قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
الشهداء أول الضحايا
 السؤال الذي يؤرقني بشدة كلما كان الأمر يتعلق بالشأن السوري هو لماذا يفلت القوميون واليساريون في غالبيتهم من الإجابة علي السؤال التالي.. لماذا يتجنّب هؤلاء وصف ما يجري في سوريا بكونه ثورة ؟ أليست هذه خيانة من نخبة مثقفة لشعب عاني الويلات من نظام قمعي؟
إذا تحدثت مع أي واحد من هؤلاء في هموم الوطن العربي فلن يوفر نظاما من المحيط الى الخليج حتى إذا ما وصلتَ به الي النظام في سوريا فلن يستمع إليك وإن شرحتَ له كيف أن هذا النظام بدأ بانقلاب على سلطة منتخبة بداعي التصحيح باسم البعث ليصل فى النهاية الى حكم استبدادي طائفي عائلي يرث فيه الولد حكم أبيه كما يرث انسان من والده ضيعة أو شقة. مثل هذا المناضل الهمام أو المثقف الفصيح سوف لن يرى من هذا النظام إلا ما يريه هو نفسه لشعبه،  نظام ممانعة في وجه الكيان الصهيوني داعم للمقاومة الباسلة وهلمّ جرا. هل يستطيع أي متابع موضوعي للشأن السوري أن ينكر الكمّ الهائل لضحايا هذا النظام على مدى أكثر من أربعين عاما، لم يطلق فيها رصاصة على العدو الصهيوني منذ احتلال الجولان وضمه لاحقا، فى حين أثخن فى دماء السوريين وأعراضهم وسجن منهم وشرّد الآلاف بمحاكمة أو من دون محاكمة حتى صارت سوريا مضرب الأمثال في انتهاكات حقوق الإنسان .
إن هذا الصمت المريب تحوّل الي مباركة حين تولى الإبن وراثة أبيه فى سابقة خطيرة كادت تفتح الباب لغيرما مستبد وعانى الشعب المصري من معركة توريث لم تنهها إلا الثورة المغدورة. مثل هذا المثقف أو هذا الباحث سجين الإستحمار الإيديولوجي هو من قاد الثورات العربية الى ما وصلت إليه من انهيار مدو في مصر وضعف وانحلال في تونس. إن هذا المثقف البائس الثورجي، مدّعي القدرة على الاستشراف، هو الذي يصيبه العمى ولا تحرك مشاعره دماء المصريين والسوريين الزكية التي تراق بلا هوادة فى كلاّ البلدين، بل تراه لا يرى غضاضة في مزيد إراقتها ولو أدّى ذلك الى فناء الشعبين ودوام الدّمار حتى تحقيق المراد.
إن الذي يهمنا في هذا كله ليس خيانة مثل هؤلاء لثورة كانت الأقرب للاندلاع من وجهة نظر أغلب المحلّلين اللذين تنبأوا بحدوثها إن لم يكن قبل مصر فوراءها مباشرة حيث لم يكن أشد الباحثين تفاؤلا يتوقع أن يبدأ الربيع العربي من تونس، ولكن الذي يهمنا بالتحديد هومحاولة فهم هذه البكائيات التي ملأت الساحات والتلفزات وكل وسائل الإعلام بعد صدور الأحكام في قضية شهداء وجرحي الثورة التونسية. ألم يكن كل هؤلاء الباكين اليوم من الظلم المضاعف الذي وقع علي الشهداء والجرحى وذويهم، هم أنفسهم اللذين أغمضوا أعينهم عن انتهاك كرامة المصريين والسوريين والولوغ في دماءهم الزكية وهم الذين لم يعترفوا للشّعب السوري بحقه في الثورة علي جلاّده وهم من بارك لاحقا انقلاب السيسي وجيشه على إرادة الشعب المصري وثورته المجيدة، فأي مفارقة عجيبة هذه وهل يمكن تفكيك رموزها وفهمها؟ 
في النموذجين التونسي والمصري علي السواء، لايمكننا الحديث عن نخب ترغب حقا فى التأسيس لدولة ديموقراطية متقدمة تحقّق للنّاس أسمى مبادئ الثورة وهى الحريـة والكرامة والعدالة الإجتماعية وذلك فى نظرنا مردّه سببان، أولهما أن كلا البلدين عاشا فترة طويلة جدّا في ما يشبه السور الحديدي الذي صنعه النظام الحاكم فيهما والنموذج التونسي أوضح حيث أقام النظام سياسة حكمه على ادعاء التفرد باقامة نموذج مجتمعي حداثي في مواجهة نموذج اجتماعي وسياسي متخلف ماضوي يهدد في كل الأحوال حياة المجتمع وأفراده ولا يمكن لأحد فى هذا الصدد الانكار بأن النظام ظل لمدّة تقارب العقود الأربعة يبثّ في الناس دعايته السّامة بكونه يمثل خيارهم الوحيد الذي يجب أن يجتمعوا حوله ويعاضدوه، وأن غيابه عن المشهد السياسي سيدخل البلد في أتون حقبة من التخلف والدّماء والتّعسف على الناس باسم الدّين وأن الإسلاميين الضلاميين القروسطيين سفاكي الدماء المنغلقين الإرهابيين سوف يكونون ورثته فى أي تجربة حكم ديموقراطي وبالتالي فبقاؤه مصلحة للجميع وهكذا استطاع اقناع أمثال هذه النخب، فانخرطت معه أو سكتت عن جرائمه حين نكّل بالإسلاميين الذين لم تحررهم إلا ثورة الناس.
أما السبب الثانى فهو مقدار الهالة الذى أصاب هؤلاء جميعا حين نجحت الثورة فى إزاحة المستبد، فصاروا جميعا فى مواجهة ما ظلّوا يهربون منه ولم يروا فى الثورة لا الحرية ولا الكرامة ولا حقّ الشعب فى المشاركة وإنما وضعوا نصب أعينهم فقط مناصبة العداء الشديد لمن جاءت بهم صناديق الإقتراع ومن تحالف معهم ولا بأس أن تذهب الثورة الى الجحيم وبالطبع لن يكون الشهداء إلا أول الضحايا    وهذا الذي كان.
--------------
- مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
lotfidahwathi2@gmail.com