مقلات في التنمية

بقلم
نجم الدّين غربال
في العلاقة بين التراث و التنمية المستديمة
 إن لدراسة العلاقة بين التراث والتنمية المستديمة مبررات عديدة أهمها :
(1) خطورة انعكاسات العولمة وما يروج لها من منوال تنموي على هوية كياناتنا المحلية وشخصيتها، الأمر الذي يدفعنا للتفكير بجدّية في أخذ إجراءات من بينها تعبئة طاقاتنا الذاتية قصد تقوية مناعة مجتمعنا من خلال :
- تثمين تراثنا المادي واللامادي سواء الطبيعي منه أو الثقافي على حدّ سواء وجعله عنصرا من عناصر النشاط الإنتاجي.
- صيانة هويتنا حفاظا على شخصيتنا وكذلك حماية معتقداتنا مصدر قوّتنا المعنوية والعمل على حسن وراثة قيمنا ضمانا لبقاء مجتمعنا.
(2) الاعتقاد السائد في التناقض ما بين التنمية والتراث والناتج عن تسويق لمقولة أن التنمية وليدة الحداثة التي هي روح الحضارة المعاصرة وثقافتها والتي بدورها تبلورت من خلال تجاوز الحضارة السابقة والثقافة المنسجمة معها.
(3) بروز «في العالم غير الغربي تيارات مختلفـــة» على حدّ تعبير محمد خاتمي(1) في التعامل مع إشكالية التنمية في علاقتها بالتراث أبرزها :
- «التيار المتمسّك بالتراث» الذي فشل في التعامل مع الحضارة الغازية وفي تهيئة المجتمع لقبول هاته الحضارة بصورة مدروسة، مما ساهم في توريط المجتمع التقليدي في أزمة مضاعفة، أزمة تعارض الحضارة الحديثة وثقافتها مع ثقافتنا التقليدية وأزمة عدم القدرة على التعاطي مع هذا الوافد.
- «التيار المتغرّب» الذي اعتقد أن التراث أحد معيقات التنمية نظرا لأنه عقبة مهمّة في طريق الحداثة التي اعتبرها أبرز مراحل تكامل حياة البشريّة وتاريخها وعليه لابدّ من تهيئة المجتمع لتقبّل الحضارة الوافدة وثقافتها وأن ذلك لن يتمّ إلا عبر أخذ إجراءات متعددة من بينها محاربة التراث والقضاء عليه.
لقد حرم هذا التوجه أصحابه من أمرين إثنين :
* أولهما، التأمل العميق والتمعن الدقيق في أسس الحضارة الغربية وثقافتها مما فوّت عليهم إمكانية الوعي السليم بالعلاقة بين التراث والحداثة.
* ثانيهما، تحليل التراث ونقده بدل تحقيره والاستهزاء به، مما جعل أصحاب هذا التوجّه يعيشون في عزلة عن فئات عريضة من المجتمع نظرا لتجاهلهم لنفوذ ذلك التراث المتأصل في أوساط الناس ونفوسهم وعقولهم، الأمر الذي دفع البعض منهم في بلدنا مثلا إلى التعلق بأذيال الحكومة المستبدة قبل الحدث التاريخي ( 17 ديسمبر – 14 جانفي 2014) الذي صنعه أحرار وطننا والسعي لإرضاء الدوائر التي تعمل على الهيمنة والتحكم في مصير مجتمعنا بعده.
(4) أزمات الشعوب العربية المتعدّدة الأوجه والمعيقة لكل جهد تنموي والتي تعكسها كثرة الصراعات سواء على المستوى الداخلي لكل قطر أو على مستوى العلاقات البينية بين الأقطار العربية. هذه الأزمات لها جذور ضاربة في عمق التاريخ أهمها ما اصطلح على تسميته بالفتنة الكبرى والتي خلّفت شرخا عميقا زادته تعقيدا عدّة عوامل محلية وأجندات خارجية. وفي المقابل تملك هذه الشعوب ذاتها تراثا فكريا وفقهيا ثريّا يمكنها - إذا ما أحسنت استثماره -  من ترياق لعلاج هاته الأزمات حتى تضع حدّا لهدر الطّاقات وضياع الأوقات ولمعالجة شلل الآلة التنموية.    
 ولبلورة نوعية بديلة لعلاقة التراث بالتنمية المستديمة لابدّ أن ننطلق من ضبط تعريف لكلاهما.
التنمية المستديمة
ظهر مصطلح «التنمية المستديمة» لأول مرة سنة 1992 أثناء مؤتمر الأرض في «ريو جانيرو» ثم توضح مفهومه أكثر في المؤتمرات العالمية التي تعنى بالبيئة ومن أهمها مؤتمر «يوهنسبيرغ» و«كيوتو». و يعتمد هذا المفهوم على ثلاث أعمدة هي :
• التطور الاقتصادي أو التنمية الاقتصادية وهي تشمل مختلف نواحي النشاط الاقتصادي وتتحقق على المدى البعيد وتؤدي إلى تغيرات مستمرة عبر مراحل متتالية ومتواصلة في بنية المجتمع.   
• العدالة الاجتماعية التي تكون ثمرة احترام أمرين اثنين:
- القانون المعبر عن طموحات فئات المجتمع في المساواة و ذلك من طرف سلطات ذات كفاءة وعزيمة وأمانة.
- حقوق الآخرين. 
• المحافظة على المحيط من خلال التقليل من استهلاك الطاقة غير المتجددة واعتبار ذلك في حدّ ذاته في صميم السلوك الاقتصادي نظرا لمساهمته المعتبرة في النمو الاقتصادي ولأهميته في الحفاظ على الصحة العامة وعلى الشروط الطبيعية للحياة الكريمة للمجتمعات البشرية الحالية والقادمة على حدّ سواء.
وتهدف التنمية المستديمة إلى خلق توازن بين حماية الطبيعة والمحافظة على البيئة من ناحية وتحقيق تقدّم اقتصادي واجتماعي لصالح البشرية أخذا بعين الاعتبار الصراع القائم بين الشمال والجنوب من ناحية أخرى(2).
تعريف التراث
حدد المهتمّون بدراسة التراث وجهين له الأول مادي والثاني لامادي :
- أما الوجه المادي للتّراث، فيتجسّد في ما أنتجه السّلف من صناعات تقليدية وخلّفوه من بنايات وأسوار وقلاع وقصور. وهناك من أضاف في إطار المفهوم الجديد للتراث التراث الطبيعي من غابات ووديان وجبال وحيوان.
- أما التراث اللاّمادي، فقد ظهر كمفهوم أواخر القرن الماضي ثم تبنّت الدّول الأعضاء في اليونسكو (3) اتفاقية «صون التـــراث الثقافــــي اللامـــادي» عام 2003 محــدّدة تعريفا له يشمل « الممارسات والتصورات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات التي تعتبرها الجماعات والمجموعات وأحيانا الأفراد جزء من تراثهم الثقافي».
هذا التراث الثقافي اللامادي والمتوارث جيلا عن جيل تبدعه الجماعات والمجموعات من جديد وباستمرار بما يتّفق مع بيئتها وتفاعلاتها مع الطبيعة وتاريخها وهو ينمّي لديها الإحساس بهويتها والشعور باستمراريتها ويعزّز من ثمّ احترام التنوع الثقافي والقدرة الإبداعية البشرية»
وقد صنفت هذه الاتفاقية التراث اللامادي إلى المجالات التالية :
- التقاليد وأشكال التعبير الشفوي بما في ذلك اللغة.
- فنون وتقاليد آداء العروض.
- الممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات.
-  المعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون.
- المهارات المرتبطة بالفنون الحرفية التقليدية.
  وقد دخلت هذه الاتفاقية حيز التنفيذ شهر أفريل 2006.
النظرة القرآنية
وإذا نظرنا من زاوية القرآن الكريم لموضوع التراث، وقفنا عند الإبداعات التالية :
• يشمل التراث الكتاب (4) والقول (5) والأرض(6) والديار والأموال (7).
• يكون التراث إما مكافــــأة لأقوام بمــــا صبـــروا (8) أو بما كانوا يعملون(9) أو لاستمرار الحياة البشرية في إطار فلسفة الابتلاء وذلك بجعل التراث موضوع اعتبار(10) واختبار(11) ممّا يدفع لحسن التعاطي معه واستثماره تحقيقا للنفع الخاص والعـــام لهذا الجيل وللأجيال القادمة وكذلك في هذه الحياة والحياة الآخرة.
• مهما طال عمر التراث فهـــو مؤقت ليعود لصاحبــه الحقيقي (12) مما يجعلـــه موضوع عمـــل وليس موضوع ملكية.
حقيقة التنمية و حقيقة التراث
في حقيقة الأمر لا تعتبر الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والبيئية إلاّ تجليات مباشرة للتنمية، أما عمقها فهو التنمية الإنسانية الثقافية التي تجعل الإنسان فقيها بتراثه، ملمّا بكل جوانبه، عارفا بكنوزه، معتزا بهويته ومعتمدا على قيمه بما يشكل له قاعــدة انطلاق لحياة معاصــرة لكنها متأصّلــــة في تراثها وثابتة على قيم الحق والعدل والرحمة حتى يقدر على إتقان أداءه الاقتصادي والاجتماعي وكذلك البيئي وعلى حسن التعاطي مع الأزمات متّقيا الفساد نظرا لأنّه الدّاء الفتّاك لكل عمل تنموي وكذلك المشاكل والانتكاسات التي تشكّل بدورها مطبّات أمام عربته.
كما أن التّراث في حقيقته هو كل ما ورثناه ممن سبقونا وكان ذي قيمــة، دون أن ننتجــــه نحن سواء كان ماديـــا أو لاماديا، طبيعيا أو ثقافيا وهو متأصل ومتجذر في أعماق روح المجتمع دون اعتباره مقدّسا، مما يحول دون نقد التعاطي معه.
     التوجه البديل في التعاطي مع إشكالية التراث و التنمية
إذا سلمنا بأن التنمية هي عملية تغييرية بامتياز وأنها ليست حتما غربية أو شرقية بما للصفتين من أسس ومرتكزات فكرية وفلسفية ودلالات حضارية وثقافية وبوجوب أن تكون حقيقية، كان لا بدّ من تغيير طريقة تعاطينا مع مكونات تراثنا سواء الخاصّ منه بشعبنا أو المشترك مع البشرية حتى لا نكون مجرّد جماعات غير واعية عديمة الفكر والإرادة يتقاذف حياتها طوفان الحوادث على حدّ تعبير محمد خاتمي(1)  
ولا تتحقّق التنمية الحقيقية في بلدنا من دون إعادة الاعتبار لما ورثناه ممن سبقونا ولقيمة الإنسان وإتقان استعمال طاقاته الخلاقة وفي طليعتها العقلية على فهم التراث وحسن إدراك الحاضر وتدبر الكتاب لاكتشاف سنن الله في الكون والإنسان والحياة والمجتمعات والتي ضمنها نحيى مع استحضار «وما أوتيت من العلم إلا قليلا» لنستمر وبدون انقطـــــاع في العمل قولا وفعلا، حتى نقدر على إبداع منوال تنموي بديل غير مستورد ولا مسقط، نحقق به تنمية حقيقية تعيد للإنسان كرامته وللمجتمع مكانته وللبلاد سيادتها في تناغم مع بيئتنا وانسجام مع الطبيعة التي نحيى بين جنباتهــا، مستفيديـــن من التراث سواء من حيث التوجيه أو من حيث مضمونه الثّري والمتميز والأصيل.
الهوامش
(1) إشكالية التنمية بين الحداثة والتراث للسيد محمد خاتمي (2011)
(2) الموسوعة الاقتصادية الحديثة للدكتور محمد بشير علية – مركز النشر الجامعـــي / دار سحر للنشـــر – تونس (ماي 2013 )
(3) اليونسكو اتفاقية «صون التراث الثقافي اللامادي» (2003)
(4)  «... ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» (سورة فاطر الآية 32)
(5) « وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا» (سورة مريم الآية 80)
(6) «أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُــم بِذُنُوبِهِـمْ ۚ وَنَطْبَــعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِــمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُــون»َ (سورة الأعراف الآية 100)
(7)  «وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا» (سورة الأحزاب الآية 27)
(8) «وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ» (سورة الأعراف الآيــة 137) و «وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ» (سورة القصص الآية 5)
(9)  «وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُون»َ (سورة الأنبياء الآية 105)
(10) «وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ۖ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَـــن مِّـــن بَعْدِهِـــمْ إِلَّا قَلِيـــلًا ۖ وَكُنَّا نَحْــنُ الْوَارِثِيـــنَ» (سورة القصص الآية 58)
(11)  «وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم ۖ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ ۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (سورة آل عمران الآية 180) و «وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ»(سورة الحديد الآية 10)
(12) «وَإِنَّــــا لَنَحْـــنُ نُحْيِـــي وَنُمِيــتُ وَنَحْـــنُ الْوَارِثُـــونَ» (سورة الحجر الآية 23)
 -------
   - باحث جامعي رئيس مركز الدراسات التنمويةnajmghorbel@gmail.com