بهدوء

بقلم
عبدالنّبي العوني
بالعودة إلى الذات ... يتم التأسيس لمستقبل أفضل
 إنَ النزوع الواعي للشعوب العربية، للنظر والاستلهام من الذات الجماعية، هو نزوع فطري وتلقائي، طبيعي وتفاعلي، نشط غير سلبي، هو ارتداد نحو المركز العميق، كردّة فعل على سنون الجدب والقحط والإلحاق القسري بمنظومات غريبة على الذّات ولا تلبّي الاحتياجات النفسيّة والسلوكيّة والعقليّة والمادّية لقطاع عريض من هذه الشعوب، هو رجوع آلي بعد قطيعة مركّبة ومصطنعة، وبعد محاصرة ولعقود طويلة لهذه الذات من قبل استعمار بغيض ومن بعده طغمة حاكمة مستبدة وظالمة وملحقة ثقافيا وتعليميا وسياسيا بالغالب، هذا النزوع ولّد حراكا وحيوية انعكس بالتفاعل العميق مع المكونات الأساسية لهذه الذات، والبحث في خلاياها عن مقومات التحرر والإنعتاق من مظاهر وظواهر الاستبداد ومخلفاته واستمداد الطاقة للقفز وتجاوز كل المكبلات والأصفاد التي أعاقت وتعيق تقدمها لملامسة مكامن قوتها. 
كانت الشعوب فيما مضى من أزمان تجد أمامها، في مسيرتها التاريخية لبناء نماذجها، كل الصعوبات، ذاتية وموضوعية، ذاتية في أسلوبها وطريقتها ومنهجها لحلّ مشكلاتها العويصة، التي وجدت نفسها فيها بفعل الواقع والزمن والإطار الحضاري التي هي جزء منه، وموضوعية، هي كل المعوقات الخارجية التي أنتجها الاستبداد والظلم والتسلط والفساد إضافة إلى موروثات الاستعمار مادّية كانت أو ثقافيّة معرفيّة أو ارتباطات إيديولوجيّة به، ذات بعد نفعي و مصلحي.
في كل المحطّات الماضية التي قدّمت فيها الشعوب بعض نماذج تحرّر لم تكتمل، بل في بعض حالات ارتدت عليها سلبا وفرّخت لها استبدادا أبشع وأشنع ممن سبقه قتل فيها ما بقي لها من إرادة الحياة. في هذه المحطات، حاولت الشعوب التخلص من الأغلال لكنها لم تفلح كليا، حاولت مرارا الرجوع إلى الذّات الكامنة والغنية، لكنها لم تنجح، ورغم تكرر المحاولة والهزيمة إلاّ أن الشّعوب لم تيأس لأنها شعوب حيّة في مكنوناتها وفي خمائرها، وتستمد عبر جذورها الضاربة في أعماق الصحراء القاحلة من منابع ثرواتها الباطنيّة التي لا يعلم حجمها إلا الله، والرّاسخون في العلم يقولون كل ذلك من مميزات هذه الأمّة، تستمد الحياة وتفرض وجودها حتى في أدنى معانيه، ولو مع الحدّ  الأدنى، تستمر المحاولة ويولد الإصرار، ومن رحم المعانات والألم والإفناء يولد شعاع الحياة حتى بزغ منه فجر الثورات، الذي فجّر طاقات الشعوب وبعث فيها أملا أكبر للنّجاح في صناعة حاضر متحرك وواعي  بمستقبل أفضل، سيصبح يوما ما تاريخا ناصعا ومؤسّسا لبناء حضاري جديد ولدورة حضارية حديثة لأمة خرجت من صناعة التاريخ منذ قرون، ولم تبق فيه إلا في صورة  كيانات جغرافية، من هندسة «سايكس وبيكو» ويستوطن قلبها وروح الحياة فيها سرطان لونه أزرق وأشعته تلمودية من هدايا المقاول بلفور، وهذه الدورة تنطلق بالنهل من مكنونات الذّات وتتمدّد بمنتجاتها في أفاق الوعي الإنساني العالمي وتمدّه بطاقات جديدة ومتجدّدة، تلتحم فيه الثورات مع القيم ومع آخر منتجات ومبتكرات العقل البشري. تلتحم فيه الثورة بمعانيها المؤسسة والمنطلقة من أرضية حضارية عربية إسلامية، كانت لعصور مضت وطويلة، تفتي بحرمة الخروج على سلطان جائر أصبحت فتوى تفرضها الجماهير على النخبة، بأن الثورة على الظلم والبغي والتسلط من أساسيات الاستخلاف والأمانة والقيام بمهام التغيير الداخلي.
 إن الرّضا والقنوع بما يقدّمه سلطان جائر لشعبه، هو من أرذل ما يستقر في وعي الإنسان، وهو يعبّر بشكل تراجيدي، عن تسليم شعب لإرادته ووضعها في جراب سلطان جاهل وسارق، وفي لحظة فارقة ومن أرضيّة كانت تمجّد الفرد الصنم وتئد بذور التحرّر وتؤسّس لانخراط غير واعي للتسليم والتصفيق للظّالم خوفا من الفتن، انتقلت الخيارات إلى أرضية جديدة، ترفض ما سبق وتبني وتسلك سبلا تلتحم فيها الثورة مع الحياة ، يلتحم فيها الرّفض لما يقدّمه الاستبداد بالسّعي إلى تغييره بالإصرار والصمود وتقديم الدّم الطاهر الزكي ليطهر أدران الفساد .
هذا النزوع الجارف نحو الذات، لامتصاص الطاقة، ولبناء تصوّر، ظنّه بعض معلّقي أجهزة الإعلام ومحترفي الكلام المنمّق، ثورة ضد القيم الأصيلة التي نشأ وترعرع  ينشدها، وإذا بها ثورة ضد السّائد من الاستبداد والظلم، والرجوع بكينونة الإنسان إلى المؤثرات الداخلية، القيمية والمعرفية والرّوحية، التي تحرّر المفاصل والعقل والرّوح وتمدّ الإنسان بالطاقة الحيوية، لمواصلة مسيرة بناء الأوطان الحرّة والعزيزة، التي تصنع غذاءها في مطاعمها، وتبني أفكارها ومشاريعها ورؤاها في ساحاتها، وتؤسّس مصطلحاتها ومعانيها في مختبراتها، وتنتج خمائرها من تراب أرض حضارتها وتاريخها وثقافتها .  
هذه هي العودة إلى الذات، باتجاه عكسي لتصورات سابقة وخيالية وافتراضية لنخبة تفكّر لتقتات، عودة باتّجاه التقدّم والحداثة والاستقلال، انطلاقا من الداخل ونابعة منه، مُكَوِنًا ومنهجا وتصورا، تتكون من ضمن بنية المجتمع ومن بنية قيمه الفردية والجمعية التي تمدّه بقيم التّحرّر وتدفعه لعدم السّكون والسّكوت على الظّلم. من الممكن أن يكون الواعز أو الحافز خارجيّا، لكن في حالتنا هذه «الثورات العربية» فالواعز والدافع كان داخليّا، ظهر من رماد التجارب المؤلمة، ومن شظايا الإنسان المسحوق، في أرياف ومدن العرب، كانت الحياة فيها مؤلمة وقاحلة إلى حدّ العجب، وكان الموت يتسرّب إلى الروح بعد الجسد، بنسق سريع وبتفاعل جنوني، ظنّ الجميع أن الموت استوطن الأوطان والأرواح والأجساد وإذا به، وفي لحظة فارقة وفاصلة، ومن لهيب جذوة نار على جسد معفر بتراب المعاناة والفقر والإهانة تحول إلى حياة وشهادة على زمن عزّ فيه الحلم بما بعد البحر الأبيض، استرعى فيه انتباه عالم يغوص في الميدان الافتراضي والفضاء والمنظومات التواصلية، ويتمدّد فيه المفهوم من الاحتجاج إلى الثورة إلى البناء، وكل هذا تمّ بشكل تفاعلي متتالي من جزيء إلى جزء إلى جهة إلى وطن إلى جوار إلى إخوة ثم إلى ساحات عالمية، من ساحة في مدينة سيدي بوزيد وبمواجهة مقر الباب العالي الصغير لوالٍ، من فصيلة المتحلقين حول موائد السلطان، وصل التأثر والتأثير إلى الصين واليونان وأمريكا واسبانيا مرورا بمصر وليبيا والجزائر واليمن والبحرين وسوريا والمغرب والأردن والسعودية وعمان والكويت ....، كل هذه التحولات الدراماتيكية تمت وفق مسار تاريخي لم ولن يستطع أحد إيقافه، لأن قطار التحرّر الحقيقي من الخوف من السلطان ومن الفتن اقتلع من النفوس والعقول، ودون رجعة انشاء الله قبل أن يُقتلع من الأوطان، فالطّاقات عرفت وجهتها وحدّدت بوصلتها وعلمت مسارها وتحركت، وإذا ما تحرّكت الشّعوب فإرادتها لن تقف دون تحقيق الحدّ الأدنى ممّا تنشده، وما على من يسهر على إدارتها إما الرّضا ومسايستها وتحقيق متطلبات عيشها الكريم أو الرحيل عنها ومنها وتركها تتدبّر أمرها، علما وأن من يمارس الاستبداد والظلم يصبح أسيرا لهما وتعمى بصيرته وبصره ولا يرى وقتها إلا نفسه المتضخّمة في مرايا بطانته وحاشيته ويحتقر شعبه الذي يوقظه أنينه وآلامه، ولا يتعظ حتى تباغته الثورة من فوقه ومن تحت أرجله، تخرجه من مخدعه وتفصل جسده وروحه عنوة من كرسي الاستبداد والتسلط. 
وبفعل هذا الرجوع السريع والعنيف أحيانا، إلى الذّات والى مرتعها تحصل بعض الارتدادات والاهتزازات الغير متوقعة نتيجة لزحزحة استبداد تربع لعقود طويلة على منابع الخير في الوطن والشعوب، لكن في الأخير المآل والمستقر والمستــــودع لا يكون إلاّ خيرا للشّعوب وحاميا لإرادتهـــا، وبهذا الرّجـــــوع الواعــــي والصّــــادق إلى الذّات، مطلوب من المكونات الفاعلة والمفكرة في المجتمع، أن تجعله أقلّ ألما وأن تدفع الحجم البشري برفق أكثر نحو هدفها، وأن تفتح له أفاقا للإبداع ولصناعة الحضارة وبناء تاريخ وتأسيس مجد جديد، حيوي وفاعل، على أنقاض مجد ضائع، ضيعه ملوك طوائفنا بعد أن تخلصنا من استعمار بغيض.
هذه العودة إلى الــــذات، التي اقترنت بصدمـــــة لوعي استكان وعاش طيلــــة عقــــود مجاورا ومتآلفا صناعيّــــا مع استبـــداد لم يراعي له حرمة ولم يحترم له مكانــــا ودائرا في فلك عقل السلطنة والسلطان، هذه العودة ننشدها عودة للتقدم، عودة للذات لبناء الذات من جديـــد، عودة نقية صافية لا تحمل بين ثناياها الشوفينية والمازوشية والشعوبيــــة ،عودة تنهل وتستمد من الطاقة الكامنة فيها كي تمدّها بالزّاد للعبور إلى محطات صناعة الأوطان المستقلة الفاعلة والمتفاعلة، الأوطان التي تأكـــل من ثمارأرضها ومما تصنعه أيادي أبنائها ،الأوطان التي تكون رحاب عدل ومســــاواة بين كل أطيافهـــا، ما يجمعهم هو النبع الأصيل والصيرورة الواحدة والمآل المشترك، ما يجمـــع بين أبنائها هو إيمانهم بأنهم كيان واحد متعدد ومختلف، لكنه غير متخالف ومتخلف وعصابي، هو كيان يعيش لحظته ويصنع ثرواته بعد أن صنع ثورته، كيان متحرك وغني متعدد الآراء لكنه يجتمع على قاعدة واحدة هي قاعدة الوفاء والعمل البنّاء من أجل بناء سليم وكدح متناغم مع طاقته نحو أهدافه المعلنة في المستقبل .
هكذا إذن هي الثورات ،هي قابلية في الضمير الجمعي للمجتمع للتخلص مما هو كائن، من نمط حياة وطبيعة علاقات وعلاقات إنتاج وإفراز منتجات، إلى انتهاج مسار بحث عن مجال تتحقق فيه إرادة الجميع، ومن ثمّ السعي  لتأسيس واع ومركب لنموذج جديد، سيشع أكثر ليلامس كل العالم بنفحاته، هذه هي إذا الثورات العربية ،أعطت هويتها لبداية القرن الواحد والعشرين، وستصبغ إن شاء الله، وبتراكم مرحلي ومتكامل نهايته، ليصبح عصرا جديدا من عصور الأمة وعهد من عهودها ،عصر الثورة والبناء بمرجعية عربية إسلامية بعد عصور من الانحطاط والتخلف ظننا جميعا أنها ستطول أكثر، مما افقدنا الثقة في الذات و في الهوية، حتى أعادها لنا مواطن بسيط من حيث لا ندري ولا يدري،ابتدأت  من احتجاج على شغل واستحقاق اجتماعي وانتقلت إلى ثورة على ظلم طاغي،  ومن ثم  تعلّقت همتنا بمشروع لإعادة هيكلة كاملة لمجتمعات وأوطان، لم تلب فيما مضى احتياجات وطلبات أبنائها، بمستقبل أفضل في ظل عدالة وكرامة واستقلال، وهذا هو الوعد الذي نسعى إليه جميعا ... 
ونسال هنا ،المكونات والتيارات الحقيقية ،التي افرزها حراك المجتمع، ومكّنها من إدراك حجمها واثبات وجودها، أن تُرَشِدَ المسيرة وأن تسهر بحنو وحكمة على تطور آليات المجتمع في فضّ مشاكله وبناء مستقبله، وأن توفّر له الفضاء الحرّ والمجال الحيّ كي يعبّر عن نفسه ويظهر طاقاته الإبداعية بكل أصنافها وأشكالها، ويركب قطار البناء والتنمية دون الخوف من أن يتسلل لذاكرته معتوه أو سفيه أو جاهل أو عابر سبيل... ودون أن يجد في محطات رسوه حراسا وسدنة جدد لهيكل حديث، تصنعه الطليعة لنفسها ولشعبها، يحرّفون بوصلة المجتمع ويضيعون طاقات أبنائه، كما ضاعت من قبل طيلة عهود التخلف والجمود والوهن ومن بعدها عقود الاستعمار والإلحاق الحضاري ومن بعدها عقود الاستبداد والظلم والاستئثار والإستحمار. وبما أن طاقات الشعوب تنهك، لكنها لا تفنى و تضمر ولا تضمحل، وتتجدّد عندما يحين وقت بزوغها، وتتضخم عندما ينطلق قطارها، فعسانا، الآن وهنا.... أن لا نضيعها مرة أخرى، ونبكي ثورة بدأتها الشعوب وضيعتها النخبة في صراعاتها الهامشية وفي إدارة المجتمع .
-------
- سجين سياسي سابق
ouni_a@yahoo.fr