بهدوء

بقلم
د.لطفي زكري
جدل الانغلاق والانفتاح في العلاقات البينثقافية
 بالتوازي مع التجاذبات السياسية التي تشهدها المنابر الإعلامية والمجالس العامة والخاصة، يسود الساحة الثقافية استقطاب فكري بين شريحتين تتبادلان التهم فــي تعبير صريح عن حجم المخاوف التي تعانــي منها كلتاهمــــا. وحتى لا نسترسل في تكثيف الضباب الذي يحـــول دون الفهم نقول صراحة أن الأمر لا يتعلق بكائنــــات غريبـــة عن كوكب الأرض بل بالكائنات التي قدت منها وحملت النسب إليها. إنهم بنوا آدم الذين أبدعــــوا من الحلول الثقافيـــة ما يحول دون خضوعهم للطبيعة وما يغذي روح التنافس بينهم رغبة في التمايز وإثبات الذات. ولمّا كان التنوع الثقافي قدر الآدميين المنتشرين في أرجاء المعمورة كان لزاما عليهم أن يجيدوا فنّ العيش المشترك سواء كان ذلك على أساس المواطنة الكونية - طالما كانت الأرض وطنا للجميـــع- أو على أساس الضيافة الكونية - بحجة أن العالم بدأ بدون إنسان وسينتهي بدونه-، لكن المتأمل في واقع الحال يكتشف عكس هذا تماما حين يواجه عالما منشطرا على ذاته بين دعاة الحوار ودعاة الصدام. بين من يعتبرون السلم أصلا والحرب استثناء ومن يعتبرون الحرب أصلا والسلم استثناء.  بين من يشيد بالتنوع والتعدد ومن يتخوّف من تكاثر الثقافات واختلافها. 
يختزل هذا التوتر في العلاقات البينثقافية في مجالسنا ومنابرنا في المواجهة بين مشروعين هما المشروع التحديثي والمشروع الأصولي. وكلاهما يرى في نظيره خطرا داهما أو مشروعا انتحاريا للذات. فالتحديثي يقول عن الأصولي أنه منغلق ورجعي ومتخلف وعدو للإنسانية أما الأصولي فيقول عن التحديثي أنه تغريبي ومنبت وعدو لهويته ولتاريخه. بحيث يتراءى المشروعان على طرفي نقيض ويستحيل على أحدهما أن يتحمّل وجود الآخر أو يقيم وإياه علاقات حوار وتعايش سلمي. وهو ما يدعونا إلى التفكير في مدى وجود اختلاف جوهري بين مشروعين إقصائيين لا يتركان فرصة للحوار بينهما. فهل تفرق الأصالة عن الحداثة فعلا؟ وهل الانغلاق شر محض والانفتاح خير محض؟ وهل تعنينا الاتهامات أم حقيقة المضامين؟ أي هل يؤسس المشروعان لاستراتيجيات اتباعية أم لاستراتيجيات إبداعية؟ وإذا سلّمنا بعمق الاختلاف بين الاتباع والإبداع فهل لنا أن نحافظ على نفس التمييز بين الاتباع والابتداع من جهة وبين الابتداع والإبداع من جهة ثانية؟
يبدو مما تقدم أن المشكل الحقيقي يكمن في مساءلة نزعتي الانغلاق والانفتاح الثاويتين وراء السجال الأصولي الحداثي. فقد درج مثقفونا على تجريم النزوع إلى الانغلاق ومدح النزوع إلى الانفتاح. وهو تقليد تشوبه عدة هنات لعلّ أهمها عدم الوعي بالعلاقة الجدلية بين الغلق والفتح. ذلك أنه لا يمكن الحديث منطقيا عن أحد الحدين بمعزل عن الآخر، فالدعوة للانغلاق تفترض منطقيا الوجود في وضع الانفتاح مثلما أن الدعوة إلى الانفتاح تفترض منطقيا الوجود في وضع الانغلاق. فليس المشكل في أن يكون المثقف منغلقا أو منفتحا وإنما المشكل الحقيقي هو في الدافع إلى الانغلاق أو الانفتاح، هل هو دافع الحياة والمحافظة على البقاء أم هو دافع الموت والرغبة في الانتحار؟
قد يسعفنا عالم الأحياء بما يساعدنا على فهم هذه المعادلة. فالكائن الحي لا ينغلق ولا ينفتح إلا بدافع الحفاظ على الحياة والرغبة في البقاء. فالمبدأ بالنسبة إليه ليس الانفتاح أو الانغلاق وإنما هو الحياة والمحافظة على البقاء. ويبدو أن المجتمعات البشرية لا تشذ عن هذه القاعدة فهي تراوح في تربية أفرادها بين القيم المغلقة وهي القيم الاجتماعية والقيم المفتوحة وهي القيم الإنسانية. فلا يمكن الدمج في تربية الفرد بين الاجتماعي والإنساني لأن الفارق بينهما هو كالفارق بين المغلق والمفتوح. بحيث لا يمكن لمجتمع ‏أن يعلّم أفراده محبّة الناس جميعا والحال أنه يحرص على تحذيرهم من الأعداء والغرباء. لذلك يعمد إلى تلقينهم محبته الخاصة عبر الغريزة الاجتماعية العفوية التي تؤمّن له الانغلاق المناقض للتطلع إلى الأفق الإنساني ويحول دون محبة الإنسانية. ولا يمكن لأي عضو اجتماعي أن يكون إنسانا إلا بالتخلي عن عضويته الاجتماعية واستبدالها بعضوية إنسانية. إن الانفتاح على القيم الإنسانية يعني بالضرورة إضعاف النزوع الاجتماعي المغلق وذلك بالتخفف من أعباء الانتماء المحلي والتحرر من صلابة الروابط التي تشدّ الفرد إلى مؤسّسات المجتمع.
ويمكننا أن نميز في انغلاق المجتمعات على نفسها بين وجهين أولهما الانغلاق المادّي ويكون بما تشيده من أسوار تحصن بها أعضاءها وهو شأن المجتمعات الحضرية وثانيهما الانغلاق النفسي ويكون بما تغذيه من عصبية في وعي أعضائها أو ما ترسمه من وشم على أجسادهم فتحول بينهم وبين مغادرة القبيلة وهو شأن المجتمعات القبلية والبدوية. وهو ما عناه بن خلدون بقوله: «إن العصبية في البيداء تلعب دور الأسوار في المدن». بيد أن هذه الصور من الانغلاق لا تلغي الانفتاح بل تجعله مشروطا ومنظما بما يلبي الحاجات الجماعية الضامنة للحياة وحسن البقاء. فتـــرى أبواب الأسوار تفتح في مواعيدها للداخل والخارج بما تقتضيه شروط العمران والعيش المشترك. ولا يختلف الأمر كثيرا في المجتمعات القبلية والبدوية حيث تتراخى العصبية بما تقتضيه آداب الضيافة فإذا تجــــاوز الضيف حده ثارت ثائرة الحمية معلنة نقض الاستضافــــة وداعيــــة إلى المواجهة.  
يبدو إذن من خلال هذا التلازم الجدلي بين الانغلاق والانفتاح أن كل المواقف التي تقابــــل بيــــن النزعتيـــــن هي في الواقع مواقف قاصرة عن تمثل مخاطر المقابلة والفصل بينهما. فليس الانغلاق شرّا محضا وليس الانفتاح خيرا محضا، بل الخير في الوعي بالعلاقة الجدلية التي تحكمهما والشر في الاحتكام لإحداهما دون الأخرى. فقد تتفق بعض العقول حول مخاطر الانغلاق وما يجلبه للذات من فقر مادي وروحي يحول دونها والقدرة على الاستمرار في البقاء فضلا عن الاستمرار في الإبداع الفكري والمادي، فتسارع إلى تسويق البديل وهو الانفتاح زاعمة أنه الأمل الوحيد المتبقي أمام كل ذات تحتضر ثقافيا. وهو تصور يبني مشروعيته على تهافت نقيضه متناسيا أن الانفتاح بدوره مغامرة أو بالأحرى مجازفة قد تفضي إلى دمار لا يقل خطورة عن الدّمار الذّري. ذلك أن الاطلاع على ثقافة الآخر والانبهار بها يضع الثقافة المحلية في موضع اتهام ومحاكمة على قاعدة «المغلوب دوما مولع بتقليد الغالب» بتعبير بن خلدون. وهذا يعني أن الانفتاح ليس متاحا لجميع الثقافات بل يقتصر على تلك التي ما تزال في طور العطاء المادي أو الفكري الذي يؤهلها لتحمل صدمة الملاقاة. بحيث تكون الثقافات الشرقية مثلا قادرة على ملاقاة الثقافة الغربية، طالما كانت روحانية الشرق بحاجة إلى مادية الغرب ومادية الغرب بحاجة إلى روحانية الشرق كما بين الفرنسيان «غارودي» وبعده «ريكور».
لكن إذا كان الخطر حاضرا في الانغلاق بقدر حضوره في الانفتاح فهل يمكن للعلاقات البينثقافية أن تتأسس على نزعة نصفية تزاوج بين الانغلاق والانفتاح؟ وإذا كانت هذه المزاوجة حلاّ ممكنا فكيف لنا أن نحدّد درجـــة الانغــــلاق أو درجة الانفتاح؟ هل يوجد معيار يعطينا حق الإقامة في هذه المنطقة النصفية؟ ألسنا جميعا نرى أنفسنا منفتحين ونرى الآخرين منغلقين؟
ليس الانغلاق حلاّ ولكنه ليس مشكلا أيضا، وبالمثل ليس الانفتاح مشكلا ولكنه ليس حلاّ أيضا. إن جوهر الإشكال يكمن في مضمون الانغلاق ومضمون الانفتاح، هل هو الاتباع أم هو الإبداع؟ ويبدو في حمأة هذا السّجال بين الأصوليين والحداثيين أنه لا يوجد اختلاف حقيقي بين المشروعين لأن كليهما يسوق لتبعية ثقافية يتوهّم فيها التميز وإثبات الذات. فإذا كانت النزعة الأصولية تحتكم إلى الزمان في تسويق تبعية ماضوية، فإن النزعة الحداثية تحتكم إلى المكـان في تسويق تبعية غربوية. وتتناسى النزعتان أن الإنسان لا يكون جديرا بشرف الإنسانية إلا إذا خط طريق كدحه إلى الله عز وجل بنفسه وليس على أية قاعدة اتباعية. لذلك نرى أن تحرر الأصوليين والحداثيين من سلطة العقل الإتباعي لا يتحقق إلا بالإمساك بشروط الإبداع وبرسم الحدود الواصلة أو الفاصلة بين الإتبــاع والإبــــداع أو بين ما يبدو إتباعـــا أو إبداعا من وجوه الابتداع. 
إننا في الواقع لا نكون الأحفاد الحقيقيين لكبار المبدعين إن نحن اكتفينا بتقليد مناهجهم ونظرياتهم وفنونهم. فليس المبدع هو من يتبع المبدعيـــن وحسب وإنما هو من يحتل مقاما بينهـــم. إن طريق الإبـــداع لا يسلكها هواة التكريـــر ( Reproduction ) لأنهـــا طريـــق وعــرة لا يتحملهـــا إلا المنتجون ( Producteurs ). وليس الابتداع إبداعا وإنما هــــو توهـــم الإبــــداع في الإتبـــاع. إن المبـــــدع لا يتبـــع ولا يبتدع بل يجعل اللامرئي مرئيا واللامسمـــوع مسموعا. إنه يفتـــح فينـــا السمــع والبصـــر والفــــؤاد فنكتشــــف معه ما لم يكن معلوما لدينــــا من قبل. وحتى يكون المثقف مبدعا ليس عليه أن يحاكي المبدعيـــن من البشـــر بل عليه أن يحاكي الإبداع الإلهــــي الذي يستلهم منـــه كل المبدعين نصيبهم منه. ولا يظهر المبدعون في الأرض كما يظهر فيها الفطر بعد المطر بل يقتــــرن ظهورهم بما يتهيأ له من ظروف تاريخية تتوفر فيها شروط الإبــــداع وفي مقدمتها الحاجة الفردية والجماعية لحــلّ المشكــــلات التي تعيق استمرار الحياة وتشوه صورة العالم في وعي الإنســـــان. إن المبدعين صناع الحيل أو الحلول الذكية التي لا تأتي إلا في آجالها. وليس الإبداع هوية شعب أو أمة بعينها وإنما هي هوية الإنسان الذي يريد أن يصير إنسانا ويبقى كذلك أمام كل المحن.
-----------
-  أستاذ فلسفة وناشط نقابي
zekri.lotfi@planet.tn