تجلّيات

بقلم
شكري سلطاني
التصوّف مدرسة للإصلاح والصلاح
 الصوفيّة أهم تيّار فكري ديني ساد لفترات تاريخيّة طويلة وساهم في تشكيل دعائم البنيّة الثقافيّة والوجدانيّة للحضارة العربيّة الإسلاميّة. والتصوّف علم قلوب لا علم كتب وعلم أرواح لا علم أشباح، أرواح معاني لا أرواح أواني، يتلقّى من الأذواق لا من الأوراق، فهو علم وراثة فلقد قال المصطفى سيد الخلق أجمعين صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم «من عمل بما يعلم أورثه الله علم ما لا يعلم»، وفي ذلك يقول بعضهم «علم التصوّف علم ليس يدركه إلا أخو فطنة بالحقّ معروف  وكيف يعرفه من ليس يشهده وكيف يشهد ضوء الشّمس مكفوف».
فلا يسعنا في هذا الظرف الصعب والجو الملئ  بالصراعات الإيديولوجية والتجاذبات الفكريّة والتّصادمات الحزبيّة إلا أن نعتصم بحبل الله المتين ونترك الخلافات الفرعيّة الاجتهادية ونربط قلوبنا بالله تعالى لنستمد منه القوّة والطمأنينة والعزّة والكرامة حتّى نعيد للدّين روحه فتفتح له مغاليق القلوب، وهذه مهمة دعاة الإسلام الربّانيين الصادقين المخلصين. وما مقصد الصوفيّة في كل عصر وزمان إلاّ العودة بالمسلمين إلى ضلال الأنس بالله تعالى ونعيم مناجاته وسعادة قربه وإرجاع روحانية الإسلام إليه.
أهميّة التصوّف وفائدته تتجلّى لنا بوضوح في أنه روح الإسلام وقلبه النابض، إذ ليس هذا الدّين أعمالا ظاهريّة وأمورا شكليّة لا روح فيها ولا حياة كما فهم الكثير من الناّس والعبادة ليست عبادة أشباح وحركات بدون معاني، فلا اعتبار للعبادة إلاّ من خلال التّجربة الروحيّة للذّات الكادحة نحو مولاها وذلك لتلازم المعنى بغايته. فالعبادة متلازمة غير منفصلة عن التّجربة الروحيّة طريق التّواصل الوجداني العاطفي القلبي وحبل الوّد مع الخالق جلّ جلاله.
قال حجّة الإسلام أبي حامد الغزالي بعد أن ذاق ثمرة التصوّف ولمس نتائجه «الدخول مع الصوفيّة فرض عين إذ لا يخلو أحد من عيب إلا الأنبياء» ويقول أيضا «إنّ الطريق إلى ذلك إنما هو تقديم المجاهدة ومحو الصفات المذمومة وقطع العلائق كلها والإقبال بكنه الهمّة على الله تعالى ومهما حصل ذلك كان الله هو المتولّي لقلب عبده المتكفّل بتنويره بأنوار العلم» .
القلوب أوعية وهي الأسيرة بالعوائق والعلائق، فلا نرتبط بدنيا الحسّ والشّكل والظاهر والمظاهر ونتّبع سبيل الهوى ولكن لنتعمّق في الجوهر ونعتبر ونغوص في عمق المعنى وروحه وباطنه ونغلّب باطن البصيرة على ظاهر البصر، فالحجاب قائم والشّيطان غاوّ والنّفس كالطفل شبّ على حبّ الرّضاع وقد صدق الإمام البوصيري فيما قال «وخالف النّفس والشّيطان واعصهما وإن محضّاك النّصح فاتهم فأنت تعرف كيد الخصم والحكم».
فلاح الإنسان وصلاحه متوقّف على صلاح قلبه وشفائه من الأمراض الخفيّة والعلل الكامنة، وما دام صلاح الإنسان مرتبط بصلاح قلبه يتعيّن عليه العمل على إصلاحه ومن هنا تظهر أهميّة التصوّف لكل مسلم صادق، ولا يخفى أنّ سعادة الإنسان في الدّنيا والآخرة بسلامة قلبه وتنقيته من الأمراض والعلل كالكبر والعجب والأنانيّة وحب الظهور وحب الرياسة والحقد والحسد والحرص والطمع والجشع والشّره .....يقول الله تعالى «يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» (سورة الشعراء الآية 88-89).
فالارتباط بالتصوّف ليس فقط مهم بل واجب، إن لم نقل فرض عين وهو من أهم الفرائض العينيّة لما ورد في القرآن العظيم: «قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ»(سورة الأعراف الآية 33) وما ورد في الكتاب والسنّة بالتخلّي عن كل وصف مذموم والتحلّي بكل وصف محمود، فإنّ الأمراض الباطنيّة والعلل الخفيّة وإن تكن قليلة كافيّة لإحباط عمل الإنسان ولذلك قيل «تطيّب جسمك الفاني ليبقى وتترك قلبك الباقي مريضا»
يخطأ من يظن انّه يستطيع أن يعالج أمراضه القلبيّة ويتخلّص من علله النفسيّة بمجرّد قراءة القرآن والإطلاع على الأحاديث والنّظر في الكتب، فكما أنّ للأبدان مستشفيات وأطبّاء وأدوية كذلك للقلوب. والعلل النفسيّة أشدّ احتياجا للطبّ فهي أشدّ خفاء وأكثر دقّة وأعظم خطرا .التصوّف هو المستشفى للأمراض الباطنيّة وما أحوجنا في هذا الزمان للتداوي والتخلّص من الشوائب والعلل.
 إنكار بعض النّاس لمصطلح التصوّف بأنه لم يكن على عهد الصحابة والتّابعين مردود عليهم لأن المتأمّل والناقد البصير والمتريّث يستنتج أنّ كثيرا من الاصطلاحات بعد زمنهم استعملت ولم تنكر مثل النحو والفقه والمنطق. وعلى كلّ فالتصوّف يدعو إلى تزكيّة النفوس وتهذيب الأخلاق وصفاء القلوب والوصول إلى الكمال الإيماني والتحقّق بمرتبة الإيقان والإحسان، فلا ضير في ذلك إن كان يحقّق المقصد والغاية النبيلة في الإقبال على الله بالقلب والهمّة وتزكية النفوس وتصفية القلوب من أوضار المادّة وإصلاح الأخلاق والوصول إلى مرتبة الإحسان.
التصوّف ينبني على ثوابت وركائز وأسس، فلا بدّ لسالك طريق الحقّ أن يتبينها ويغوص في جوهرها ويعمل بها وكما على القارئ أن يكتنه صفو المعين ويعلم أبعاد التطبيقات لينتبه ويعلم لأن من جهل علم قوم عاداهم.
مجاهدة النّفس وتزكيتها 
إنّ للنفس صفات خبيثة وأخلاقا مذمومة وإزالتها فرض عين . قال الله تعالى «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا* قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا» (سورة الشمس الآيات 7-8-9-10)، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم «المهاجر من هاجر ما نهى الله عنه والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله»، وكان أحدهم يقول «جاهدوا أهوائكم كما تجاهدوا أعدائكم» فلا بدّ من المجاهدة والتزكيّة العمليّة للنّفس وفطم نزواتها الجامحة وشهواتها العارمة «فشيطان كل إنسان نفسه» وصلاح الأحوال بصلاح الأعمال وصلاح الأعمال بصلاح القلوب، فمجاهدة النّفس ليس المراد بها استئصال صفاتها بل تعديلها وتسييرها وفق الشّرع المحمّدي لأنه المثل الأعلى للإنسان الكامل، ومن خالف الفطرة الإنسانية في المعالجة فما أصاب.
قيمة الصّحبة عند الصوفيّة
يقول سيدّنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلّم: «الرّجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» ويقول الإمام علي أبن أبي طالب كرّم الله وجهه «فلا تصحب أخا الجهل  وإيّاك وإيّاه  فكم من جاهل أردى  حليما حين آخاه. يقاس المرء بالمرء  إذا ما هو ماشاه  وللقلب على القلب  دليل حين يلقاه  وللشيء من الشيء  مقاييس وأشباه». 
وما نال الصحابة رضي الله عنهم من المقامات الساميّة والدرجات الرفيعة بعد أن كانوا في ظلمات الجاهليّة إلاّ بمصاحبتهم بدر الكمال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم ومجالستهم له. وما أحرز التابعون الشّرف العظيم إلاّ لاجتماعهم بأصحابه ويقول القطب الربّاني عبد القادر الجيلاني «من لم يرى مفلحا لا يفلح» .فعلى المكلّف أن يجاهد نفسه وهواه في الله ويختار صحبته الصالحة.
من مقامات اليقين عند الصوفيّة
* التّوبة : وهي من شروط صحّة السّير إلى الله، وشتانا بين تائب وتائب. فتائب يتوب من الذّنوب والسيّئات وتائب يتوب من الزّلل والغفلات وتائب يتوب من رؤية الحسنات والطّاعات.
* الخوف: هو انزعاج القلب من انتقام الربّ وهو من شروط الإيمان لقوله تعالى « وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (سورة آل عمران الآية 175).
وقد وعد الله بجنّتان  «وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ» (سورة الرحمان الآية 46) جنّة المعارف في الدّنيا وجنّة الزخارف  في الآخرة.
*الرّجاء: هو السّكون لفضل الله تعالى بشواهد العمل. والرّجاء يختلف عن التمنّي إذ الرّاجي هو الذّي يأخذ بأسباب الطاعة طالبا من الله الرّضا والقبول. قال الله تعالى  «فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا»(سورة الكهف الآية 110) 
*الصبر: صفة الأنبياء وحليّة الأصفياء ومفتاح الخيرات وله تقسيمات :صبر على الطاعات وصبر على المعاصي وصبر على المصائب.
*الرّضاء: مقياس المعرفة وهو سرور القلب بنور القضاء وتلقّّي المهالك بوجه ضاحك وهو أسمى مقاما وارفع رتبة من الصّبر.إذ هو السّلام الروحي الذي يصل بالعارف إلى حبّ كل شيء في الوجود يرضي الله تعالى حتّى أقدار الحياة ومصائبها يراها خيرا ورحمة ويتأملها بعين الرّضا فضلا وبركة.
*الصدق: مفهوم الصدق عند عوام المسلمين قاصر على صدق اللّسان ولكن السّادة الصوفيّة قصدوا بالصّدق مفهومه العام الذي يشمل بالإضافة إلى صدق اللّسان صدق القلوب وصدق الأفعال والأحوال.
*الزّهد: هي استصغار الدّنيا ومحو آثارها في القلب، فزهد العامّة في ترك ما فضل عن الحاجة في كل شيء وزهد الخاصّة في ترك ما يشغل عن التقرّب إلى الله في كل حال وزهد خاصّة الخاصّة في ترك النظر إلى ما سوى الله في جميع الأوقات.
*التوكّل: هو ثقة القلب بالله حتّى لا يعتمد على شيء سواه والتوكّل محلّه القلب إذ ليس التوكّل ترك الكسب والتّهاون وترك التداوي والاستسلام  للمهلكات  وعدم الأخذ بالأسباب.يقول الإمام علي أبن أبي طالب كرّم الله وجهه «ولا تقعد على كلّ التمنّي تحيل على المقدّر والقضاء فإنّ مقادير الرحمان تجري بأرزاق الرجال من السماء مقدّرة بقبض أو ببسط وعجز المرء أسباب البلاء» ّ.
*الإخلاص: هو إفراد الحقّ سبحانه وتعالى في الطاعة بالقصد أي التوقّي عن ملاحظة الخلق وهو سرّ بين الله والعبد. قال الفضيل بن عياض «ترك العمل من أجل النّاس رياء والعمل من أجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك الله منهما»
*الشّكر: صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه من السّمع والبصر وغيرهما إلى ما خلق من اجله.
حقيقة الموت عند الصوفيّة
الصوفية هي التيّار الوحيد الذي يرى أن حياة الإنسان تكمن في موته. فالصوفيّة إلى جانب إيمانها بمفهوم الموت كما قرّره الإسلام تقرّر وجود نوع آخر من الموت يستبق الموت الحتمي ويقول الشيخ محي الدّين عبد القادر الجيلاني «إذا فني العبد عن الخلق والهوى والنّفس والإرادة والأماني دنيا وآخرة ولم يرد إلا رحمته عزّ وجلّ وخرج الكلّ عن قلبه وصل إلى الحقّ» ويقول القطب أبي الحسن الشاذلي «عدمي وجودي ووجودي عدمي». والموت أنواع «موت أحمروهو مخالفة النّفس وموت أبيض وهوالجوع وموت أسود واحتمال أذى الخلق».
إلى جانب ذلك فالموت في منهج التربية والسلوك عند الصوفيّة يقوم بوظيفة الرّادع أو الحاجز الذّي يمنع النّفس عن عثوها ويكبح جماحها فهو بمثابة السّوط بيد الصّوفي يقود به النّفس في صعيد الطاعات إن هي فترت أو ملّت، كما يعدّ ذكر الموت عندهم الدواء الشّافي والحجّة الدّامغة التّي يقطع خواطر النّفس وحبائل الشيطان الذّان يحاولان معا إيقاظ الحرص عند مريد الحقّ من خلال إلهائه بتدبير معاشه.
الخاتمة
أخيرا لا يمكن أن نقيس التصوّف على بعض أدعياء التصوّف أو من خلال كلمات كانت أشبه بالشطحات التّي لا تستند إلى نص أو عقل أو برهان، كما أنّ عبادة القبور وأكل الجمر والزجاج ولحس السكاكين والشّعوذة ليست من التصوّف ولا تمت إليه بصلة وهي عار وعورة ووبالا على أصحابها، اولئك الحمقى الذين غرّهم بالله الغرور يعيشون من الأموات ومن إسم التصوّف الذي غدا بهم  إسم بلا حقيقة وقد كان من قبل حقيقة بلا إسم.
وإنّي أعني بالصوفيّة أرباب الأحوال أهل الطريقة الذّين غابوا عن التّزويق حيث خاضوا بحار التّحقيق، الذّين استخرجوا من لطيف المعاني ما يعجز عن فهمه الفحول وتنثني عن لحاقه جياد العقول إلاّ من جعل الله له نورا يمشي به في حدائق المعارف وأجنحة يطير بها في أفق اللطائف وهم أرباب المنهج العملي الذّين اختاروا الكتاب والسنّة قاعدة من أمثال عبد القادر الجيلاني وأبو الحسن الشاذلي والجنيد والحارث وعبد السلام الأسمر ....
المراجع
* رسائل في التصوّف من الكتاب والسنّة وشهادات أئمة الأمة(جمع وتحقيق عبد القادر العيساوي)
* حقيقة الموت عند الصوفيّة (الباحث محمّد الرزقي)
* فتوح الغيب (عبد القادر الجيلاني)
* المنقذ من الضّلال (الغزالي)
* من علم القلم (شكري السلطاني)
-----------
 استاذ أول علوم الحياة والأرض
chokrisoltani@gmail.com