قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
الابداع في زمن الحرية
 رحل الأديب الكولمبي الكبير وسط اهتمام عالمي برحيله، ولم يكن ماركيز كاتبا عاديا فقد استطاع أن ينحت لنفسه مدرسة أدبية وأن يكتب بأسلوب رائع يكاد أن يكون مزيجا بين النثر والشعر وخاصة في روايته الشهيرة خريف البطرياك. كان أول كاتب من العالم الثالث يحصل على جائزة نوبل للآداب وهو الأديب اليساري ولكن أسلوبه ومدرسته واللغة التي يكتب بها جعلته فى موقع الصدارة غير أن المفارقة حدثت حين رفض أن يتسلم الجائزة.
كان مبدعا ذا حسّ ولكنّه كان ذا موقف أيضا، حتى أنه رفض الكتابة لفترة طويلة معلنا أنه لن يكتب مادام «بينوشيه» يحكم الشيلي وقد أفرد روايات عدّة للحديث عن الديكتاتورية وما تحدثه من أثر في حياة الشعوب. 
لم يكن مركيز الأديب الوحيد الذي نشأ وأبدع زمن الديكتاتورية بل ثمّة مبدعون آخرون كثر لم يستطع القمع خنق أحلامهم ولا منعهم من التعبير عن ذواتهم بالقدر الذي يستطيعون وليس شرطا أن يكون المبدع صداميّا بل إنّ الهدف ليس الصّدام بحدّ ذاته بل مزيد إتاحة الفرصة للكاتب أو المسرحي أو الرّسام حتى يوسع من إمكانات الإبداع المتاحة وأن يساهم في مقاومة الرداءة التي لا يستطيع أي دكتاتور أن يتخلى عن تكريسها. 
المبدعون في مجالات الفنّ والأدب من العرب كثيرون وخاصة في الفترة الممتدة من خمسينات القرن الماضي حتى أواخر القرن بل حتى في  زمن الاستعمار كان هناك مبدعون كثر وتلك مرحلة زمنية سادت فيها أنظمة سياسية قمعية وفاسدة، فهل يحقّ لنا أن نتساءل مثلا إن كانت الحرية شرطا للإبداع  أي بمعني آخر هل يستطيع الإنسان أن يبدع حقا في ظل القمع والدكتاتورية؟
في اعتقادنا ليس شرطا أن يحيا المبدع في فضاء من الحرية لكي يكون إبداعه أرقى، بل إن مبدعين كثرا كانت الحرية همهم الأكبر ولكن توقهم الى الحرية هو ما جعلهم يبدعون وقد نشأ الكثير من الأعمال واكتمل داخل السجون وفي غمرة الملاحقات الأمنية وخرج للنّاس غاية في الرّوعة. إنّ النّضال الذي كان هدفه الخروج بالشعوب العربية والإفريقية واللاّتينية من براثن الدكتاتورية هو ما جعل هذه الشعوب توظّف كل طاقتها في مقاومة الاستبداد وتنشئ بالتالي فضاء بديلا يستوعب طاقات المهمشين والمتمردين على الخوف ويتيح لهم فرصة إبراز مواهبهم في شتى المجالات. 
لم تكن فترة التألق في الستينات من القرن الماضي وما قبلها وما أعقبها فترة تحرّر وطني بالمعني الحقيقي للكلمة ولكنها أنجبت لنا خيرة المبدعين فى الوطن العربي، الذين لم يكونوا كلّهم من المناوئين للدكتاتورية ولكنهم لم يجعلوا الولاء وحده شرطا فى وجودهم، بل استطاعوا أن يفرضوا أنفسهم من خلال عبقريتهم ولم يستطع الحاكم القمعي الاّ الإذعان لمشيئتهم أو استيعابهم ضمن الفضاء العام وسط قبول شعبي تعدّى في أحيان كثيرة ذلك الذي يحضى به الحاكم نفسه، فهل مردّ قوّتهم نبوغهم الذاتي ومثابرتهم أم مردّ ذلك ما طبع تلك الحقبات التاريخية من نزعة عند الشعوب فى إبراز خصوصيتها وتفرّدها واختلافاتها باختلاف البيئة واللغة والجغرافيا والظرف السياسي والاقتصادي؟ إن الذي يدعو للحيرة حقّا هو الفضاء الرّحب الذى أتاحته الثورات العربية للشعوب حتى يسهل إبداعها وينمو بعد أن تخلّصت من مستبد يحصى على الناس أنفاسهم، فكان من الجدير بهذه الشعوب أن تولى كل طاقتها لتدارك ما فات وتفجير مواهب الناس كلّ فى مجاله من أجل صنع الغد الزاهى الذي ظلت أجيال متعاقبة تبذل فى سبيله أرواحها وأعمارها، فلماذا أصابنا ما يشبه العقم ولم نعد نبدع حتى بالقدر الذي كناه زمن القمع والخوف؟ هل العلّة فينا أم فى هذا الفضاء الموبوء بالسّياسة التى طغت على ما دونها ؟ أم العلة حقا فى أن الإبداع لا يكون راقيا إلا اذا أنتجته يد ثوريّة يهدّدها القمع، فهي تبدع بمقدار حجم شعورها بالاغتراب والخوف والقلق على المصير؟ أم العلّة في هذه العولمة المتوحّشة التى استطاعت أن تبتلع شعوبا بأكملها فتلغي خصوصيتها وتقضي على روح الاختلاف التي تجعل المختلف ممكنا وأكثر تجليّا تتقبله النفس وترى فيه أفقا آخر للمعرفة والتواصل؟
لن نستطيع أن نفيض فى طرح الأسئلة رغم المرارة التى نحسّها من كثرة الرداءة التى تحيط بنا فى كل المجالات ورغم ما كنّا نتمنّاه من نقلة نوعيّة في مستوي التفكير والخلق بعد أن عادت لنا حريتنا. والمهم ليس في كمّ الأسئلة المطروحة اذ بالامكان تحويلها الى سؤال فارق وهو لماذا لم نعد نبدع ولم نعد نهتم بالابداع؟ ولكن المهمّ هو تدارك ما يجب علينا تداركه فى اللّحظة الرّاهنة وقبل ضياع البوصلة لنفهم نهائيا أن الشعوب التى لا تبدع لا تصنع مستقبلها بأيديها وإنّما تظل تتسوّل كل شئء مثلما نفعل نحن الآن.
-------------
- مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
lotfidahwathi2@gmail.com