في العمق

بقلم
لسعد الماجري
ملامح منحى أنطولوجي للتعامل مع النصّ القرآني
 يتّفق أغلب المسلمين في كل أرجاء المعمورة على أن القرآن ككتاب مقدّس هو أثمن ما أنزل على الرّسول الكريم محمد (ص). وأن هذا الكتاب يمكن اعتباره أهمّ كنز للأمّة الإسلاميّة. فهذه الأمّة إن أخذت بتعاليم هذا الكتاب الكنز تقدّمت ونمت وإن تناسته وقعت في الجهل وأحاط بها التخلّف من كل جانب. ثم إنّ هذا الكتاب كان ولا يزال مصدر استلهام لرجال هذه الأمة اللذين ما انفكوا يجدون بين طيّاته تحفيزا على النهوض ضدّ الاستعباد والقهر وتحريضا على الثورة في وجه الغاصبين. فكان هذا القرآن صمّام أمان لهذه الأمّة وملاذا لها سواء في فترات الفتن والمحن أو غير بعيد ضد المستعمر.
1.طريقة التعامل مع القرآن في الفترة النبوية 
كان هذا الكتاب دوما ملجأ المسلمين يتسلّحون به ضد أعدائهم ومانعا لهم من السّقوط تحت هيمنة الظلّام والمستكبرين. ففي أول بداية الإسلام كان لهذا القرآن الذي نزل على مراحل منجّما على قلب النبي الكريم، وقعا إيجابيا على من تقبّله. فساهم كثيرا في تصفية قلوب المؤمنين الأوائل وتنقية صدورهم من العادات الجاهلية. ولقد تعامل القرآن مع هؤلاء بطريقة جدّ بيداغوجية : فكانت التعاليم القرآنية تتنزل دون أي إسقاط وإنما متناسبة مع المرحلة والظرف التاريخي. كانت الآيات تتنزل بحسب أسباب نزولها، تخاطب الذّهن البشري ضمن إمكاناته وقدرات الفهم لديه، أي أنّ كتاب القرآن كان كتابا مفهوما لديهم في الدرجة الأولى. وبطبيعة الأشياء كان في جوانب عديدة يتطلب شروحا إضافية للمتعمّق الباحث بين سطوره على مزيد من الفهم والإيضاح. وكان الرسول الكريم يقوم بهذا الدور بامتياز. فكان المعلّم والمربّي لجيل متميّز من الصّحابة الأبرار. هؤلاء الرّجال اللّذين كانوا بكل صدق ودون مبالغة تلاميذا متميزين متلهّفين للعلم ولهم شغف جدّ كبير للفهم والتطبيق السّليم. هؤلاء الأخيار لم يكن همّهم الوحيد فهم القرآن وإنما أيضا العمل به.
2.ظهور علوم التفسير بعد الفترة النبوية وفترة الخلافة 
   ثم تلا هذه الحقبة التاريخية الأولى مرحلة أخرى متطوّرة ساد فيها المسلمون بفضل الفتوحات الكبيرة في الأمصار والبلدان الجديدة التي انتقلوا إليها. فظهرت علوم جديدة أنجبها علماء الأمة وفيها علم تميّز واتخذ له صرحا كبيرا وهو علم تفسير القرآن. في الحقيقة لم يظهر هذا العلم وغيره من العلوم كعلم الحديث أو الجرح والتعديل وعلم أسباب النزول وعلم الناسخ والمنسوخ وغيره من علوم الفقه وأصول الدّين في الفترة النبويّة. ظهرت أغلب هذه العلوم بعد انتقال النّبي إلى الرفيق الأعلى. فلم يكن للمسلمين حاجة إلى مثل هذه العلوم والرّسول الكريم بين ظهرانيهم- إذ كان وجوده بينهم يغني عن كل هذه العلوم – فكان يتلو عليهم الآيات وهي تتنزّل تباعا – وكان يشرح لهم خفاياها – وكان حديثه الشرّيف ينبعث منه إليهم مباشرة دون وسيط يفسّره – إذ كان سلوك النبي واقعا حيّا يعيشونه ونموذجا واضح المعالم يستشفّون منه سلوكياتهم – وكان الحضور النبوي غنيّا بالتعبير والسير. وكانت شخصية النّبي المستقيم على الصّراط أكبر مثال للصّحابة يستنبطون منه الفهم والعبر. فهل يمكن للتلاميذ أن يرسبوا في مدرسة نموذجية كمدرسة محمد ( ص )، وهل يمكن لهؤلاء أن يتكاسلوا أو أن يفشلوا وأستاذهم حاضر الذهن والبديهة والذكاء والاستقامة والتواضع والجذب والفهم والمودة. يتعامل معهم بحسب حضورهم الذهني ولا يسقط عليهم العلم وإنما يأخذ بأيديهم إلى العلم تدريجيّا ويحترم فيهم بساطتهم وفي أحيان عنجهيتهم محاولا تنميتها والبناء على أسسها.                                                                                       
 ثمّ إنه كان دوما يصفّيهم وينقّيهم من المفاهيم والسلوكيات المغلوطة ليضع مكانها المفاهيم والسلوكيات الإنسانية الجديدة، تلك التي تنتمي إلى منطق العقل والواجب وتريح النفس البشريّة من الازدواجيّة والخلط – وتزرع فيهم بذورا جديدة نافعة للبشر والحيوان والشجر.                                                                               
إذن احتاج المسلمون منذ إرساء حضارتهم بعد انتصاراتهم العسكريّة والسلميّة وبعد انفتاحهم على شعوب وحضارات أخرى إلى تأسيس علوم جديدة دينية ودنيوية – فبعد غياب النموذج وجب صياغة المنهج – فبعد غياب الرسول الكريم وجب تـأسيس مناهج لتفسير القرآن وتفسير الحديث – ووجب بناء أصول الدّين والفقه بالدّين. هذه المناهج العلمية التي اجتهد المسلمون في صياغتها ضمن الحقبة والمرحلة التاريخية الجديدة كانت ضرورية لحفظ المصادر (القرآن والحديث الشريف) من سوء الفهم أو من الصراعات حولها.
اٍذ لا يخفى على أي أحد كان أن الصراعات السياسيّة والطائفية ضمن الأمة الإسلامية مرشّحة لأن تنتقل في شكل مفاهيم ونظريات مختلفة في التعامل مع النّص القرآني. فالنّص يحتاج إلى فهم والفهم غير منعزل عن واقع الناس وتشكيلاتهم السياسية وتناقضاتهم الاٍجتماعية. إذن كانت هذه المرحلة مفصلية في تاريخ الحضارة الإسلامية: شمّر فيها العلماء المسلمون والمجتهدون عن ساعد الجد من أجل الإسراع بوضع أسس للتعامل مع النص من قرآن وحديث نبوي. فوضعت مناهج وأصول ومبادئ تفسّر كيفية التعامل مع النص القرآني ومع الحديث الشريف. وتواترت بعد ذلك التفاسير تتناول ذلك الكتاب الكنز وذلك الحديث السّامي. ولقد اختلفت التفاسير بعضها عن بعض ضمن متطلبات التنوع الفكري دون الحياد والشذوذ عن الأصول والمبادئ التي اجتمع حولها أغلب المسلمين. فكان الاٍختلاف ثراء وتنوعا ولم يكن الاختلاف تضاربا أو صراعا. وكان الجو الفكري السائد يتميز بالاٍحترام المتبادل بين كل العاملين في حقل التفسير يأخذون عن بعضهم ويذكرون بعضهم البعض بكل خير. ويرجع بعضهم إلى ذكر البعض الآخر كمراجع. 
3. فترات الركود الحضاري
عقبت هذه الفترة التاريخية الشهيرة فترات أخرى في التاريخ الإسلامي ركد فيها الفكر وجمد فيها التفسير. فلم نعد نجد تفاسير جديدة للقرآن الكريم المتجدّد (إذ أنه في معنى من معاني حديث للرسول (ص) يبعث القرآن بكرا أي لم يتوصّل الإنسان إلى فهم كنهه كما أراده الله) وإنما مجرد كتب تفسير تعيد إنتاج تفاسير قديمة وليس فيها أي تجديد يذكر. يعزى هذا بطبيعة الحال إلى الركود العام الذي ساد الأمة الإسلامية ككل في المجالات كلها, ولا يمكن استثناء علوم الدين من هذا الجو العام. 
فإذا استقال المسلمون عن دورهم الطّلائعي في العلوم الدنيوية من فيزياء وكيمياء وعلوم تجريبية وغيرها من علوم الطب والفلك تعطّلت لغة الكلام عندهم بطبيعة الحال في علوم الدّين أيضا من تفسير القرآن إلى تفاسير السيرة والحديث والفلسفة وعلوم الفقه وغيرها من العلوم المتّصلة. قلت استقال المسلمون عن الإنتاج الفكري والعلمي وعن البحث والإثراء وانهمكوا في الصراعات الجانبية الطائفية المذهبية والسياسية والاٍجتماعية. وغابت عنهم تلكم الروح الأولى : روح التحفز والاٍنجاز- روح التطلع إلى الأسمى – روح المودة مع الخالق- روح التواضع العلمي والسموّ إلى الفعل والريادية – روح الجوهر التي تسمو إلى الحقائق واٍلى الفهم والتدبر في هذا الكون وفي دور الإنسان فيه وليست روح الشكل التي تذوب في المادة وفي الحياة الآنية فتركّز على الشهوات والملذّات والثّروات وتغفل عن الجواهر والماسات...
4.ملامح لرؤية جديدة للقرآن
هذا المقال هو محاولة جديدة لتحديد ملامح رؤية للنّص القرآني تتجاوز المعوقات التي حالت دون بروز فهم وتفسير مطابق للقرآن الكريم – نطمح فيه إلى وضع أسس منهج جديد في التعامل مع النّص بعيدا عن الأطر القديمة التي وجد فيها النّص القرآني سجينا لمناهج في الفهم عقيمة لأنها إمّا تسجنه ضمن ميكانيكا الحروف والمنهج اللّغوي عموما الذي يجد نفسه يستهلك أدبيات «لسان العرب لاٍبن منظور» وإمّا سجينا لمنطق عقلاني يصطدم في كثير من الأحيان مع حقائق الغيب فيفسّر الجنّة على أنّها حتمية انتصار الخير والنّار على أنّها هزيمة للشّر (انظر كتابات حسن حنفي) محاولا إفراغ مضامين الغيب من صحتها وإعطائها مضمونا شكليا- وإما سجينا لمنطق روحاني يبالغ في الغياب عن واقع المسلمين من أجل الدفاع عن اللاهوت وعن عالم الغيب مهملا النّاسوت وعالم الشهادة.
نحن في هذا المقال، نسعى بإذن من الله وبتوفيقه إلى المصالحة بين مجمل هذه المناهج من أجل الاٍبتعاد عن الأحادية كمنهج في التعامل مع النّص. هدفنا الأساسي في كل هذا هو دفع الأمة الإسلامية إلى الاٍضطلاع بدورها الطلائعي والتقدم نحو آفاق جديدة للرقي والاٍزدهار.
5.من البعد التكويني إلى البعد الأنطولوجي لدراسة القرآن
إن الهدف الأساسي من هذا المقال ليس البحث والإلمام بمسألة كون و تكوين القرآن ككتاب أي كيف انتقل تدريجيا من حالة الوحي الذي ينزل تنزيلا على الرسول الكريم إلى حالة المصحف العثماني الذي هو عليه الآن :  أي كيف كانت صيرورة تحوّله من كلام الوحي الذي تلقاه الرّسول الكريم من الأمين على الوحي الملاك جبريل وقراءته على حفاظ الوحي من الصحابة الأبرار ثم جمعه في النهاية في شكل مصحف على الرسم العثماني الذي بأيدينا اليوم. إنما الهدف من مقالنا هذا هو محاولة لفت نظر للباحثين لكي يكملوا ما ابتدأه المفكر العربي والاسلامي محمد عابد الجابري (في كتابه مدخل إلى القرآن الكريم والذي أورد فيه دراسة معمقة ومكتملة رحمه الله عن أسئلة الكون والتكوين في القرآن محاولا الإجابة عليها من داخل الفضاء الحضاري والثقافي العربي الإسلامي) إلى بحث ذو بعد انطولوجي  أي محاولة التعمّق في المعاني والمفاهيم التي حاول القرآن تكريسها وذلك من خلال الإلمام بها أولا ومحاولة تصنيف هذه المفاهيم ضمن مجاميع تتفق فيما بينها في الشكل الخطابي كما في مضمونه. هذا التصنيف له جدوى عملية فيما بعد إذ يساعدنا في فهم القرآن ويقدم لنا آليات ترمينولوجية (Outils Terminologiques) لدراسته دراسة تليق بالقرآن وبالعصر أيضا : هذا العصر الذي نعيش فيه ثورة معلوماتية سادت فيها تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ولا يمكن لكنزنا التاريخي أن ينأى بنفسه عنها ولابد لنا إذا من الاستفادة من هذه الآليات ومحاولة استخدامها استخداما علميا مع مراعاة خصوصية موضوع الاستخدام وهو القرآن ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه.  
لكن وجب على الباحثين قبل التعرّض للبحث الأنطولوجي أن يستخلصوا أنّ البحثين التكويني والأنطولوجي متلازمان. وذلك لأنه للمرور إلى البحث في مضامين الوحي المفاهيمية توجّب أولا فهم صيرورة المصدر أي النّص ومساره التكويني من أجل الانطلاق فيما بعد في أطر البحث الأنطولوجي دونما أي ارتجال أو تردّد. فالمصدر وقد حقّق في مساره أي في الشكل الذي اتخذه من مكوناته من سور وآيات وترتيب زمني ومناسبات نزول وتنوّعه من قرآن مكي إلى قرآن مدني ومن التسميات المتعددة التي مرّ بها وطريقة جمعه وقراءته وانتقاله من مكة إلى المدينة في مساره التكويني يمكن فيما بعد الاتجاه في مسلك أنطولوجي بطريقة سليمة. سوف نستعرض إذا في مقالات مستقبلية وبصورة مقتضبة لنتائج البحث التكويني معتمدين أساسا على العمل الفكري للمفكر محمدعابد الجابري وعلى مصادرنا التاريخية من تفاسير للقرآن كالطبري والزمخشري والقرطبي وغيرهم وكذلك على كتب الأولين ممن كتبوا في مواضيع متعلقة كدلائل النبوة أو أصول الدين أو علوم القرآن أو الكلام والفلسفة كابن رشد أو ابن إسحاق والسيرة النبوية ...أو... معتمدين في ذلك على الله فهو ولي التوفيق وعلى منهجنا في البحث والاستخلاص من أجل الاستفادة هدفنا الأساسي ليس تقرير نتائج أو أخذ مواقف محدّدة بقدر ما نهدف أساسا إلى فتح مجالات للبحث لاحظنا أنها لم تأخذ حظها من المعاصرين فنحن أبدا لا ندعي التخصص في هذه الميادين العلمية المعقدة ولا ندعي الإلمام بكل تفاصيل البحث التكويني وإنما هو فتح لمجال ودعوة إلى الانخراط في هذا المشروع نظرا لإيماننا بأهميته للأمة الإسلامية والعربية التي تقف اليوم بعد فترات استقلالها من الاستعمار الغربي وبعد سيادة النظم الرسمية والتي لم تنجح في تنمية شعوبها ولا في رسم مشروع تنموي ضخم ذي أبعاد إنسانية تحرر الإنسان العربي من عجزه وكسله واستقالته عن الفعل الحضاري إلى إنسان يبني حياته ومستقبله من خلال تناغم نشيط مع تراثه يستنبط منه الجديد ويستثمر منه آليات معاصرة للإبحار في عصر شديد التعقيد. هذه الأمة  وهي منقطعة عن تراثها الفكري والديني وعاجزة عن إنجاب فهم متقدم لمصادر قوتها إنما تدفع في الاتجاه المعاكس للتجديف الحقيقي فساد على عكس ذلك نوع من الفهم الديني الركيك الذي يكتفي بالشكل دون المضمون وبالنقل الحرفي العقيم دون الإلمام العقلي العميق ودون فهم جلي للظاهرة القرآنية والتي تعتبر أهم ظاهرة حسب رأينا عاشتها أمتنا في مرحلة من مراحل تاريخها وأثرت ايجابيا وسلبيا في مستوى أدائها الحضاري فانتصرت ونهضت حينما استشرفت فهما ممارسيا وعقلانيا وروحيا ثم انتكست عندما تصارعت واتخذت فهما اٍقصائيا للآخر وتقوقعت في فهم رسمي غير مقنع وغير مجد.
------
- أستاذ  جامعي في الاٍعلامية الصناعية
وتواصل الاٍنسان والآلة 
mejrilassad@yahoo.fr