قرأت لكم

بقلم
د.ناجي حجلاوي
نظرات في كتاب «الجليّ في التّفسير» لأبي يعرب
 أصدر أبو يعرب المرزوقي عن الدّار المتوسّطيّة للنّشر سنة 2010 كتابا بعنوان «الجليّ في التّفسير، استراتيجيّة القرآن التّوحيديّة ومنطق السّياسة المحمّديّة» وهو يتكوّن من ثلاثة أجزاء وعنوان الجزء الأوّل هو «الثّمرات الوجوديّة، الحصانة الرّوحيّة ودور النُّخب» وهذا الكتاب يطرح قضايا متعدّدة ومتنوّعة نشير إلى البعض منها كانقسام المسألة الثّقافيّة بين نوعيْن من الطّاغوت طاغوت العلمانيّة وطاغوت الأصوليّة الدّينيّة وهذا الانقسام هو المسؤول عن إفساد التّفكير الإسلامي الحديث. فهما طاغوتان يحرّفان الوجود ومن ثمّ تشّوهت الخيريّة الواردة في الآية «كنتم خير أمة أُخرجت للنّاس» وهي سمة الأمّة الّتي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ومن ثمّ تُضرب الرّسالة الوجوديّة والحصانة الرّوحيّة. أصوليّة أفسدت النّظر والتّفكير وأصوليّة أفسدت الجمال والذّوق. ومن مظاهر الإفساد في الأصوليّة الدّينيّة هو انزياح الفقه من كونه دافعا للعمل وطاقة مساعدة على الإنجاز لا ليصبح عامل تكفير علما بأنّ الّذي كفر حكمه مرجأ إلى الله عساه يتوب أو يجازي عند الله.
ومن القضايا الأخرى التّي عالجها هذا الكتاب هي مسألة أسباب النّزول فإذا كانت هذه الأسباب أحداثا وكان القرآن حديثا فالعلاقة بين هذا وذاك هي علاقة تأثّر وتأثير.
ومن القضايا المهمّة الأخرى الّـتي طرحها هذا الكتاب هي تناوله لضروب العقود الّتي تنتظم وفقها العلاقات: ومن هذه العقود ما هو سياسي عقلي ويكون بين الحاكم والمحكوم وعقد سياسي ديني وهو ضامن للتّكافل وتوفير الثّقة بين أفراد المجتمع بما يغرسه من وازع دينيّ لديهم. وما المطلوب من المجتمعات الطاّمعة في النّهضة إلاّ أن توازن بين ما هو وضعي وما هو شرعي: إلاّ أنّ الاختلال التّي تتخبّط فيه المجتمعات يتمثّل في أنّ العلمانيّة ترى نفسها فوق الشّرعي والأصوليّة ترى نفسها دونه. ومن المسائل المفيدة الّتي تطرّق إليها المؤلّف هو مفهوم الدّولة في القرآن، وعماده توفير العيش الآمن وتحقيق العدالة والمساواة بين الفئات عبر الحكم بالقسط وهذا الأمر يتطّلب بالضّرورة وجهين: معنوي ومادّي ويتطلّب قيما مشتركة كالثّقة والاحترام، أمّا القوّة المادّيّة بمفردها فالحياة تستحيل معها إلى جحيم  . وهي ثمرة الحداثة المزعومة والتّي تمثّلت في الحربين العالميّتين وفي الفاشيّة والعولمة المتوحّشة . ومن القضايا الأساسيّة كذلك نذكر قضيّة النسّخ في القرآن والمؤلّف يرجعه إلى نسخ مطلق ونسخ إضافي ويرى أنّ النّسخ موجود في القرآن من النّاحية المبدئيّة ولكنّه ليس مطلقا.إذ الرّسالة لا تنسخ ذاتها ولذلك تسمّى بشرع الشّرع. 
ومن القضايا الجوهريّة أيضا الواردة في هذا الكتاب هي مسألة العقل والنّقل إذ المسألة لا تتعلّق بجوهر الإشكال في نظريّة المعرفة ونظريّة القيمة اللّتين تداول فيهما الموقفان عند جميع الأمم وليس هو خاصّا بعلم الكلام الإسلامي، والمهمّ أنّ الوعي الإسلامي لم يدرك أنّ الخيار بين الموقف العقلاني والموقف التّجريبي في نظريّة المعرفة يلزم عنه حكم قيمة على أصحابهما بل هو خيار مصدره المفاضلة بين دور الفرض القبلي الّذي تنتسب إلى صورة الظّاهرة العقليّة الّتي لم تتحدّد بعد ومادّة الظّاهرة الحسّيّة الّتي هي المضمون التّجريبي من منطق نظريّة في المقوّم الأساسي لصحّة النّظريّة العلميّة ولا علاقة له بالوصف العقلاني في صراع الحزبين الأصوليّين الإسلاميّين، وهما الأشاعرة والمعتزلة.  
إنّ هذا الكتاب حافل بكثير من القضايا الدّقيقة والعميقة زادها المؤلّف عمقا بما توخّاه من معالجة فلسفيّة موغلة أحيانا في التجريد وهو يروم بذلك تأسيس أواليات ينهض عليها التّفسير الحديث للنّصّ القرآني وهو ما يستوجب كثيرا من العناية والاهتمام قصد النّقد والمراجعة. وهذا لا يغنينا عن طرح السّؤال التّالي: إذا اعتبرنا أنّ التفاسير التراثية أنماطا لإنتاج المعنى في التّاريخ، فما هو خطّ التّمايز بينها وبين النّموذج الّذي يروم أبو يعرب المرزوقي بلورة معالمه؟
--------
* شاعر تونسي
neji.hajlaoui.1@facebook.com