وجهة نظر

بقلم
مقداد إسعاد
الربيع العربي بين العسكر والإسلاميين
 كان لي صديق في الجزائر عرفته أيام الجامعة من حياة بومدين رحمه الله. كان ينشط ضمن لجان التطوع للثورة الزّراعية، وكان شيوعيّا شديد الحمرة. ورغم انتمائه الأممي كان يحرض عليّ كوني تونسي، أجد بين الجزائريين موقعا متصدّرا في النشاطات الجامعية وكإمام في صلاة الجمعة. وصلت الحماقة به في ذاك اليوم من سنة 1978 ونحن في النّادي نتابع مقابلة رياضية بكل الحماس بين الفريقين التونسي والبولوني في إطار نهائيات كأس العالم أن يساند الفريق الأوروبي الشرقي (أي الشيوعي) ضد الفريق التونسي نكاية في. كان القوم لا يحبّونه، لكنّي أظنهم أن في ذلك اليوم كانوا يعتبرونه إلى الخيانة و «الحركة» أقرب منه إلى المناضل الاشتراكي. 
التقينا بعد أكثر من عقدين من الزمن، فوجدته تغيّر في مظهره وأخبرني أنه متزوّج وله أبناء ويعمل كمدير في شركة الكهرباء والغاز. تجاذبنا أطراف الحديث وتذكّرنا تلك الأيام بحلوها ومرّها، فوجدت الرّجل أكثر رصانة وهدوءا، أخبرني أنه أدى فريضة الحج. ولمّا دخلنا إلى قلب الموضوع وجدت الرّجل لم يغيّر قناعاته السياسية ولخص فكرته بإيجاز، قال:«في العالم العربي آفتان، العسكر والإسلاميون». 
وجدتني هذه الأيام من سنة 2014 استرجع ذاك الحوار القديم وأجد في كلام خصمي القديم وجاهة. انسحب الشيوعيون من الصّراع على الأقل بهذا الاسم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وحتّى الذين بقوا في حلبة التّدافع السّياسي والاديولوجي أعلنوا صراحة تخلّيهم عن مذهب الصّراع الطّبقي، وانحازوا، أو على الأقل الفاعلون منهم، إلى العسكر يحرّضونه ضدّ الإسلاميين مما زاد في تعفّن الوضع. 
انطلق الربيع العربي من تونس فرفعها وارتفع بها، ثم أخفق حيث مرّ إلا فيها. أنا لا أشك أن صديقي الشيوعي الجزائري لو شاهد اليوم مباراة بين تونس وبولونيا لساند تونس، فهي مهد الربيع العربي، ولا شكّ أنها ما زالت له حاضنة حتى تدخله وتدخل به التاريخ. جميل تونس أنها سبقت إلى التخلّص من دكتاتورها بنجاح وبأقل الخسائر، والجميل فيها أنها قطعت عليه طريق العودة والفوضى. ولعلّ ما أجمل منه حمايتها لمن صوّتت لهم وحمـّـلتهم مسؤولية الدّولة، ولعله أيضا أعلى مراتب هذا الجمال أن تحمي الأقلّية من غطرسة الأغلبية. كل ذلك دون إراقة للدّماء. تحيى تونس. 
صاحبي الشيوعي القديم، المقيم للصّلاة والمؤدي لفريضة الحج، عاش صراعا دمويّــــا بين العسكـــر والإسلامييــــن في الجزائر في التسعينات، دفع الشعب ثمنه غاليا مادّيا ومعنويّا، أثخن الإرهاب في الجزائر حتى أصبح التغيير يخيف ولا يذكره أحد حتى يكرر ألف مرة قبله أو بعده «دون عنف». نظر الجزائريون بكثير من الرّيبة إلى التّحول السياسي في تونس والبلدان التي تبعتها. ولعلّهم وصلـــوا إلى مستوى كبير من الوعي. التغيير نعم ولكن ماذا بعد؟ أن تذهب الدكتاتورية فهذا جميل وأن يتولّى الإسلاميون فهذا جميل ولكن شرط قدرتهم على التمكين الفعلي للتغيير. والتغيير هو تنزيل مبادئ وتحقيق أهداف مع تفويت الفرصة على أعداء الثورة.  كانت للشّعب تطلعات، يريد لمن يسلّمه أمره أن يحققها له، وليس تطبيق الشريعة هو ما يريده، بل تحقيق الحقّ والعدالة والتنمية ولا شكّ أنها من مقاصد الشريعة. والشّعب واع.
في الجزائر لم يبخل الشعب على الإسلاميين بالتأييد.  تكلّموا فأنصت لهـــم، مــــلأ اجتماعاتهـــم واحتفالاتهــــم دون غيرهم، صوّت لهم بغزارة في المواعيد الانتخابية، ساندهم ودعا لهم في السّر والعلن لما انقلب العسكر عليهم، آواهم وأطعمهم، ووجد لهم أعذارا لكثير من تصرفاتهم الغريبة... كل ذلك وأمثال صاحبي من اليساريين وغيرهم يحرّضون على الاقتتال ويدفعون الثّمن من أرواحهم هم قبل غيرهم. 
ما نلاحظه بكل إعجاب أن تونـــــس لم تسقط في فخ الإرهاب ولم تفرض عليهــــا المعادلــــة الظالمــــة «الدكتاتورية أو الإرهاب» وها هو الأمل يملأ شعبها في ديمقراطية حقيقية، تضمن الحق للأقلية في الحياة والنشاط، بل تعتبرها ضروريــــة لسلامــــة الحيــــاة السياسيــــة، وهي كالحياة الزوجية لا تكون إلا بمكونيها من ذكر وأنثى. أغلبية تحكم وأقلّية تعارض. تدافع كل منهما علي الحياة للاثنين.  
لم يستوجب تراجع الأغلبية أكثر من حراك اجتماعي هادئ وسليم. لم يتدخل العسكر كما هو الشأن في مصر. لم يدفن الناس أحياء في الخرسانة ولم يرشهم رجال اللأمن بالمواد القاتلة. لم تضطر المحاكم التونسية أن تطلق أحكاما جماعية بالإعدام على مئات المعارضين. 
تونس حيّـدت عسكرها، وهذا جميل ثم ثنّـت عليه برفع الغشاوة عن الشعب في تقديس الإسلاميين. الربيع العربي أوقف الدكتاتورية في تونس، وهذا انجاز كبير لكنها لم تقع في ما كان صديقي الشيوعي يخافه، وهو استبدال العسكر بالإسلاميين وقد بدا هذا وكأنه  قدر العالم الإسلامي المحتوم. لعله لهذه النهاية المحتومة دافعت قوى كثيرة على العسكر وعلى الأنظمة البائدة، فقد يكونون أقلّ ظلامية من أصحاب اللّحي لأنهم يدعون الحكم باسم الله. 
 في تونس تهيأت ظروف جعلت الشعب يثور على العسكر، يوكل الإسلاميين أمره، يضعهم أمام مسؤولياتهم، يصبر على إخفاقاتهم، كل ذلك والعسكر ليس له القدرة على التأثير في  السلطة. وما أجمل النتيجة: تفويت الفرصة أمام الإسلاميين أن يعودوا إلى التباكي والتظلم مثلما هو الحال في مصر مثلا فتزيد شعبيتهم رغم عدم صلاحهم للحكم أصلا. هذه هي مأساة العالم العربي المتكررة. آوى الإسلاميون إلى ركن شديد وهو اعتماد الخطاب الإسلامي والتموقع فيه، وهو شديد التأثير في الشعب، يساندهم، يحميهم، يسمع لهم، رغم غياب المشروع السياسي لديهم. 
كسرت تونس هذه المعادلة بوعي شعبهــــا، وذلك في وقت وجيز وبأقل الخسائر. قد يكون الربيـــع العربـــي فشــــل، لكنه يبدو أنه ترك جذوة نتمنى أن لا تنطفــــئ حتى تتغير ظروف العالم ويصبح للإسلام موضع قدم بين الحضــــارات... وسوف لن تكون كبر المساحة ولا عدد السكان هو الضامن لنجاح الأفكار. يجعل بعضهم من أثينا الصغيرة مهدا للديمقراطية في وقت كان العالم تتصارعه قوتان عظميان مصر الفرعونيــــة وفــــارس، منعت قوة الملك ميلاد الديمقراطية في أي منهما. وولدت في البلد الصغير مهد الفلسفة والعلوم لمّا تساوت فيه القوى بين الملاّك وخدمة الأرض. لم يكــــن هناك عسكــــر ينحــــاز إلى الأغنياء ويفرض الطاعــــة على العبيد، فتساوى النفوذ في عملية حساب الفائدة فكان القبــــول بالآخر والتنازل له عمّا استطاع أن يحميه من حقوقه. وقبل الطرف المقابل حفاظا على ما لديه من مكاســـب. ذلك عـــدل الواقعيــــة. فهل تكون تونس الصغيـــرة هي مهــــد التحول الديمقراطي العربــــي كمــــا كانت أثينـــــا منذ أكثـــر من ألفيتيـــــن من الزمن؟؟؟  
--------------
-رئيس المشروع المغاربي
mokdadissaad@hotmail.com