حديقة الشعراء

بقلم
عبداللطيف العلوي
عن دولة ما بعد الانسان
 ويُقالُ بأنّهُ كان هنالك في الزّمنِ الغابِرْ ..
مخلوقٌ يُدْعى الإنسانْ 
ويُقالُ بأنّه مَعجونٌ من طينٍ حَمئٍ وعَناصرَ مُخْتَلِفَهْ :
ندَمٍ ، ودَمٍ ، وعُصيّاتٌ تَلِفَهْ ..
أعلاهُ – كما وصَفُوا – كُرةٌ كالزِّئبَقِ مُفرغَةٌ 
تتوسّطُها العينانْ
ولهُ ما يشبِهُ سِيخَ النّارِ إذا فتحَ الفكّيْنِ ، 
لهُ في الأسفلِ منهُ سلاحٌ يصلُحُ لاستشعارِ اللّذّةِ ، 
أو للقتلِ الباردِ باسمِ الدّولةِ ، 
وقتَ الحربِ ووقتَ السّلمِ وأوقاتَ الطُّغْيانْ 
وتقول رواياتٌ أخرى ..
لا يُعْرفُ بالتّحديدِ متى كان البَدْءُ ؟ 
لكنّ سحابًا مَّا قد أمطرَ في درب التّكوينِ ، 
فكانَ بمحض الصُّدفةِ ما قد كانْ ..
ذكرٌ ساديُّ الشّهوةِ ، بين عراءِ التّيهِ وأنثاهُ 
ويدٌ في العَتْمةِ ترعاهُ 
وغويٌّ أَمْردُ يُدني من شفتيهِ الكالِحتينِ..
رذاذَ الماءِ وفاكهةَ العصيانْ
ومضى زمنٌ ...
ألِفَتْهُ الأرضُ وأرختْ بعدَ جناحِ الذّلِّ مناكِبَها ..
وسعى فيها لا يعرفُ أين يُصادِفُ بابَ الخُلْدِ ،
وأين سيسقُطُ أو تتخطّفَهُ الغرْبانْ ..
لا فرقَ هنالكَ بين الصُّدفةِ والقدَرِ ..
تحتاجُ فقطْ أن تغسلَ دربَك 
من وهمِ خطيئتِكَ الكبرى 
وترى في الزّهرةِ قلبَكَ 
أو في التّوتِ وفي العنبِ البرّيّ 
وفي أعذاقِ النّخلِ وحبّاتِ الرُّمّانْ ..
وتقولُ رواياتٌ أخرى ..
لمْ يَمضِ زمانٌ حتّى اعتفنَتْ طِينتُهُ ،
واستوطنَ بينَ مفاصِلِها الشّوكُ المُتوحِّشُ 
والنّملُ المُستنسَخُ 
والدّيدانْ 
كانت في البدْءِ مراودةُ الأنثى وطقوسُ الموعدِ ، 
فانقسَمَ الغرباءُ إلى قطعانِ إناثٍ ، 
مثلَ الرّيحِ مُسخّرةٍ 
وفُحولٍ قاهرةٍ 
وإلى ... خِصيانْ !
قابيلُ ترفَّقْ .. لا تستعجلْ جلْدَ أخيكَ ، 
غدًا سيكونُ غطاءَكَ فاخرج عنه قليلاً 
كيف تضيقُ الأرضُ – تمامُ الأرضِ وما وسِعتْ – 
بمجرّدِ شخصيْنِ اثنينِ ،
فيموتُ الأوّلُ من قبلةِ قاتِلِهِ ،
ويموتُ الثّاني تحت سياطِ اللّعنةِ أو حجرِ النّسيانْ ؟
وتقول رواياتٌ أخرى ..
إنّ الميزانَ انشقَّ وراحَ – بلا سببٍ – يتأرجحُ 
منذُ بداياتِ التّاريخِ على قرنَيْ ثورٍ نزِقٍ ..
فأضاعَ الماءُ الصّالحُ مجراهُ 
ويُقالُ بأنّ القحطَ أصابَ الزّرْعَ ...
وأفنى الضّرعَ ...
ومرّ على ريشاتِ القلبِ فأيبسها ..
فمضى المُتوحّدُ يعجنُ من صلصالِ الخوفِ 
وضيقِ الحيلةِ آلهةً ...
ويُربّيها في شرفةِ عقلهِ ، أو في بيتِهِ ،
يُطعمها الصّلواتِ ويسقيها الدّعواتِ ، 
ويؤمنُ حينًا .. يكفرُ حينًا ملءَ الجوعِ ، ويعبدُها في السّرِّ 
ويقتُلُها بعضَ الأحيانْ ..
لكنّه يرجع ثانيةً فيُوسّدُها عينيهِ وقلبَهُ قبل الموتِ 
ويرجوها الغفرانْ ..
وتقولُ رواياتٌ أخرى ..
في القرنِ الحادي والعشرينَ ...
أضاع الذّئبُ غريزتَهُ الكبرى 
ما عادَ سبيلُهُ أن يبقى ..
ما عادتْ أسلحةُ الحمقى ..
تكفيهِ لكيْ يتقاسمَ كأسَ الموتِ مع الأعداء مناصفةً ، 
ويعودَ إلى أطفالهِ بعدَ الحربِ بكيسِ الغلّةِ 
والحلوى وتصاويرِ الذّكرى ..
وجرتْ في النّهرِ مياهٌ فاسِدةٌ ..
سمّاها الشّاعرُ حرّيّهْ
والحاكمُ حربًا أهليَّهْ ..
لو كانتْ هذي الفاجرةُ الحمّالةُ تعرفُ
كم شرِبتْ من دمِّ النّاس ِ ولم تَسْكَرْ
لو أنّ الرّحلةَ كانت أرحمَ ممّا كان قليلاً 
أو أقصَرْ ..
هل كان سيختلفُ القربانْ ؟؟
هل كان الهِنديُّ الأكبرْ 
يترجّلُ عن ظهرِ التّاريخِ 
وينزعُ فروةَ رأسِ أخيهِ الغائبِ ؟
هل كان الزّنجيُّ يسافرُ عبرَ بحار الموتِ  ؟
وهل كانتْ ستبُورُ حقولُ القطنِ الأحمرْ ؟
وشجيراتُ الكاكاوِ وأوراقُ التّبغِ الملكيِّ 
وأسواقُ الكَتّانْ ؟؟
أحزانُك لا تُبْكي أحدًا ..
يا هادمَ جِسرِ اللّذّةِ ، 
لا تُبْكي أحدًا ... هذي الأحزانْ 
فَاشربْ يا « هيكلُ»  نخبَ ضمائِرِنًا ..
كمْ عِشْتَ تبشّرُنا بثقافةِ أحذيةِ العسكَرْ 
ونُعوشِ الإخوانْ 
واليومَ يحقُّ لمثلكَ أن يَفْخَرْ ،
ويحقُّ لمثلك أن يحيا من دونِ صداعٍ نِصفِيٍّ ، 
ويطيرَ بعيدًا عن صخبِ الموتى وحرافِيشِ الحاراتِ ،
بعيدًا عن وجعِ الثّوراتِ وأمجادِ الثّيرانْ 
ويحقّ لمثلكَ أن يبكي طرَبًا ويكسّرَ آخرَ أقلامِهْ ..
ما القدسُ وغزّةُ ؟ ما بيروتُ وبغدادُ ؟
ما الشّامُ وديرُ الزّورِ ورابعةُ العدويّةُ والتّحريرُ ؟
وتفويضُ الشّيطانْ ؟ !!
أشياءٌ لا تعني شيئا... 
في عرفِ حقوقِ الإنسانْ 
عن دولةِ ما بعد الإنسانْ !!!
-------
-  شاعر تونسي
alouiabdellatif222@gmail.com