الإفتتاحيّة

بقلم
فيصل العش
وربّك أعلم بالمفسدين
 لم يعد خافيا على أحد صعوبة المرحلة الحاليّة التي تعيشها بلادنا. ولم يعد خافيا أيضا أن شوكة الفساد  مازالت كما عهدناها في العهد البائد وإن اختلف لبوسها، بل إن البعض يرى أنها تقوّت وأصبحت أكثر صلابة حيث تؤكد المؤشّرات والوقائع والملاحظات الميدانيّة أن الفساد انتشر كما ينتشر السرطان في جسمٍ مريضٍ. ويُرجع بعض العارفين لخفايا الأمور تغلغله وانتشاره إلى تعامل حكومات ما بعد الثورة مع ملفّه حيث لم تتسم مواقفها بالجرأة والحزم مما ترك المجال فسيحا أمام المفسدين ليتدبّروا أمورهم ويعودوا إلى الساحة أقوى من ذي قبل.
تفاقم الفساد في تونس بعد الثورة رغم أن الغضب على فساد الحاكم السابق وحاشيته كان سببا رئيسيا في تفجيرها. فكلّما تقدمت بنا الأيام إلاّ وربح موقعا جديدا، حيث لم يترك بابا إلاّ ولجه ولا ميدانا إلاّ اقتحمه حتّى أصبح واقعا معاشا. لقد استفاد الفسّاد والفاسدون من فترة الفراغ التي عاشتها الدولة والصراعات السياسيّة التي أنهكتها ليعيدوا تشكيل شبكاتهم بما يتماشى مع الواقع الجديد مستعينين في تحقيق ذلك بما وفّرته لهم شبكات الفساد العالميّة من معونات لوجستيّة بالإضافة إلى الدّعم الخفيّ لقوى أجنبيّة كان ولا يزال من مصلحتها إنهاك الدولة ومنع كل محاولة وطنيّة للخروج من الواقع المريض التي كانت عليه.
لقد ترك لنا النظام القديم إرثا «ثقافيا» في مجال الفساد لا مثيل له، تدعّم بغياب سياسة عامّة وشاملة لمكافحته رغم ما يتّسم به خطاب السّياسيين من تركيز على هذه الظاهرة. فتونس تفتقر لمنظومة ذات معايير واضحة لردع الفساد على جميع المستويات القانونية والإدارية والاجتماعية والثقافية بالإضافة إلى عدم وجود قوانين تحمي المبلغين عنه. وأنّا تكون لتونس هذه المنظومة ولم يتمّ تركيز المؤسسات التى ستتولّى وضعها وتنفيذها بعد؟. فإرساء هذه المؤسسات هي  مسالة سياسيّة بامتياز تحتاج إلى الشرعيّة والمشروعيّة والإرادة السّياسيّة الصّادقة وهو ما لم يتحقق إلى حدّ السّاعة، حيث طالت الفترة الانتقالية أكثر من اللّزوم وغابت الإرادة السّياسيّة الجادّة للوقوف أمام تيار الفاسدين.
إلا أن المؤسّسات  قد تكون غير كافية لمحاصرة هذه الظاهرة من مختلف جوانبها وهو ما يتطلب عملا قاعديّا عميقا في قطاعات عدّة كالتربية والثقافة والإعلام يدعّم الثقة بين الرأي العام والمسؤولين ويرسّخ ثقافة المواطنة التي تضمن احترام القوانين وتخلق وعيا لدى المواطن بضرورة التصدّي لظاهرة الفساد وتقوّي حسّ المراقبة لدى التونسيين جميعا. فلا يكفي أن يكون المرء خارج شبكة الفاسدين وإنما المطلوب أن يقوم بالإبلاغ عن أي تجاوز أو فساد يحصل أمامه سواء في الشارع أو المؤسسة التي يعمل بها أو الجمعية التي ينتمي إليها لأن ذلك سيضيّق الخناق على الفاسدين ويحدّ من سهولة تحرّكهم.
إن عملية تفكيك شبكة الفساد يجب أن تكون من أولويات جميع القوى الحيّة في البلاد وخاصّة من يفكّر في الحكم لأن وجود هذه الظاهرة تحدّ من قدرات الدّولة وهيبتها وتخفض نسبة نجاح أي إصلاح اقتصادي أو اجتماعي. ولا يمكن تفكيك شبكاتها إلاّ بوضع إستراتيجية واضحة ودقيقة بالاستعانة بتجارب الآخرين الذين يتصدّرون قائمة الدول الأقل فسادا في العالم وبربط جسور الثقة مع المواطنين عبر مصارحتهم بحقائق الأمور وعدم التستّر على الفاسدين أو العفو عنهم لأن هؤلاء الذين تسترت عليهم حكومات ما بعد الثورة وخاصة حكومتي الغنوشي والسبسي أصبحت لديهم قوة جبارة وأموال طائلة وباستطاعتهم شراء كل شيء بما في ذلك الأحزاب والإعلام والقضاء.
 علينا أن نعي أن المعركة مع الفساد ليست بالهينة وأن عملية إصلاح ما أفسده المخربون طيلة 50 سنة أو أكثر يتطلب التحلّي بالصبر وكثير من التعقّل والتعاون بين الصادقين المخلصين لهذا الوطن.
ويبقى التفاؤل ديدننا والأمل في غد أفضل شعارنا. صحيح أن ملف الفساد فى تونس ظل يراوح مكانه في أغلب الأحيان ويتقدم بخطى بطيئة متعثرة ومبعثرة فى أحيان أخرى لكنّنا نحمد الله على أن بلادنا ليست من الدول العربيّة الخمس التي حلّت بين الدول العشر الأكثر فسادا في العالم وهي الصومال والسودان وليبيا والعراق وسوريا وذلك حسب تقرير منظمة الشفافية الدولية!!!