لقد تحدثنا في المقالة الفارطة عن الأهداف المرجوّة من الدراسة التكوينية للقرآن الكريم ورأينا بأنها متعددة تخصّ مثلا :

* ما هي التسميات أو المصطلحات التي اتخذها القرآن عبر صيرورة نزوله؟

* ما هي علاقة هذه التسميات بمراحل تشكّل الكتاب ومراحل تشكّل الوعي بالكتاب لدى المسلمين الأوائل؟

* فهم طريقة جمع القرآن في مصحف (من جمعه؟ في أي مرحلة؟ من أين وكيف جمعه؟ وكم دامت فترة جمعه؟) 

* ما هي مسألة القراءات المختلفة وهل لها تأثير كبير في معاني القرآن؟

* ترتيل القرآن كطريقة محبذة للقراءة.

إن كل هذه الأسئلة هامة ووجب علينا الإجابة عنها وسنحاول في هذا الجزء البسيط استخلاص النتائج مّما توصّل إليه البعض من المفكرين في هذا الحقل وعلى رأسهم المفكر المغربي المرحوم محمد عابد الجابري في بحثه القيم ذاكرين مواقفنا في هذا المجال ونحن ندفع نحو استكمال المهمة لتسطير معالم هذا المشروع للدراسة التكوينية للقرآن الكريم تربط فيما بعد مع الدراسة الانطولوجية التي نهدف لها كما أردفنا مرارا.

إن القرآن ككتاب لم يأخذ نفس التسمية طيلة مساره التكويني بل اتخذ تسميات متعددة حسب المرحلة التاريخية إلى أن سمّي قرآنا وهذا ما توصّل إليه سماحة المفكر الجابري في بحثه ونحن إذ نتفق معه في أن القرآن أخذ تسميات متعددة، فإننا نعتبر بعض التسميات لا ترتقي إلى أسماء وإنما أريد منها الوصف الدقيق لا التسمية الرسمية.

(1) الذكر والحديث

 في الحقيقة لا توجد تسمية صريحة تدعو القرآن قرآنا في السور الأولى منه حسب ترتيب النزول الزّمني. وهي في مجملها تلك السّور التي نزلت قبل مرحلة الجهر بالدعوة المحمدية. ولم يوصف القرآن بأي نعت أو صفة قبل سورة التكوير وترتيبها السابعة حسب تاريخ النزول. وفي هذه السّورة ردّ من القرآن على مشركي قريش واتّهامهم للرّسول صلى الله عليه وسلّم بالجنون وأن القرآن قول شيطان : «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ»(الآية 19)، وهو« ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ» وتكررت هذه التسميات والألفاظ (ذكر- ذكرى- تذكرة) مرارا عدة في مواقع كثيرة من الكتاب قبل تسميته قرآنا وقبل المرور إلي الجهر بالدعوة. ومنها مثلا ما ورد في سورة الأعلى (ترتيبها الثامن) «فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَىٰ» (الآية 9) كما نجد نفس التسمية في سورة النجم (ترتيبها 23) والتي نزلت تقريبا في السنة الخامسة – السادسة للبعثة النبوية وهي تمثل أول سورة تدخل بالقرآن مرحلة جديدة وهي مرحلة الصدح بالحق والجهر بالدعوة، فقد قرأها الرسول صلى الله عليه وسلّم جهارا في الكعبة لأوّل مرّة ورجال من قريش في نواديهم يسمعون : «فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّىٰ عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا» (الآية 29) وفي نفس هذه السورة في أواخرها تستعمل لفظة الحديث:«أَفَمِنْ هَٰذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ*وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ*وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ*فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا» (الآية 59-62). هذه التسمية الجديدة بالحديث إنما كانت لأنّ الرسول الكريم كان يحدّث بالقرآن أصحابه وقيل أيضا لأن الحديث لغة هو الجديد بالتناقض مع القديم وهو ما لم تعهد الناس سماعه فهو جديد عليها، فالنبي الكريم كان يحدّث بالقرآن أصحابه وقومه ناقلا إليهم أخبار أقوام مضت من التاريخ لم يكونوا يعرفونها، كما كان يحدّثهم بأخبار الجنّة والنّار وهي أخبار حديثة لم يتعودوا على سماعها من قبله.

(2) القرآن للذكر

لقد تطلّب قانون التّدرج الإلهي أن يقع المرور تباعا إلى هذه التسمية الجديدة أولا في شكل المصدر اللّغوي قرآنا بمعنى قراءة وذلك انطلاقا من سورة القيامة (ترتيب نزولها 31 ) : « لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ.» (الآية 16-19) وفي هذه السورة يمكننا بسهولة أن نلج إلى المعنى الأوّلي للقرآن كونه صيغ هنا بمعنى القراءة، إذ أن رسولنا الكريم كان يسرع ويتعجّل في حفظ كلماته خوفا من نسيانه فيما بعد فيصعب عليه تبليغه لأصحابه. فكانت هذه الآية تطمينا له بأن الله تكفّل بالعملية البيداغوجيّة كلّها: «إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَه». ثم وقع الانتقال فيما بعد من هذا المعنى الأولي البسيط الذي يعني مجرد القراءة إلى معنى آخر أكثر تركيبا وهو المعنى الشرعي للقرآن، على أنه ذلك المقروء والذي تكون تلاوته بلسان عربيّ مبين وذلك في سورة البروج أولا وفيما بعد في سورة ق : «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ* وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ» (الآية 19-22)، «ق والقرآن المجيد»(الآية 1) فكان القرآن اسما علما وكان المجيد صفة للقرآن.

أكد الله إذن أن ذلك الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلّم يحرّك به لسانه عجلا واستعجالا خوفــا من ضياعه ونسيانه والذي كذّبت قريش به وادّعت أنه ليس من عند الله هو ذلك المقروء من طرف جبريل على مسامع رسولنا الكريم ولا يخشى ضياعه كما ضاع من قبله وحي أنزل إلى رسل كموسى وعيسى عليهما السلام وذلك لكونه محفوظا في لوح يُقرأ منه على نبينا. هكذا إذن وقد استقر القرآن كاسم علم أصبحت المسميات الأخرى من (ذكر وتذكرة وذكرى وحديث...) كأسماء شارحة للقرآن أو كصفات له كما سنرى في الآيات التالية من سورة ق : «فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ» (الآية 45) ومن سورة القمر(ترتيب نزولها 37):» وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» (الآية 17) ثم في سورة ص : «ص ۚ وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ*بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ» (الآية 1-2) ثم فيما بعد في سورة طه (ترتيبها 45) : «طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ* إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَىٰ» (الآية 1-3). والآيات عديدة ومتعددة تلك التي يبرز فيها لفظ القرآن كاسم علم والألفاظ الأخرى من ذكر وتذكرة وذكرى كأوصاف له لا يتسع المجال هنا لعرضها كلّها.

(3) القرآن ككتاب

إن المرور من التسمية السابقة (قرآن) إلى هذا الاسم الجديد وهو لفظ كتاب جدير بالتأني والدراسة ذلك أن هذا اللفظ أول ما برز كان في سورة الأعراف (ترتيبها 39) وهي أكبر سورة مكّية أي قبل الهجرة إلى المدينة  وهي تقريبا تعادل ضعفي كل ما أنزل قبلها مجموعا منذ البعثة النبوية من ناحية الكم وهي حسب رأينا تمثل أيضا نقلة نوعية من حيث الكيف وهي تسمية القرآن بالكتاب: «المص* كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ»(الآية 1-2) ويرى بعض المفسرين أن كلمة «كتاب» هنا جاءت كوصف للقرآن مثلما قال بذلك الإمام الطبري في تفسيره في حين ذهب آخرون وهذا أرجح إلى اعتبار أن كلمة كتاب جاءت في هذا السياق كوصف لسورة الأعراف أي أن لفظة «كتاب» تعتبر خبرا لمبتدأ محذوف تقديره هو أي «المص» هو كتاب وبالفعل تمثل سورة الأعراف من حيث الكم ما يعادل الكتب السماوية «كالزابور» مثلا أو غيره ومن هذا المنطلق فهي تستحق هذا الوصف الذي يرقى بها إلى درجة الكتاب وهذا ما تؤكده نفس الآية فيما بعد عند قوله تعالى: «  فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ» – فما الذي يا ترى يجعل النبي الكريم يتحرّج من الإنذار بهذه السورة إذا كان المقصود بالكتاب هو القرآن فالرسول صلّى الله عليه وسلّم لم ينفك ينذر قومه بالقرآن منذ نزل عليه الوحي ومنذ الأمر الذي تلقّاه أي «قُمْ فَأَنْذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ* وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ» (الآية 2-4) من سورة المدثر والتي هي من أوائل السور التي نزلت على الرسول.

إذا يمكننا أن نقول أن الحرج كل الحرج يأتي من كون هذه السورة تمثل كتابا وهذه أول مرّة سوف يدعو فيها الرّسول الكريم قومه وخاصة اليهود والنصارى المتواجدين في قريش بكتاب وليس بمجرد كلام يُقرأ على أسماع الناس وإنما كتاب على درجة من القدسيّة مثله مثل الكتب السماوية السابقة له، كونه يعادلها في الكمّ وذلك فيه حرج فعلا لأن اليهود والنصارى يحتكرون الحديث باسم الكتاب ولذلك كانوا يدعون بأهل الكتاب، وهم بالتأكيد سيرفضون الدّعوة التي تسحب منهم البساط إذ ترتقي بقريش الأمّية التي لا تملك كتابا إلى أمّة غير أمّية لها كتاب شأنها شأن أهل الكتاب من يهود ونصارى وهذا فيه حرج للنبي صلى الله عليه وسلّم ولا بدّ له من الاستعداد لمناظرتهم.

(4) علاقة التسميات بالفترة التاريخية

لقد لاحظنا مؤكدا مدى الارتباط بين المرحلة التاريخية وظروف نزول الوحي والمصطلح المستعمل للتسمية أو الوصف. وذلك فيه نوع من التماهي بين النّص والواقع التاريخي ففي فترة الدّعوة السريّة، كان الهدف تجميع بعض النّاس حول الرّسول ليكونوا أول المؤمنين برسالته. فسمي ذكرا وتذكرة وذكرى وحديثا، فالهدف كان بيداغوجيا أساسا أي التذكير بقيم الخير والحق وغرس هذه المبادئ في صدور الرجال. ثم فيما بعد عندما التحق عدد لا بأس به من الصحابة المؤمنين بالدّين الجديد وأصبح الوحي يتضمّن كمية لا بأس بها من الآيات والسّور وأصبح المقروء ذا عدد تحوّلت التسمية من ذكر إلى قرآن بمعنى القراءة ثم إلى قرآن بمعنى المقروء وليس القراءة. ثم عندما نزلت سورة الأعراف التي تضاهي في الكمّ كتب أهل الكتاب أصبح من الممكن تسمية الوحي كتابا وأصبح من الممكن للأمّة أن تباهي به الأمم الأخرى من أهل الكتاب. 

والاسلام  ليس وحيا أعطي مرّة واحدة كما أعطيت غيره من الرسالات بل أعطي خلال ثلاثة وعشرين عاما، ونزل الوحي حسب متطلبات الواقع أو كما يقول علماء الأصول طبقا لأسباب النزول وتبعا لإمكانيات تقبّله، وكثيرا ما كان الوحي يُعدَّلُ حسب الواقع كما يقول بذلك علماء الناسخ والمنسوخ. ومن ناحية أخرى جاء الإسلام كآخر حلقات تطور الوحي في التاريخ ابتداء من إبراهيم أبي الأنبياء. فالوحي يسير طبقا لمتطلبات كلّ عصر: إذا انتهت فترة جاء وحي آخر ملبّيا لمقتضيات الفترة التالية وطبقا لما حدث من تقدّم وازدهار. فهناك تقدم معين من نبوّة إلى نبوّة ومن رسالة إلى رسالة أي أن الوحي يسير في خط من الوراء إلى الأمام ويتّبع فلسفة ارتقائية للتاريخ كما يقول «هردر» و«كانط». وقد صاغ «ليسنج» فلسفة للتاريخ طبقا لمسار الوحي فيه وذلك ضمن مراحل ثلاث :

* الأولى ترتكز حول القانون الخارجي واعتبار الله مصدر خوف ورهبة وطمع وهي مرحلة اليهودية.

* الثانية ترتكز على الحبّ الداخلي واعتبار الله موضوع حبّ وهي مرحلة المسيحية.

* والثالثة استقلال العقل الإنساني وثقته بنفسه وعدم احتياجه إلى وحي وهي فترة عصر التنوير.

 ونستطيع أن نقول أن الإسلام يمثل منبع هذه المرحلة بعد تأكيده على أولويّة العقل كمنهج في تأويل النّص وولوج الفكر الإنساني عموما عوالم جديدة من الاستقلالية والثقة بالوعي الجمعي. 

------

- أستاذ  جامعي في الاٍعلامية الصناعية

وتواصل الاٍنسان والآلة 

mejrilassad@yahoo.fr