حوارات

بقلم
محمد القوماني
محمد القوماني في حوار مع الإصلاح
 كان لنا معه موعد أول منذ سنتين في حوار مفتوح حول عدّة مسائل سياسية وفكرية صدر بالعددين الأول والثاني من المجلّة. إنه الأخ والصديق محمد القوماني رئيس حزب الإصلاح والتنمية وأحد الوجوه السياسية والفكرية التونسية التي تميّزت بحضورها ومواقفها قبل الثورة وبعدها.
ولقد ارتأينا أن نؤثث معه حوارا جديدا بمناسبة صدور العدد الأول من السنة الثالثة من المجلّة وعلى إثر انعقاد مؤتمر الحزب الذي أسّسه منذ  ثلاث سنوات خلت مع ثلّة من المناضلات والمناضلين حتّى نتعرف على نتائج هذا المؤتمر ونسلّط الضوء على مواقف حزبه من مختلف القضايا الوطنية والعربية ونقف مع قرّاء «الإصلاح» على مدى التحولات الذي طرأت في فكر هذا الرجل وآرائه  السياسية وقراءته لمستقبل ثورات الربيع العربي بصفة عامّة والثورة التونسية بصفة خاصّة. 
عقدتم مؤخرا المؤتمر الوطني لحزبكم، لماذا الآن؟
انعقد المؤتمر الوطني الأول لحزب الإصلاح والتنمية يومي 22 و23 مارس الماضي للخروج من الحالة التأسيسية، بعد حوالي ثلاث سنوات، على غرار الوضع العام بالبلاد. فقد تحصّل حزبنا على تأشيرة العمل القانوني في 19 أفريل 2011  واليوم يمكن القول أن منخرطيه استقرّوا على أٍرضية فكرية وسياسية جامعة ومتطوّرة على وثيقة التأسيس الأولى التي تقدموا بها للحصول على التأشيرة. وهذا ما أقرّه نحو 200 مؤتمر من مختلف الولايات ممثّلين لأعضاء الحزب بصفتهم جميعا مؤسّسين، وذلك ضمن اللائحة العامة، إضافة لوضعهم الأسس القانونية للبناء المؤسساتي الديمقراطي للحزب ولاختيار قيادة له. كما أن عقد المؤتمر واجب قانوني من جهة واستعداد للاستحقاق الانتخابي المنتظر بعد أشهر من جهة ثانية. 
وإنّ حزب الإصلاح والتنمية يتطلع بعــد عقـــد مؤتمره الوطني إلى أن يكون أحد التعبيرات الحزبيـــة الهامــــــــة في المشهد الوطني وأحد المساهمين بفعاليّة في إنجاح المسار الديمقراطي وتحقيق أهداف ثورة الحرية والكرامة وبناء غد أفضل لتونس وللتونسيات وللتونسيين. وإنّه باختيار عبارة «منحازون للثورة..عاملون على الإصلاح» شعارا للمؤتمر، سيكون منحازا للشعب وللوطن وينفتح على مختلف  القوى السياسية التي تشاركه هذا الانحياز لعقد التحالفات السياسية الممكنة والضرورية لهزم المنظومة القديمة انتخابيا. 
ما هي إذن أهم نتائج مؤتمركم؟
أقرّ المؤتمـــرون كمـــا أسلفـــت لائحة عامة للحـــزب تبيّن منطلقاتــــه النظريّــــة وتوجهاتــــه العامّة وتمشّيه السياســــي وتتضمّن قراءته للمشهد الوطنــــي وتموقـــع الحـــزب السياســــي داخله، كما تحدّد مقاييسه  في التحالفات السياسية والانتخابية.
كما أقرّوا نظامـــا داخليـــا يضمن البناء المؤسساتي للحزب والعلاقات الديمقراطية داخله. وتمّ انتخاب لجنة مركزية تتكوّن من 51 عضـــوا تكون سلطــــة قـــــرار بين المؤتمرين والتي اختـــارت الأستاذ عبد السلام الشمانقي رئيسا لها. وقد تولّــــى أعضاؤها في اجتمــــاع فوري انتخاب السيد محدثكم رئيسا للحزب والسيد ابراهيم الحاج حسن أمينا عاما له.
كما انتخبوا سبعـــــة عشــــر (17) عضوا يكوّنــــون مــــع الرئيــــس والأميــــن العــــام المكتب السياســــــي.وهم علــــى التوالــــي: فيصل العـــش، جـــــلال البــــدوي، علي الجوهري،العماري العوايطي، محمد هشام بوعتور، هناء بن سعيد، إلهام الشنّوفي، نزار الرزقي، فؤاد التليلي، كمال العباســــي، مريم العامري، خالد الجلالي، فتحي بيّار، بثينة الشابــــي، رؤوف سليمــــان، محرز الجامعــــي، أحمد العويطي.
هل توجز لقرّاء مجلة الإصلاح المسار التأسيسي لحزب الإصلاح والتنمية؟
حزب الإصلاح والتنمية «صغير» أو لنقل شابّ بالنظر إلى عمره القانوني، وبالنظر إلى المعدّل العمري لمنخرطيه وخاصة لحجم الشباب بين صفوفه، وكذلك بالنظر إلى أغلبية أعضائه ممّن لم تسبق مشاركتهم في الحياة الحزبية. لكنه  أيضا حزب أصيل وراسخ في المشهد الوطني بالنظر إلى عمره السياسي، من خلال المسار النضالي الطويل للعديد من قياداته المركزية والجهوية. 
يعود تشكّل حزب الإصلاح والتنمية  في نواته الأولى إلى الانتخابات التشريعية  لسنة 2009 التي كانت مجرّد مناسبة لإعلان ميلاد التيار. فقد تقدمنا آنذاك في قائمات مستقلة متعدّدة في توزر وتونس وزغوان تحت تسمية واحدة وهي «الإصلاح والتنمية». وكانت تلك الخطوة اختبارا لمدى تقبّل الحكم آنذاك لتنظّمنا القانوني. وقد تمّ السماح لنا بالمشاركة، ولكن بحجب بياننا الانتخابي وبمنع معلّقات صور المترشحين  بتعلاّت واهية ومخالفة للقانون، وبفرض رقابة أمنية لصيقة علينا. وقد فهمنا الجواب من خلال ذلك التعامل الاستثنائي مع قائمات الإصلاح والتنمية.
واصل المشاركون في تلك القائمات والمساندون لهم تفاعلاتهم مع المشهد السياســـي باســـم «تيــار الإصلاح والتنمية». وبعد ثورة 17 ديسمبر/ 14 جانفي ارتفع منسوب الاستعداد للعمل السياسي بين التونسيين وأصبحت حرية التنظّم ممكنة، فتوسّعت المجموعة وتحاورت فيما بينها لتشكيل حزب «الإصلاح والتنمية».
لكن ماذا تقصدون بالمنطلقات النظرية لحزبكم؟
حافظنا على تسمية «الإصلاح والتنمية»، رغم الإرباك الذي تسبّبه زحمة التسميات وتشابهها بعد الثورة، لأنّ التسمية تختزل مشروعنا في اعتبار التنمية الشاملة والعادلة غاية وفي اختيار الإصلاح الجذري والمتدرّج منهجا.  فالإصلاح في نظرنا هو الوجه الآخر لسنّة التطور في الحياة، وهو بهذا المعنى حركة دائبة ومتجددة، والإصلاح يتخذ مضمونه ومجالاته بحسب كل مرحلة، والإصلاح الذي نراه اليوم يمتد إلى مختلف المجالات في التربية والتعليم والأسرة والمؤسسات السياسية والثقافة السائدة ... من أجل تحقيق أهداف الثورة التونسية في الحرية والكرامة والنماء والعدل والرفاه. 
ولأن الإصلاح يرتكز على عناصر ايجابية في الواقع ويراكم عليها ويلتمس الأصلح «وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض» (قرآن كريم)، فإننا نتواصل مع إسهامات من سبقونا في مسيرة الإصلاح التونسي أمثال خير الدين باشا وعبد العزيز الثعالبي والطاهر الحداد وبشيرة مراد والطاهر بن عاشور وفرحات حشاد...، الذين وضعنا صور بعضهم على مطوية التعريف بحزبنا. 
 ومن هذا المنطلق نرفض في حزب الإصلاح والتنمية التصنيف النمطي القائم على أسس أيديولوجية مُفوّتة ونرى أنفسنا خارج  التسميات «منتهية الصلوحيّة» التي لا تستوعب مشروعنا. فنحن نصدر عن خلفية عروبية إسلامية، تجديدية وتنويرية وتحرّرية، تعتبر أن الانطلاق من البيئة الثقافية المحلية شرط أساسي لإنجاح محاولات التحديث. كما تعتبر اللغة العربية والإسلام عنصري وحدة واعتزاز، وتعتمد خطابا يغتني من قيم الإسلام الخالدة وتعاليمه السمحة ومن معاني كلمات القرآن العظيم المتجدّدة بالانفتاح على ثقافة العصر ومناهجه، في بناء الإنسان وفي الانخراط في الحداثة من موقع الإبداع لا الإتباع، وفي مواجهة التحديات المطروحة. من أجل دعم مكتسبات المجتمع التونسي والعمل على تطويرها والتطلع إلى التعبير عن طموحات الأجيال الجديدة ومشاغلهم.
وإذا كان الإصلاح بهذا المعنى منهجا في التغيير، فإن التنمية تبقى الغاية وهي الأولوية في هذه المرحلة. إذ يتطلع حزبنا إلى منوال جديد للتنمية يجعل الإنسان محور التنمية وغايتها. وذلك بالرفع من منسوب كفاءة الأفراد وقدراتهم الإبداعية وسعادتهم في آن، وباعتماد سياسات تنموية عادلة وشاملة تخلق الثروة وتستجيب لطلبات التشغيل وتحارب الفقر وتحسّن مستوى عيش المواطنين. وتهدف إلى النهوض بأوضاع مختلف الجهات، وتحقيق التوازن بينها وضمان جميع حقوقها.
لقد جرّبنا التغيير بالبداية من الأعلى واستهداف رأس السلطة والتعويل على قوة الدولة أكثر من الاهتمام بتطوير المجتمع، وكانت النتائج مخيبة للآمال على مدى عقود. ونتطلع في حزب الإصلاح والتنمية إلى مراجعة عميقة لمناهج التغيير التي دأبنا عليها وروّجنا لها طويلا، وللفكر السياسي الذي قادنا في السابق، من أجل إعطاء دور أكبر للثقافة السياسية وللتكوين، وإعادة الاعتبار لقيم العمل الطوعي وخدمة الصالح العام وتفعيل العمل الاجتماعي ومقاومة مظاهر الزبونية السياسية والانتهازية واستغلال النفوذ وغيرها من الانحرافات التي شوّهت العمل السياسي. فليس صحيحا ما يُروّج له البعض من أن هدف الأحزاب هو الحكم والكراسي. إذ نعدّ الأحزاب محاضن للتربية على المواطنة وتأطير المواطنين والتدرّب على خدمة المدينة وتحويل الاجتهادات الفردية إلى مقترحات جماعية محلية أو جهوية أو وطنية. 
كما نعمل عل تطوير العلاقات بين الفاعلين السياسيين وبناء الثقة بينهم باستبعاد التنافي والإقصاء والإكراه وإحلال التنافس السياسي بدل العداوة. وتطوير الوفاقات عبر حوار وطني حقيقي يستحضر المشترك ويبني عليه، ويستبعد النقض واستئصال الخصم  والبدائل الشمولية، ويضع الآليات الضامنة للتطبيق ولحامية للمكتسبات. ويتوخى التدرج والمرحلية والواقعية ويبحث في الممكن ويتفهّم تعقيدات الواقع وصعوباته، ولا يقع تحت إغراءات  الفرضيات الذهنية القصوى. ويعمل بجاذبية الديمقراطية ويتحرك بروح التجديد والتطوير ومُراكمة الايجابيات والاستفادة من الأخطاء والمراهنة على المستقبل بتمكين الشباب وإعطائه الأولوية في الاهتمام والتكوين وتحمل المسؤولية في القيادة واتخاذ القرارات.
وما ذا عن توجّهات حزب الإصلاح والتنمية؟
انطلاقا من خلفيته العروبية الإسلامية المستنيرة ونزعته الحداثية التحرّرية، يتبنى حزبنا توجّها اجتماعيا ديمقراطيا. فهو ينحاز إلى المستضعفين من شعبنا ويتطلع إلى التعبير عن الكادحين والمهمشين، ويستحضر دوافع ثورات الربيع العربي وأهدافها، ويعمل على تحقيق شراكة مواطنيّة حقيقية في الثروة والسلطة. يناهض الثراء الفاحش والخيارات الليبرالية الظالمة، ويسعى إلى تحقيق الرفاه وضمان  العدالة الاجتماعية، باعتماد منظومة  اقتصادية واجتماعية تحرّر المبادرة الفردية وتتحمل فيها الدولة مسؤولية دفع الاستثمار في القطاعات الإستراتيجية وضمان تكافؤ الفرص والتوزيع العادل لثمرات النماء على الأفراد والجهات وتكريس واجب التضامن ورفض التهميش. وبتطوير ثقافة تنموية تُحل قيم العمل والإتقان والابتكار والتضامن مرتبة عالية وتفعّل الروح الوطنية وتحاصر الفساد، وترفع من منسوب كفاءة الأفراد وقدراتهم الإبداعية. وببناء اقتصاد وطني متفتح يراهن على المعرفة وتتعايش فيه القطاعات الاقتصادية المختلفة، ويستفيد من خصوصيات كل جهة في دعم تنميتها المستقلة. كما يستند حزبنا إلى مبدأ الحرية وأساس المواطنة وقيم الديمقراطية والجمهورية وحقوق الإنسان ويعمل على تعزيز الوحدة الوطنية وضمان استقلال البلاد ودعم مقوّمات دولة مدنية متصالحة مع بيئتها الثقافية والحضارية.
وقد حاولنا جمع هذه المعاني المتقدمة في الكلمات الثلاثة التي تكون شعار الحزب، وهي الحرية والمواطنة والعدالة. وجعلنا رمز الحزب (اللوقو) امرأة ورجلا يشكّلان جذع شجرة التنمية، للتأكيد على  مبادئ المساواة والتكامل والتضامن في نظرتنا للعلاقة بين الجنسين. 
ويحرص حزب الإصلاح والتنمية على تأكيد انحيازه لثورة الحرية والكرامة وهو ينكب على مشاغلنا التونسية القطرية دون عزلها عن آفاقها المغاربية والعربية والإسلامية المخصوصة، بعد أن فشل التناول القطري المقيت لها، وبعد أن ثبّتت ثورات الربيع العربي قوّة روابط العروبة لغة وثقافة ومصالح ومشاعر.  وهو يتطلّع إلى جعل ثورات الربيع العربي دعما وتواصلا مع خط الممانعة والمقاومة، الذي يتخذ من تحرير فلسطين واستعادة مقدساتنا بوصلة له، والذي أعاد لأمتنا بعض كرامتها وأثبت صلابته وجدواه في مواجهة مخطّطات التقسيم والهيمنة والتبعية، وكانت ثورات الربيع العربي إحدى ثماره.  كما يحرص حزبنا على تثبيت خيار وطني مستقل، يُحسن قراءة المعطيات الدولية والإقليمية ويحسن التعامل معها بواقعية، ويعمل على قطع الطريق على أي تدخّل أجنبي مهما كان في شؤوننا الداخلية.
كيف تنظرون في حزب الإصلاح والتنمية إلى الظرفية السياسية الحالية بالبلاد؟ 
ننظر إلى الظرفية السياسية الوطنية بتفاؤل حذر. فبعد المصادقة على الدستور وانتخاب هيئة مستقلة للإشراف على الانتخابات وتزكية حكومة غير متحزّبة وغير معنية بالترشح للاستحقاقات القادمة، يمكن القول أن البلاد وضعت فعليّا على سكة الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي نصّ الدستور في أحكامه الانتقالية على أن لا تتجاوز السنة الحالية 2014، وأننا بهذه الخطوات خرجنا من أجواء الأزمة السياسية الحادّة التي خيمت على البلاد منذ أكثر من سنة. ومن المأمول أن تنعكس النجاحات السياسية ايجابيا على الأصعدة الأمنية والاجتماعية والاقتصادية. بما جعل المراقبين ينظرون إلى  تجربتنا التونسية بإعجاب ويتطلعون إلى أن تكون مثالا يُحتذى.
غير أن هذا التفاؤل لا يستبعد استمرار الصعوبات والمخاطر، إذ مازال التهديد الإرهابي قائما والحرب عليه مستمرّة. إرهاب يرفع السلاح في وجه الدولة ومؤسساتها كما يستهدف المواطنين. ويهدف إلى تحقيق غايات سياسية بالعنف، وقد راح ضحيته زعماء سياسيون وإطارات من الجيش والأمن الوطنيين ومدنيون رحمهم الله تعالى جميعا. وهو إرهاب يستند إلى فكر ديني تكفيري متشدّد ويستفيد من شبكات التهريب والجريمة المنظمة وتتداخل في توجيهه أجندات سياسية مشبوهة ومعقّدة. ومن جهة ثانية تسجّل القوى المضادّة للثورة والمتربّصة بها خطوات متقدّمة في استعادتها للمبادرة ومحاولة قلب الأوضاع لصالحها، من خلال عودة رموز النظام السابق إلى المشهد الإعلامي، ممّن يتحملون المسؤولية السياسية في منظومة الاستبداد والفساد التي قامت الثورة ضدّهم. ومن خلال استهداف واضح للثورة ورموزها وقيمها ومحاولة تبييض النظام المنهار. كما تتعاظم المخاطر الاقتصادية، وسط أجواء اجتماعية عاد إليها التوتر والاحتقان، من خلال موجة من الاضرابات والاضطرابات التي تهدّد الاستقرار المنشود في هذه المرحلة والذي يُعدّ شرطا لإنقاذ الاقتصاد وتنظيم الانتخابات.
 إنّ مجمل  هذه الصعوبات وغيرها عناصر تستدعي يقظة عالية و تستوجب حسن قراءة مسار المشهد الوطني بعد أكثر من ثلاث سنوات من  الثورة، من أجل سلامة الرؤية وحسن التموقع في مواجهة تحديات المرحلة والمساهمة الايجابية في رفعها تحقيقا لأهداف الثورة واستجابة لآمال التونسيات والتونسيين في القطع مع منظومة الفساد والاستبداد والتبعية، وتحسين أوضاهم المعيشية وإنجاح المسار الديمقراطي. 
ألستم متفائلين بالتوافقات التي انتهى إليها الحوار الوطني؟
إذا كانت التوافقات مطلوبة دوما وخاصة في مراحل الانتقال الديمقراطي التي لم تقم فيها المؤسسات الجديدة ولم يتبلور فيها العقد الاجتماعي ولم يتم تحديد قواعد التنافس السياسي بمشاركة جميع الأطراف ورضاها، فإنّ التوافق لا يجب أن يكون بديلا عن الشرعية الانتخابية والتنافس الديمقراطي الذي يجعل الشعب فعلا مصدرا للسلطة ورقيبا على الحاكمين من خلال الرجوع إليه دوريا عبر صناديق الاقتراع وإعطاء كل مواطن صوتا مساويا لأي ناخب آخر، مهما كان موقعه، في مكافأة أو معاقبة أو منح الثقة لمن يتقدمون  للمسؤولية.  
ونحن إذ نُكبر جهود الرباعي وعلى رأسه الاتحاد العام التونسي للشغل وكذلك الأحزاب المشاركة في الحوار الوطني ونسجّل بارتياح التوافقات التي ساعدت مع عناصر أخرى على تجاوز أجواء الأزمة السياسية الحادّة التي كانت تجتازها بلادنا، فإن هذا الموقف الايجابي لا يمنع التنبيه إلى أن ما حصل باسم الحوار الوطني لم يكن كله ايجابيا. فهو استثناء لا نؤيّد سعي البعض إلى جعله قاعدة. إذ تمّ تغيير السلطة بأساليب لا تحتكم لإرادة الناخبين، بما أضعف الديمقراطية الناشئة. كما تمّت الاستفادة أو توظيف عوامل خارجية في الضغط على «الترويكا» الحاكمة بما ساعد على تعاظم التدخلات الأجنبية في شؤوننا الوطنية. كما ساهم الحوار في خلط الأوراق والتغطية عن الأجندة السياسية للإرهاب والواقفين وراءه من القوى المتربصة بالثورة في الخارج والداخل، والذين استفادوا في المحصّلة من ذهاب حكومة منتخبة وفسح المجال للمنظومة القديمة وتوفيرالأجواء المناسبة لعودة رموزها إلى الساحة الوطنية.
ولعل من أهم مخاطر هذه المرحلة أن يكون استهداف حكم «النهضة» في تونس والإسلاميين عموما غاية في حدّ ذاته، أي أن يتمّ رفض وجودهم في أعلى مؤسسات الدولة لأنهم «إسلاميون»، بدعوى «عدم قبول المزاج العام لهم» أو لمحاولتهم «تغيير النمط المجتمعي السائد» أو «لخطورة مشروعهم» أو لأي سبب آخر. فذلك مناقض لمقتضيات الديمقراطية التي تكون فيها الانتخابات الحرة أساسا وحيدا لشرعية الحكم، ولأن ذلك استمرار في سياسة إقصاء الإسلاميين منذ عقود التي لم تجد نفعا ولم تجلب سوى المآسي، ولأن ذلك وهو الأهم سيشجّع نزعات العنف في صفوف الحركات الإسلامية التي بُذلت جهود ضخمة ومضنية من داخلها ومن خارجها من أجل إقناع بعضها بنهج المشاركة السياسية القانونية.
هل ترون «الإسلاميين» مستهدفين أم أن  ثورات «الربيع العربي» هي المستهدفة فعلا؟
يبدو أن استهداف «حكم الإسلاميين» جزء من استهداف ثورات الربيع العربي. فقد نجح هذا الجيل في الثورة على رموز الاستبداد وإبعادهم من رأس الدولة، وحقق ما عجزت عنه أجيال سابقة، وكسّر قاعدة الاستثناء العربي، لكنه فشل على ما يبدو إلى حدّ الآن في إسقاط النظام القديم وبناء ديمقراطية فعلية. وذلك بتضافر عوامل داخلية تتعلق بسوء تقدير المرحلة وعدم ارتقاء النخب السياسية خاصة إلى مستوى متطلّبات الثورات التي أنجزها شعوب المنطقة. وكذلك بسبب عوامل موضوعية اقليمية ودولية. 
فقد كشف الانقلاب الدموي في مصر أنّ عوامل خارجية، إضافة إلى الأسباب الداخلية المعلومة، ساهمت في إجهاض الحلم العربي في الديمقراطية، باعتبارها شرط التنمية الشاملة والنهضة الحضارية، وأن عناصر قديمة مؤثرة في الوضع العربي، ما زالت تفعل فعلها بقوة. وليس الدور  المؤامراتي لبعض الأنظمة العربية الذي تأكد في ما حصل من انتكاسة بمصر، والتواطؤ الدولي المريب، الذي تلكأ في إدانة الانقلاب وما تلاه من مجازر في حق المصريين العزّل، سوى برهانا على ذلك.
كما أن ما تعرّضت له سائر ثورات الربيع العربي من محاولات للإجهاض على غرار ما حصل باليمن والبحرين، أو من تحريف للمسار السلمي للثورة بسوريا بعد تحويل وجهة انتفاضة شعبها من أجل الحرية والانعتاق إلى عملية تخريب مُمنهجة للدولة السورية ولتجفيف منابع إمداد المقاومة في لبنان وفلسطين المحتلة، وخلق عداوة بين خط الممانعة والمقاومة من جهة وثورات الربيع العربي من جهة أخرى، بتخطيط  صهيوني وتورّط قوى من خارج سوريا وبتمويل عربي وإقليمي ودولي مشبوه. وكذلك محاولات الإرباك المختلفة والمتعدّدة العناوين، لمسار الانتقال الديمقراطي في تونس وليبيا.
ما هي نظرتكم واقتراحاتكم لما تبقى من المرحلة الانتقالية؟
إنّ الدستور الجديد الذي تم اعتماده في المجلس الوطني التأسيسي بأغلبية عريضة يعدّ تحقيقا فعليا لأحد أهداف الثورة. ونعدّه في حزب الإصلاح والتنمية ضمانا واستجابة لنسبة عالية من برنامجنـــا السياســـي المعلـــن في وثيقتنا التأسيسية وفي بياننا الانتخابي للترشــــح للمجلس الوطنـــي التأسيســــي. وهو  مكسب نوعـــي بمـــا تضمنـــه  خاصـــة من تثبيت لأهم الحقوق والحريـــات وتجريم للتعذيب ولتزوير الانتخابات وتأكيد مرجعية الشرعة الدولية لحقوق الإنسان وتحقيق استقلاليـــة السّلط الثـــلاث وتكاملها وضمـــان التـــداول السلمــــي علـــى الحكم عبر الانتخابات الحـــرة والتعددية ووضع آليـــات للتعديــــل والرقابـــة وعلى رأسها المحكمة الدستورية، والاتجاه إلى تكريس اللامركزية واعتماد سلطة محلية وجهوية منتخبة. وهو بهذه التوجهات يعدّ أيضا صمّام أمان ضدّ مخاطر عودة منظومة الاستبداد والفساد.
وقد نصّ الدستور في أحكامه الانتقالية على أن الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة لا يجب أن «تتجاوز في كل الحالات موفّى سنة 2014»، وذلك للخروج نهائيا من الوضع الانتقالي الذي لم تعد تتحمّله بلادنا ومن أجل إرساء المؤسسات المستقرة التي نصّ عليها الدستور. ونشدّد في حزب «الإصلاح والتنمية» على ضرورة التقيّد بالآجال ونحذّر من مغبة أيّ خرق للدستور بمحاولة تأجيل لانتخابات مهما كانت التعلاّت. وندعو المجلس الوطني التأسيسي إلى التسريع في أعماله لمساعدة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات على تحديد موعد مضبوط  لهذا الاستحقاق الذي تتوقف عليه مصير العملية السياسية برمّتها.
ونحن نتطلّع بصفة خاصّة إلى قانون انتخابي يضمن حرية الانتخابات وتعدّديتها وشفافيتها، كما يضمن شروط المنافسة المتكافئة ويحاصــــر المــــال السياســـي المشبوه والتوظيف الإعلامــــي المخالـــف لقواعد الحملة الانتخابية، وندعو إلى تشديد العقوبـــات علــــى المخالفيــــن. كما نكرّر دعوتنا إلى المزج بين الترشّحـــات الجماعيــــة في نظام القائمات وإفساح المجــــال للترشّحــــات الفرديـــة أيضــــا. ونحن ندعم التنصيص في القانون الانتخابي على منع ترشّح رموز معيّنين ممّن يتحملـــون مسؤوليــــة سياسيـــة كبـــرى في ما حصل من تجاوزات في ظل النظام السابق للانتخابات القادمة، طبقا لقائمة يضبطها المجلس الوطني التأسيسي، ونعدّ ذلك حدّا أدنى رمزيا في الوفاء بحقّ شهداء الثورة وجرحاها، في انتظار استكمال مسار العدالة الانتقالية التي لن يكون لها مفعول إلا بعد الانتخابات، والتي تظل الخيار الأصلي والأفضل للمحاسبة والمصالحة. كما نرى تقديم الانتخابات التشريعية عن الرئاسية طبقا لمقتضيات الفصل 74 من الدستور الذي يشترط في المترشّح لرئاسة الجمهورية تزكية مــــا من بينهــــا صيغة عدد من «أعضاء مجلس نواب الشعب» وهي التسميــــة الرسميــــة للمجلس التشريعي القادم.
وفي هذا السياق نحن في حزب الإصلاح والتنمية ندعم التوجهات المُعلنة من طرف الحكومة في إعطاء الأولوية لتأمين الظروف السياسية والأمنية والاجتماعية المناسبة لإجراء الانتخابات تنفيذا لمقتضيات الحوار الوطني، بما في ذلك الالتزام باعتماد التعيينات  في الخطط ذات الصلة بالانتخابات على قاعدة الحياد الفعلي والكفاءة ونظافة اليد. والاستناد إلى القانون في متابعة ملف روابط حماية الثورة وتحييد المساجد. وتقديم الدعم اللازم للمؤسستين العسكرية والأمنية في مواجهة الإرهاب والجريمة المنظمة.
كما نثمّن مبادرة رئيس الحكومة بمحاورة الأحزاب السياسية  واعتزامه اعتماد صيغة تشاركية في إدارة ما تبقى من المرحلة الانتقالية. وندعوه إلى توسيع المشاورات إلى سائر الأحزاب السياسية الفاعلة في الساحة الوطنية وإلى مختلف الفاعلين في المجتمع المدني وعدم السماح بفرض أية جهة حالة من الوصاية على المرحلة أو فرض علاقة مخصوصة بحكومة مستقلة عن الجميع وتطلب دعم الجميع لها في إنجاز تعهّداتها. 
كما نؤكد من جانبنا على التلازم بين مقتضيات فرض سلطة القانون على الجميع من جهة وعدم الحدّ من ممارسة الحقوق والحريات التي ضمنها الدستور واحترام حقوق الإنسان من جهة ثانية. وننبّه إلى خطورة الانزياح باسم محاربة الإرهاب إلى توسيع دائرة المستهدفين من غير المعنيين بهذا التصنيف، أو التضييق على قناعات الأفراد أو على ممارسة شعائرهم الدينيّة أو ممارسة سياسة الأخذ بالشبهة والانفلات من مقتضيات القانون التي عانى منها شعبنا في العهد البائد.