عناصر مشتركة  تتمثل في الخصوصية الإسلامية التي ذكرتها وهي اليقينيات والثوابت . هل هذه هي نقطة قوتهم؟ 
نعم هناك ثوابت ويقينيات يشترك فيها الإسلاميون التقدميون مع غيرهم من الإسلاميين مهما كان الاختلاف وهذا ما يعطيهم الآن في هذه المرحلة التي تمر بها  الدورة الحضارية، مبررا شرعيا للحكم والحضور ..
في هذه اللحظة التاريخية يمرّ العالم كله بأزمة قيمية وأزمة سياسية واقتصادية ... العالم الإسلامي عنده إمكانيات عديدة ومختلفة للبناء ولديه قواعد ثابتة. خذ مثلا مفهوم التوحيد، إنه يعطيك الإيمان بأنك تقدر أن تبني شيئا موحدا لأن الفكر الإنساني لا يستطيع البناء على التشتّت. فالإدراك الإنساني يتّجه ليصنع شيئا موحّدا بنسق موحّد ... هذا المعنى يصنعه التّوحيد من خلال نظرته للإنسان ونظرته للحياة وللعالم. بينما تتعثّر الأفكار الأخرى التي تفتقد إلى مفهوم التوحيد، أن تصنع ذلك. 
أنا اعتقد أن هناك خصوصية في الخلفيّة والمرجعيّة الإسلامية لا تتوفّر عند الآخرين توفّر حلولا للإنسانيّة بصفة عامّة في المرحلة الحالية التي هي مرحلة أزمة... فبالرغم من وجود التباس كبير في فهم الإسلاميين لكنهم أقدر على تطوير إجابات حقيقية على أسئلة منها ما هو إنساني فردي وجودي ومنها ما هو اجتماعي سياسي يجمع الناس. لهذا نرى أعداء الإنسانية وأعداء العالم الإسلامي يعملون جاهدين على زرع الخلافات لإفشال كل الجهود التشاركية القادرة على التوصل إلى مشروع  وهم يدخلون لتحقيق ذلك من باب الطائفية مثلا ... لكن المشروع الإسلامي ككل ( ثوابت وتاريخ حضاري وكفاءات وطاقات زاخرة و طموحات) لديه إمكانيات للإبداع وهم ما يسميها الحاج حمد  «العطاءات العصورية». 
فالإسلام بإمكانه أن  يتولّد باستمرار. هذا رصيد جدير بتقديم الإجابة عن الأسئلة المختلفة التي ترهق الإنسانية لكنه يحتاج إلى عدة جهود فضلا عن أنه يمكن أن يُخترق أو تهدر امكانياته بمؤامرات، لكن يبقى له نبض أقوى إذا أعيد بناء وعيه الديني والفكري والاجتماعي بصورة فاعلة.
(يتبع)
-------
-  حاوره:  فيصل العش