قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
وطن جديد
 ربط سائق السيارة حزام الأمان استعدادا لرحلة طويلة. انطلق بسيارة الأجرة مغادرا المحطة بعد طول انتظار، لم يكد يغادر زحمة المدينة ويمضي كلمترات قليلة في الطريق الطويل حتى جاءته إشارة صارمة بالتوقف وركن السيارة على جانب الطريق ريثما يمرّ ركب سيادته. مرت دقائق أعقبتها أخرى ثم أخرى ثم أخرى حتى انتهت الساعة الأولى من الانتظار والسيارة رابضة بركّابها التسعة وهم يتأفّفـــون في صمت بعـــد أن تأكّد لهم أنّ الطريـــق أغلق بالكامل قبل أن يغادر سيادتــه المدينــة الأخرى وأن انتظــــارهم مازال يطـــول. لم يكن هناك مجال للاحتجاج أو حتى للتّعبير عن بعض الضّيق، فقد كان الرّاكب منهم يشكّ في الرّاكب إلى جواره، أما السائق فقد كان بلا ريب موضع شبهة عند الجميع فلا مجال حينئذ الا أن ينتظر المرء منهم فرج الرحمان الذي أتى بعد ساعتين. 
بعض هؤلاء الرّكاب وأنا منهم، شاهد بعد سنوات من ذلك اليوم الأغر، ركب الرئيس المنتخب بعد الثورة وهو يغوص في زحمة المدينة نفسها في ساعة الذّروة يحيى الناس مبتسما من دون أن يخشاهم أو يخشوه ولا غرو في أن كلا المشهدين يعبر بعمق عن الزمن الذي حصل فيه.
في زمن الاستبداد كان الحاكم بأمره يحتقر النّاس ويحطّ من قدرهم ويطلق زبانيته وأعوان الدولة ينفذون كل رغباته ولا مجال للاعتراض بل أن النخبة بكل أطيافها كانت تسعى جاهدة من أجل أن يسمح لها ببعض الفتات من قبيل إنشاء جريدة وتكوين حزب سياسي أو حتى جمعيّة صغيرة تنط بمقدار. أما في زمن الثورة فقد أصبح بالإمكان انشاء الجمعيات والأحزاب والجرائد والإذاعات والقيام بأي نشاط سياسي أو ثقافي أو اجتماعي من دون خوف أو متابعة ولم يعد هناك رقيب نخشاه وأصبح بإمكان أي كان من الناس التفريق بين زمنين زمن الحرّية وزمن الاستبداد، غير أن أسئلة كثيرة يحتار المرء أن يجد لها جوابا هل نعيش عصر انقلاب المفاهيم عند نخبة عمياء؟ كيف يكون الاستبداد بكل ما جناه على العامة والخاصة مرحلة مهمّة في تاريخنا راكمنا فيها المكتسبات وأنجزنا فيها الكثير؟ كيف يرتفع منسوب الحرّية في مجتمع ليبلغ حدّا منقطع النظير وترتدّ النّخبة الى أدنى درجات الاسفاف والابتذال لترتمي في أحضان الموروث الاستبدادي بل وتستدعيه أملا في الخلاص؟ كيف ترتفع أصوات الوصوليين والأفّاكين وتخفت أصوات الوطنيين والأحرار؟ كيف تعجز النخبة بتعدد مشاربها في الجمع بين قيمة الحرّية التي ناضلت من أجلها طويلا وقيمة الابداع الذي هو زبدة الرقي؟
إن من يشاهد مظاهر التشضي فى المشهد السياسي وانقسام الاحزاب لمجرد الاختلاف الطارئ ومن يشاهد عجز النخبة عن ابداع مقولات نابعة من روح الثورة وعجز المبدعين عن التكيف مع الفضاء الرحب الذي أتاحته الحرية بوصفها مولود الثورة الشرعي، ليعجب حقا من هذا التخاذل في حماية المكتسبات التي لا غنى عنها في أي ثورة حقيقية وإلا نكصت على أعقابها واستحالت إلى أشدّ مما كان عليه الاستداد من انتاج للتخلف والتصحّر الفكري والحضاري حتي لكأنّ النخبة تشمت بنفسها وهي حقّا ليست أهلا لشيء كما كان يقول عنها المستبد.
لا شك في أن عصور القهر الطويلة فعلت فعلها في مجتمع نخرته الأمراض الاجتماعية وعانى قرونا من الفقر والأمية والجهل وطحنه الخوف الدائم من مستبد لا يرحم، ولكن هذا لا يمنع من التسليم بأن الإستبداد استطاع هو أيضا أن يصنع نخبته التي استماتت في الدفاع عنه وحين لفضه الناس استكانت حينا ثم عادت من جديد تسبه فى العلن وتعيد انتاجه فى السّر بوعي تام كونها إنما تفعل ذلك دفاعا عن نفسها ونمط عيشها ومصالحها،  نخبة منبتة عن هموم الوطن لا يهمها من الحرية إلا المقدار المتاح لها من أجل التخريب. 
لسنا بصدد التّجني على هذه النخبة ولكننا بصدد توصيف المشهد السريالي الذي نعيشه اليوم حيث تتراجع القوى الثورية وتلك التي ناضلت طويلا في سبيل الحرية والإنعتاق لتتقدم القوى التي ناصرت المستبد ودافعت عنه وتماهت معه واستفادت منه وهي القوى التي لا ترى الخطر فى الاستعمار او الاستلاب الحضاري وإنما تراه في القوى الصاعدة بعد الثورة ونخبتها التي هى نخبة جديدة تختلف مقولاتها وأحلامها باختلاف السياق الذي نشأت فيه وهو سياق الثورة واستعادة الوطن.
سوف يتجه البلد الآن بكل نخبه في طريق واحد هو طريق الانتخابات وسوف يتجلى صراع النخبة أكثر ليزداد الغبار من حول الوطن حاجبا الرؤية عن الناس بغاية تنفيرهم من الثورة وارهاصاتها في صدام جلي مع القوى التي تبحث عن خلاص الوطن بجميع من فيه واعادة بناءه على أسس من الوحدة والكرامة والوفاء لدماء الاجداد الذين لم يستطيعوا رغم اخلاصهم وتضحياتهم أن يتخلصوا من الاستبداد والقمع وتكريما للشهداء من قريب الذين خرجوا حالمين بوطن لهم رغم كيد النخبة التى تآمرت عليهم طويلا .
إن استطعنا أن نبعد النخبة الفاسدة وأن نعيد انتاج شروط الإبداع الحرّ فى فضاء رحب من الحرية وتخلّصنا من إرث الخنوع الذي ألبسه لنا المستعمرون والمستبدون والمنبتّون، فقد نستطيع انشاء وطن جديد يكتنفه الجمال أنى حللنا و إلا فلا مناص من النكوص وحينئذ فلا ريب أن مظاهر الاستبداد سوف تعود بأعنف مما كان. 
--------------
* مستشار في الخدمة الإجتماعيّة
lotfidahwathi2@gmail.com