في العمق

بقلم
د.مصدق الجليدي
الحداثة الأصيلة في مواجهة الجهل المقدَّس والعلم المدنِّس
 المعروف عن تكوّن المفهوم عامة أنه يأتي حلا منهجيا لمشكل مطروح بشكل جيد، والمشكل الذي جاء مفهوم الحداثة الأصيلة حلاّ له هو مشكل الثبات على الهويّة مع إكسابها طابعا متحرّكا وحيويّا، أي تَمثُّل الهويةِ سيرورةً مستمرةً متجددةً على الدوام تحتفظ على ما هو كوني في بنيتها الصّلبة، ومن ذلك عبورها للزمان بالتجدّد المستمر. حيث أن التبدل والتحوّل والتطوّر سنن كونية لا فكاك منها. وهو ما يستوجب التخلي عن النزعة الهووية في النظرة للهويّة والتعامل معها من موقع الحرّية التي تتأبى على الانغلاق في كهوف التقليد. 
فما هي سمات الحداثة الأصيلة التي نروم بناءها وما الذي يجعلها فعلا ممكنة؟
الحداثة الأصيلة هي التأليف المبدع بين مفهوم الهوية التي تجد نواتها الأصلية في منظومة الاعتقاد والقيم القرآنية، ومفهوم الحداثة الذي انبجس عن فلسفة الذات في السياق الأوروبي الحديث ولكنه يجد أول بذرة له في الوحي الأخير كذلك، وقد وقع تمثلهُ على بعض الأنحاء من قبل بعض علمائنا الكبار في مجالي الطبيعيات والطبائع العمرانية، بتخليصهم لهما من شوائب الميتافيزيقا الدغمائية كالتي ساقتها لهم الأفلاطونية المحدثة، ومن العوائق الإحيائية والغيبوية الأنتروبومورفية، قطعا مع التقليد العلمي اليوناني فيهما، لينبثق بعد ذلك مفهوما نظريا وإجرائيا مصاغا على نحو منهجي في سياق الحضارة الأوروبية الحديثة القاطعة مع ماضيها الأهلي البعيد (الماضي اليوناني) بعد استئناف نهضتها انطلاقا منه عبر قنوات تمثل العقلانية الرشدية إحدى أهمها، ولكنها المتصلة بماضيها القريب، ماضي اتصالها بالعالم الإسلامي الموسوم بتقدم العلوم العربية خارج الأفق الابستيمي اليوناني وضمن ابستيمية ختم النبوة بما هو رفع للوصاية عن عقل الإنسان، ودعوة حرة للنظر في السماوات والأرض لبناء علوم الطبيعة، وفي تاريخ الأقوام وأحوال المجتمعات لبناء علوم العمران البشري.
إن القيمتين الأساسيتين للحداثة كما يذكرنا بذلك آلان توران في كتابه «نقد الحداثة» هما الفرد والعقلانية. ولقد كان من المستحيل على الفكر الغربي بناء مفهوم الفرد انطلاقا من الفلسفة اليونانية، لأن أكبر نص فيها هو النص الأفلاطوني الذي يروج في «الجمهورية» لأسطورة المعادن التي يتراتب الناس وفقها مراتب وجودية ومن ثمة مراتب اجتماعية، كتراتب المعادن: ذهبا ففضة فنحاسا فقصديرا، وذلك حتى يسدّ الباب أمام محاولة العبيد منافسة أسيادهم في حكم المدينة، إذ عليهم «الرضا بما قسمهم القدر لهم». هذا، بينما نجد القرآن الكريم، وبمنتهى الموضوعية والعلمية، يذكّر الجميع بالأصل الطبيعي الواحد للإنسانية، وهو التراب، فلا ذهب ولا فضة ولا نحاس ولا قصدير، وهذا هو الشرط الأدنى والأول لبناء المفهوم المدني الحديث المعروف بالحق الطبيعي الذي ينتج عنه  تساوي البشر مدنيا بعد تساويهم طبيعيا كما سُلِّم لهم بذلك دينيا. ومن ثمة إمكان ظهور مفهوم الإنسان والفرد كونيا، وعلى أساسه يبنى مفهوم المواطن لاحقا لا في الجمهورية الأفلاطونية وإنما في الدولة الحديثة. 
وفي الحقيقة، تتمثل إضافة الغرب على هذا الصعيد في أمرين:
 أولا: الإثبات العلمي المنهجي لهذه الحقائق الكونية البسيطة بعدما كانت مجرد مُوجهات أخلاقية في تراثنا. وقد تم ذلك بتناوب وتعاضد جدلي بين الفلسفة والعلم الحديثين مع ديكارت وكانط وكوبرنيك وغاليلي ونيوتن وداروين. 
وثانيا: القيام بثورات سياسية أزاحت الموانع السلطوية المادية (النظام الملكي وآلته القمعية والاقتصادية الإقطاعية) والرمزية (النظام الكنسي المتواطئ مع الملوك الجبابرة). 
 هذا بخصوص المكـــون الأول للحداثـــة وهو الفــرد (أو الإنسان)، أما المكون الثاني وهو العقلانية، فقد وجد أساسه الأول كذلك في الوحي الأخير الذي حثّ  على النظر العقلي الإشكالي لما في السماوات والأرض وعلى استخدام العقل في ما نرى وما نسمع وأن نأخذ بالأسباب الموضوعية لبناء العالمين المادي والاجتماعي، وهو ما أفرز لاحقا كل ذلك التراث الفلسفي والعلمي في الحضارة الإسلامية، متوّجا بترييض العلوم الطبيعية، كما في بصريات ابن الهيثم، وفيزياء البيروني وجغرافيته، واستخدام منهج الدّراية والملاحظة التجريبية الاستقرائية في بناء علم العمران البشري (ابن خلدون) ومنهج المقاصد الشرعية في بناء أحكام العقل العملي (الشاطبي وابن عاشور)  ثم ما أنتجه العقل البشري لاحقا انطلاقا من فعل التثاقف بين أوروبا والعالم الإسلامي منذ تاريخ الحروب الصليبية، والانتباه إلى الشكل العام للتوجه العقلاني مع الرشدية عبر الفيلسوف اليهودي ابن ميمون -الذي تعلم في إطار الثقافة الإسلامية بالأندلس- ثم التحول عن ذلك إلى المنهج الاستقرائي الذي جلبه أساتذة أكسفورد من جامعات الأندلس الإسلامية، وهو ما يشهد به كل المنصفين من مؤرخي العلوم مثل ألكسندر كورييه وبريفولت وروجيه غارودي وغيرهم.
هذا بخصوص الأساسين الرئيسيين للحداثة في التصور الغربي (الفرد والعقلانية). ولكن الحداثة الأصيلة لا تتخذ من هذين الأساسين مبدأين مطلقين على نحو تبشيري خلاصي أخير يتجسدان في النهاية في النموذج الليبيرالي الذي اعتبره البعض بمثابة الديانة الأخيرة للإنسانية (فرانسيس فوكوياما). فإلى جانب الفرد توجد الجماعة ابتداء من الأقربين، وتوجد كذلك الأمّة، الأمة بالمعنى الملّي (الأمّة الإسلامية) والأمّة بالمعنى التوحيدي الشامل (الحنيفية الإبراهيمية وبقية الديانات التوحيدية الثلاث) والأمّة بالمعنى الكوني (الجماعة الإنسانية) وهذا كله يمكن استخلاصه من القرآن الكريم ومن السيرة النبوية، ودستور المدينة ووثيقة العهد النبوي لنصارى نجران والسلوك العُمري والأيوبي في القدس وسلوك المسلمين مع مسيحيي ويهود إسبانيا في العهد الأندلسي كلها وقائع شاهدة على ذلك. كل هذا يحدّ من تحول الفردية إلى تلك النزعة الفردانية الأنانية التي تطبع بنية الشخصية الغربية المعاصرة، والتي تحاول بعض المنظمات التخفيف منها بتأثير خفي أو جلي من بقايا الأخلاق المسيحية.
أما العقل، فقد كشف في الأصالة عن حدوده كذلك، وهي تلك التي ذكرها ابن خلدون. أي عجزه عن إدراك كل ما في الوجود وعجزه عن القطع في الغيبيات. وهو ما يستوجب تبنيه الوعي الشهودي عوضا عن الإخلاد إلى الوعي الجحودي. 
وبالتالي، فإن الحداثة الأصيلة، كما نراها، خلافا للحداثة الغربية المعلِنة لموت الإله، المنتهية بإعلان موت الإنسان، حداثة شهودية بالمعنى الخلدوني للكلمة : إنها حداثة حاثّة على استخدام أقصى طاقات العقل على الفهم والإبداع مع الوعي بحدود علمه. يقول ابن خلدون:
«واعلم أنّ الوجود عند كل مدرك في بادئ رأيه أنه منحصر في مداركه لا يعدوها، والأمر في نفسه بخلاف ذلك، والحق من ورائه... وإذا علمت ذلك فلعل هناك ضربا من الإدراك غير مدركاتنا، لأن إدراكاتنا مخلوقة عنده وخلق الله أكبر من خلق الناس والحصر مجهول والوجود أوسع نطاقا من ذلك، والله من ورائهم محيط... وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه، بل العقل ميزان صحيح، وأحكامه يقينية لا كذب فيها. غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة، وحقيقة النبوّة، وحقائق الصفات الإلهية، وكل ما وراء طوره، فإن ذلك طمع في محال.
ومثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب، فطمع أن يزن به الجبال، وهذا لا على أن الميزان في أحكامه غير صادق، لكن للعقل حدّ يقف عنده ولا يتعدى طوره، حتى يكون له أن يحيط بالله وبصفاته، فإنه ذرة من ذرات الوجود الحاصل منه.» 
وفي الحقيقة هذا ما سلم به فيلسوف الحداثة المؤمن «امانويل كانط» كذلك، الذي قال: «وضعت حدا للعقل لأفسح في المجال للإيمان» (أسس ميتافيزيقا الأخلاق). ولكن هذا ما تخلت عنه الفلسفة الوضعية أيضا التي أفرزت نظرة مادية مجحفة إلى العالم وإلى الوجود الإنساني. وفي الحقيقة، وبالعودة إلى كانط، إن الحديث عن الإيمان في ما وراء العقل، لا يعني أنه تخل عن العقل وجنوح إلى ضرب من الجنون، بل هو توسعة لمفهوم العقل والعقلانية.
وإنه لمن الطرافة بمكان أن نقف مؤخرا على تصور جديد ومغاير للعقلانية نجده عند الفيلسوف وعالم الاجتماع والإناسة إدغار موران، الذي خرج بالكامل عن مفهوم اللوغوس اليوناني والعقلانية بمعناها الحداثي والوضعي، وانفتح على مفهوم جديد لها لا نجد شبيها له إلا في الوحي، أو في الوعي الشهودي. حيث إنه يقترح علينا عقلانية مفتوحة، هي ثمرة نقاش حجاجي بين الأفكار، أو ثمرة ما سماه هابرماس بالعقلانية التواصلية، التي هي ليست حكرا على أي نسق فكري. حيث يقول: إن «كل نزعة عقلانية تتجاهل الكائنات والذاتية والوجدان والحياة هي نزعة لا عقلانية. على العقلانية- يقول موران- وأن تعترف بأهمية الوجدان والحب والتوبة. العقلانية الحقيقية-دائما بحسب موران- هي التي تعي حدود المنطق والنزعة الحتمية والنزعة الآلية. إنها تعلم جيدا أن العقل الإنساني لا يمكنه معرفة كل شيء وأن الواقع يحبل بالألغاز...باختصار إننا نتعرف على العقلانية الحقيقية في مدى قدرتها على الاعتراف بحدودها» . وهكذا نكتشف بغبطة لا نخفيها أن «إدغار موران» ذو وعي شهودي وأنه خلدوني بطريقة شبه حَرفية حتى وإن جاز عدم معرفته بابن خلدون بدقة، إذ لا يفوته أن يعرفه بما هو أحد الآباء المؤسسين لعلم الاجتماع.
لقد دخلنا في ما سبق إلى الحداثة الأصيلة من مدخل الحداثة فأصّلناها في القرآن وفي السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي وفي ابستيمية ختم النبوة، ولكن يمكننا كذلك أن نلِجَها من المدخل المقابل الذي هو مدخل الأصالة، لنطرح رديفا لمفهوم الحداثة الأصيلة هو مفهوم الأصالة المبدعة باعتبار أن الإبداع يستوجب في حد ذاته الحرية التي هي شرط بناء الذات على نحو حديث، كما يشترط التجدّد وإطلاق قدرات الفرد المعرفية والتخييلية. 
ولكن علينا التنبيه إلى أن الأصالة لا تعني ضرورة القدامة، بل تعني في جوهرها التطابق مع روح الحضارة الأصيلة التي هي روح متحررة من قيود التقليد ومجترحة لسنة الإبداع والتجديد. 
لا يمكن التفكير في معنى إبداعي للأصالة في غياب حس تاريخي مرهف متحرر من الوعي الهووي الجامد. هذا الحس التاريخي الذي يجعلنا مدركين لا فقط بكون الأصالة لا تعني القدامة، بل كونها كذلك لا تتنافى ضرورة مع كل تصور للحداثة. والقاسم المشترك الثابت بين القديم والحديث هو القيم الإنسانية الكونية التي نبه إليها الوحي الكريم، وكما أدركها العقل الإنساني وتأولها تدريجيا وعلى أنحاء مختلفة، بحسب خاصيات المكان والزمان، مثل قيم الحرية والعقل والمسؤولية والأمانة والعمل المثمر والرحمة والإبداع. 
ولعل خصوصية الثقافة الإسلامية الأصيلة هي كونها ثقافة ذات توجه عالمي مستلهمة من الوحي الأخير الذي هو رسالة موجهة للعالمين، وليس للعرب وحدهم أو للعجم وحدهم. فمهما اختلفت مظاهر الحضارة والعمران وأساليب العيش بيننا كمسلمين وبين بقية شعوب العالم وأممه فإن تلك المظاهر جميعا تظل منطوية على جملة من القيم الكونية المتجاوزة للقشرة الخارجية للحضارة. 
تجدر الإشارة كذلك إلى أن أسلافنا من بناة الحضارة لم يكونوا سلفيين، بل كانوا متمثلين لمعنى المعاصرة من خلال فهمهم لحاجات عصرهم من جهة، ومن خلال انفتاحهم على إنتاجات العلماء وأهل الصنائع والحرف المعاصرين لهم من جهة ثانية. فاطلعوا على علوم وفنون وفلسفات الفرس والهنود والصينيين واليونانيين وغيرهم وتفاعلوا معها تعلما واقتباسا وأخذا وردا وتطويرا وتعديلا وتصحيحا. وآثار هذا التفاعل ظاهرة للعيان في ما كتب الأسلاف ودونوا وفي مختلف ظواهر العمران لديهم، مع أنهم قد أسبغوا عليها طابعا إسلاميا توحيديا في الغالب. أما ما خالف هذه الروح التوحيدية، فهو ليس بأصيل، بل هو دخيل، وذلك بمعنيين: أولهما المعنى الواقع في المستوى الأول من الفهم وهو المعنى العائد إلى العقيدة الإسلامية التوحيدية، والثاني المعنى الواقع في المستوى الثاني من الفهم الذي هو المعنى الفلسفي والعلمي الذي يرد الظواهر كلها إلى كليات واحدة دونها نقع في التفكير الخرافي والأسطوري المرفوضين من تلك العقيدة التوحيدية ذاتها.
وإذا ما عدنا إلى معنى الأصالة اللغوي، لوجدناها تحيل إلى معنيين: الأول هو مطابقة الشيء لذاته حصرا، أو ما يعبر عنه بالفرنسية بـ authenticité، أي النسج على غير مثال أو الإبداع، والثاني هو العود إلى الأصل أو ما يفيد بالفرنسية originalité، أي أن الأصل هو المنبع أو الجذر والأصول هي المنابع والجذور، أو المنابع التي تغذي الجذور. فتصبح المعالجة الأصيلة لموضوع ما هي عودة إلى جذور المسألة التي يطرحها. أي عودة جذرية تتطلب مراجعة كل ما تراكم حول النص من أفهام واجتهادات أو كل ما لحق بمقاصده من تحريفات، والعودة إلى كل رصيد إمكانات الفهم المفتوحة، لإعادة النظر في المسألة بصفة كاملة انطلاقا من إمكانيات الذات المفكرة والمتفكرة والمتدبرة المتحررة من القوالب الجامدة، لا الذات المستلَبة للمعاني والاجتهادات المتقادمة. فتصبح الأصالة لا محيلة فقط إلى الهوية، بل إلى الذات أيضا ، وهو ما يفضي إلى جدل الذات والهوية أو الحرية والهوية، أي الاشتغال في براديغم جدلي: حرية/هوية، دون إقامة تعارض بين هذين المفهومين. بما أن النّص المؤسس للهوية نفسه يؤسس لمفهوم الحرية بالدعوة إلى النظر الحر في الآفاق وفي الأنفس وفي التجارب التاريخية للأمم والمجتمعات. بهذا يصبح الإبداع من صميم الأصالة لا مجرد صفة نلحقها اعتباطيا بها. فلا تكون الأصالة الحقّة إلا أصالة مبدعة مفضية إلى حداثة أصيلة.
كما يمكننا القول في الآن نفسه، تماشيا مع تصورنا التربوي للوحي المتدرج بالبشرية إلى طور النضج والعقل الاستدلالي، أن الحرية في طور ختم النبوة هي التي تكون أصلا للهوية، أي الاختيار الحر للدّين من قبل الإنسان المتعقّل لوضعه في العالم الأخلاقي هو الذي يؤسس هوية الجماعة المشتركة في نفس الدين. 
وبهذا يتم رفع التعارض بين الحرية والهوية. في إطار الهوية الأصيلة يتدرب الفرد على الحرية، وعندما يصبح حرا بحق يختار هويته بكل رضا وانعتاق من قيود الضرورة. ويكسب من ذلك خلق التسامح بعد أن كسب في البداية خلق الانظباط والالتزام .
هذه إذن باختصار بعض المداخل والمقدمات النظرية لبناء مفهوم الحداثة الأصيلة والأصالة المبدعة المتجاوزة لواقع الازدواجية الثقافية: حداثة/ أصالة. أو تغريب/ تأصيل. وهذا النمط من الحداثة الذي نعيد بناءه من داخل ممكنات الثقافة الإسلامية ووعودها بالتحاور مع الآخر الذي نشترك معه في الإنسانية وفي الهوية الأرضية والقيم الكونية، نمط يختلف عن تلك الحداثات القسرية التي تستورد جاهزة ومعلبة من أوروبا القلقة من هويتها ومن مسيحيتها ويبتلعها بعض نخبنا وبعض أساتذة الجامعات في بلداننا كما لو أنها أقراص مُعَدَّة للشفاء من أمراض التراث يتجرعونها ثم يجرعونها لتلامذتهم وطلبتهم بعد ذلك دون الانتباه لمفاعيلها الثانوية الخطيرة على صحة كيان الأمة وهويتها وشخصيتها الثقافية واستقلالها الاقتصادي والسياسي. كما أن هذا النمط من الأصالة الذي نربطه عضويا بمعنى الإبداع يختلف عن ذلك النمط من التأصيل المنتج لهوية جامدة منغلقة وقاتلة. بحيث نتجاوز بالحداثة الأصيلة والأصالة المبدعة نوعي التطرف والأصولية اللذين يهددان مجتمعنا وهما الأصولية السلفية والأصولية العلمانية، أو التقدمية المغترِبة والسلفية المحترِبة. كما نقدم من خلال نمط الحداثة الأصيلة إجابة عن حالة القلق والحيرة التي يعيشها السواد الأعظم من الناس في مجتمعنا الذين هم واقعون تحت التأثير السلبي للازدواجية الثقافية المرادفة في هذا السياق للهجانة الثقافية.
المراجع: 
بالعربية:
• القرآن الكريم.
• ابن خلدون، المقدمة، ج 2 الدار التونسية للنشر، 1984.
• بن عاشور، محمد الطاهر، تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد وتفسير الكتاب المجيد، دار سحنون للنشر والتوزيع، 1997.
• الجليدي، مصدق، ختم النبوّة: ابستيمية مولد العقل العلمي الحديث، تونس، 2002.
• المرزوقي، أبو يعرب، آفاق النهضة العربية ومستقبل الإنسان في مهب العولمة، دار الطليعة، بيروت 1999.
• ..................، شروط نهضة العرب والمسلمين، دار الفكر، دمشق، 2001.
• موران، إدغار، تربية المستقبل، المعارف السبع الضرورية لتربية المستقبل، ترجمة عزيز لزرق ومنير الحجوجي، منشورات اليونسكو، 1999، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2002، ص. 25.
بالفرنسية
• Touraine, A., Critique de la modernité. Paris: Librairie Arthème Fayard, 1992.
• Kant, E., Critique de la raison pure, Quadrige, Puf, Paris, 1990. 
• Koyré, A., Etudes d’histoire de la pensée scientifique, Gallimard, 1973. 
------------
- أستاذ باحث بمركز البحوث والدراسات في حوار الحضارات والأديان المقارنة بسوسة والمدير العلمي لهذا المركز
msaddakj@yahoo.fr