مقالات في التنمية

بقلم
علي سعيد
المرأة المسلمة والعمل للحساب الخاص
 يعتبر التطرّق لموضوع عمل المرأة المسلمة وخصوصا خارج البيت من بين المواضيع الّتي أثارت جدلا واسعا، هذا وقد عمل العديد من الباحثين والمشايخ على شيطنة هذا السّلوك والسّعي في كلّ مرّة إلى حثّ الرّجل على عدم السّماح لزوجه أو لابنته على العمل خارج البيت بحجّة أنّ عمل المرأة خارج بيتها يعتبر خطرا يهدّد سلامة العائلة ودين المرأة وأخلاقها. 
إنّ المتتبّع لواقع التّاريخ الإنساني يجد عكس هذا التوجّه، فالاقتصاد البشري منذ بداياته كان يعتمد على مشاركة المرأة في الإنتاج، وفي كثير من الأحيان الأخرى تمّ الاعتماد على إنتاجيّة المرأة أكثر من الرّجال. بيد أنهّ ورغم مشاركة المرأة في العمل، فلقد ضلّت وضعيّتها الماليّة سيّئة في العديد من الحضارات الوثنيّة والصينيّة والهنديّة واليونانيّة، حيث أنّها كانت تعامل كالخدم والعبيد، الذين يجب أن يعملوا ليلا نهارا من أجل إسعاد سيِّدهم، في حين أنّ المرأة في الحضارات القديمة في بلاد ما بين النّهرين (أين ظهر كثير من الأنبياء) كانت تتمتّع بالاستقلال الاقتصادي خصوصا في إدارة أملاكها، فللمرأة وحدها حقّ التصرّف بكلّ حرّية في ما هو ملك لها من أموال منقولة وثابتة.
ومنذ فجر الدّعوة الإسلاميّة، كانت المرأة المسلمة شريكة الرّجل المسلم وشقّه الآخر في الإيمان بالرّسالة، والدّعوة إليها، وتحمّل المشاق في سبيلها، والجهاد الدّائب لنصرتها والدّفاع عنها. فلقد أرسى الدّين الإسلامي قواعدا على أساس إكرام الإنسان رجلا كان أو امرأة، واحترام حقوقهما على السواء، كما أقرّ الإسلام حقّ المرأة في الملكيّة المستقلّة قبل الأنظمة القانونيّة الأخرى بقرون عديدة. فالمرأة المسلمة مدعوّة إلى الادّخار والاستثمار وتحسين أوضاعها كالرّجل تماما سواء بسواء، كما أنّها تتمتّع بالقدرة على الوصول والحصول على المنتجات، حيث أقرّ الإسلام حقّ المرأة في إبرام العقود وفي العمل والإجارة والتّجارة والبيع والشّراء والهبة والدّين والضّمان والوكالة وكافة التصرّفات الاقتصاديّة بحرّية واستقلاليّة كاملة وهو ما يتماشى مع نظريّة الإسلام الاقتصاديّة في توزيع الثّروة وتداولها واتّجاهها نحو عدم تكديس المال واعتماد مبدأ العمل والإنتاج والمبادرة. 
للمرأة في الدّين الإسلامي، حقّ في الميراث وهو ما يمكن أن يوفّر لها استقلاليّتها الاقتصاديّة لتصبح صاحبة ثروة وقدرة ورأي لتشكّل قطبا اقتصاديّا في المجتمع تساهم فيه بطاقاتها وإمكانيّاتها ومشاركتها الفعّالة لبناء المجتمع وتنمية قدراتها بالطّرق المشروعة، ومن بين النّساء العاملات في تّاريخنا الإسلامي نذكر:
* التّجارة: كانت السيدة خديجة، رضي الله عنها، من النساء اللاتي عملن بالتجارة الخارجية، إذ كانت تملك شبكة تجارية واسعة، وكان الرّسول، «صلّى الله عليه وسلّم» يضارب بالعمل وهي بالمال.
ويذكر ابن بطوطة في إحدى مشاهداته في رحلته إلى المدينة المنورة فيقول : «وأما نساء الباعة والسوقة فرأيتهن، وإحداهن تكون في العربة والخيل تجرها، وتأتي ومعها عبيدها بالغنم واللبن فتبيعه من الناس بالسلع العطرية»(رحلة ابن بطوطة ط دار الشرق العربي).
* الفلاحة: كانت أم مبشر الأنصاريّة تعمل في نخل لها، وأيّدها الرّسول، «صلّى الله عليه وسلّم».
* الصّناعة: روى ابن سعد: «أنّ ريطة بنت عبد الله بن معاوية الثقفيّة كانت امرأة صنّاعاً (أي ماهرة في الصّناعة) فقالت: «يا رسول الله، إنّي امرأة ذات صنعة، أبيع منها، وليس لي ولا لزوجي ولا لولديّ شيء، فهل أنفق عليهم؟» فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لك في ذلك أجر ما أنفقت عليهم»، كما روي أنّ زينب بنت جحش زوج الرّسول، صلّى الله عليه وسلّم، كانت امرأة صنّاع اليدين، فكانت تدبغ وتخرز وتبيع ما تصنعه، وكانت أم السّائب بن الأقرع الثقفية، تبيع العطر للنبيّ، صلّى الله عليه وسلّم.
وفي تونس برزت نساء عديدات عبر تاريخ البلاد ساهمن قبل الإستعمار أو أثناءه أو بعده مساهمة فعالة في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وشاركن في الرقي بمستوى المرأة التونسية وأكدن بما أنجزنه بأن المرأة التي تشكّل نصف المجتمع لها قدرات ذهنيّة وعمليّة وإنتاجيّة وإبداعيّة لا تقلّ عن قدرات أخيها الرجل وهي لا تحتاج إلا توفير الأرضية الملائمة قصد إبراز قدراتها، خاصة في المجال الإقتصادي والعمل لحسابها الشخصي.
ومن بين الدّوافع الّتي تجعل من المرأة تقدم على العمل لحسابها الشّخصي:
* تجد المرأة في العمل لحسابها الشّخصي استثمارا لطاقاتها العلميّة واستفادة من قدراتها العمليّة ممّا يجعلها تشعر بقيمة حياتيّة وتتمتّع بالسّيطرة والقيادة. 
* تستطيع المرأة صاحبة المشاريع أن تنجح أكثر من المرأة الموظّفة في تأدية الواجب تجاه عائلتها، فبسبب ترؤسها لمشروعها الخاصّ فهي لا تحتاج للكثير من الوقت لتسيير عملها وبالتّالي تستطيع تأمين حاجيّات الزّوج والأبناء كلّما اقتضى الأمر وهو أمر بديهيّ فالعمل للحساب الخاصّ يتميّز بحريّة التصرّف في الوقت.
* تمرّ المرأة في كثير من الأحيان بصراع نفسي لإثبات الذّات وتحدّي الرّجل في كلّ ما يقوم به، قد تتفوّق عليه وقد لا تحظى بذلك لكن يكون لها شرف المحاولة.
* تفضّل المرأة العمل الخاصّ حتّى تشعر بأنّها قادرة على الإنجاز والتّقدّم والنّمو.
* تتّجه الكثير من النّساء إلى العمل لحسابهنّ الشخصي لغرض الاستقلال الاقتصادي وتأمين متطلّبات حياتهنّ وخصوصا غير المتزوّجات أو الأرامل والمطلّقات.
* تشعر المرأة التّونسيّة كجلّ النّساء في مختلف أصقاع العالم بالظّلم وعدم المساواة في الحقـوق الاقتصاديّة وأجر العمل والانتفاع بالجهد المبذول بنفس القدر مع الرّجل، إذ غالبا ما تحصل على مرتّب لا يتناسب مع تضحياتها الجسام، كما تشعر أنّ من بين أسباب توظيفها، استغلال صورتها (جمالها) لجلب الحريف والتّرويج للمؤسّسة الّتي تمثّلها وأنّ العديد من الامتيازات الممنوحة للمرأة الموظّفة من ترقيات ومنح، تسند عن طريق بعض التنازلات الأخلاقيّة وهو ما ترفضه العديد من النّسوة. 
* لم يعد تعميم فكرة بقاء المرأة في البيت بالشّيء المقبول والممكن لأسباب عديدة، فعمل المرأة لا يعني دوما خروجها من البيت، إذ إنّ نسبة كبيرة من النّساء يؤدّين العديد من الأعمال اليدويّة/عبر الإنترنت... في بيوتهنّ.
* إنّ أهليّة المرأة للعمل قيمة ثابتة لا تتبدّل، ولا شرط على ممارسة المرأة للعمل إلاّ الالتزام بالخُلق الرّفيع والآداب العامّة، مثلها مثل الرّجل تماما. 
* احتـــلال المرأة اليوم موقعــــا هامّــــا في المجتمعات الحديثــــة ومساهمتها بشكل فعّال فـــــي صناعــــة الثّـــــورة العلميّة والعمليّـــــة لكثيــــر من الدّول، تجعـــل من المـــرأة التّونسيّـــة تقتدي بهنّ.
تولّـــدت هذه القناعات لدى المرأة التونسية عبر سنوات من التّجربة انطلقت من العمل داخل البيت ومن بعض الورشات التّقليديّة غير المنظّمة في معظم الأحيان لكنها جوبهت في العديد من الفترات بعراقيل دفعتها، بدل السعي نحو تنظيم وتعصير هذه الأعمال وتطويرها، إلى  العمل في الخفاء، ومنذ بعث البنك التّونسي للتضامن ومنظّمة «أندا» انتشرت المشاريع المقنّنة وحسب إحصائيّات للآنسة سندس العماري، ديسمبر 2011 فإنّ عدد المشاريع المموّلة حسب الجنس من قبل البنك التّونسي للتضامن خلال الفترة 2000-2011 يشير إلى ارتفاع النسبة المخصصة للذكور مقارنة مع تلك المخصصة للإناث.
وهو ما يفيد بأنّ توجيه المرأة التّونسيّة نحو مجال بعث المشاريع الصّغرى والمتوسّطة مازال ضعيفا ويحتاج لعديد القرارات والإجراءات يمكن أن نلخص بعضها في ما يلي :
* إقامة حلقات تكوينيّة عن تنمية روح المبادرة والتّنمية البشريّة.
* خلق هياكـــل وجمعيّات مدنيّة تؤطّر الفتيــــات وتساعدهــــنّ في التغلّب على الخوف الذّاتي والخوف من الفشل والخوف من منافسة الرّجل.
* التّكوين الأساسي في مجال بعث المشاريع والتّسيير ممّا يجعل من المرأة قادرة على بعث مشروعها الخاصّ وملمّة لآليّات القيادة والتّسيير بما يسمح لها خلق أجواء للعمل لا تضرّ بواجباتها تجاه الاسرة.
* الاهتمام بالتّأصيل الفكري المنهجي للعمل النّسائي الإسلامي، وبخاصّة عبر إدراج محاور جديدة في التّعليم الثّانوي والجامعي كالدراسات والأبحاث حول دور المرأة المسلمة ومهامها، وحول برامج العمل والخطط التنفيذيّة وآلياتّها.
* اكتساب مهارات التّخطيط السّليم والصّبر والعمل الدّؤوب لتحقيق الغايات، فنجاح المرأة ينطلق من نجاح التّخطيط له، سواء كان التّخطيط بعيد المدى لوضع الخطوط الرّئيسيّة للعمل، أو التّخطيط المرحلي حسب ظروف الواقع.
* تأمين ظروف النّجاح في عالم الأعمال وذلك عبر سنّ القوانين اللاّزمة لضمان شفافيّة المنافسة.
* العمل على إيجاد قيادات إسلاميّة نسائيّة تتولين قيادة العمل النّسائي الإسلامي.
* الانطلاق من الواقع الرّاهن رغم ضعفه والاستفادة من كلّ الطاقات والإمكانيّات والفرص لرفع مستوى سيّدات الأعمال. 
* دعوة الرجل إلى دعم خطوات المرأة في مجال العمل وتشجيعهنّ على تطويره والمساعدة في ذلك بكلّ الوسائل الممكنة.
* الاستفادة من تجارب الحركات الإسلاميّة النسائيّة في الأقطار الأخرى مثل تركيا وماليزيا وتبادل الخبرات معها. 
وفي هذا الإطار لا نرى كافيا ما تقوم به بعض الجمعيات من الدفع نحو استنساخ بعض التّجارب العربيّــــة في مجال التّمويل الإسلامي الأصغر، لأن حصر نشاط المرأة ومشاركتهــــا الإقتصادية في بعض المشاريع الصغــــرى التي تدخل تحت طائلة هذا النوع من التمويــــل لا يسمح للمرأة أن تشارك فعليــــا وبالحجم المطلوب والذي تطمح إليه في تنمية البـــلاد وتكرّس الصـــورة التقليديّة للمـــرأة . فتونس تحتاج في الوقت الرّاهن لنســــاء وسيّـــدات أعمال يقتحمن عالم الإستثمــــار في مختلف المجالات ولهذا وجب التفكيـــر جيّدا في وضع مخطط وطني يفسح المجال للمرأة أن تساهم من موقعهـــا في التنمية لما أظهرته المرأة التونسية من خلال الواقع المعاش من قدرة على التسيير والتفكير والإبداع . غير أن وضـــع هذا المخطـــط لا يمكــن أن يكون جدّيا وناجحا إلا بعد القيام بمســـح شامل يخلص إلى إرساء قواعد بيانات تضمّ:
* الأرامل (وبناتهنّ) ممّن لا عائل لهنّ وخاصّة أرامل من استشهد أزواجهنّ سواء في أحداث الثّورة التّونسيّة، أو في الدّفاع عن الوطن (من جنود ورجال الأمن والسّجون ورجال إطفاء...).
* المرأة الأميّة وربّات البيوت ممّن لا عائل لهن.ّ
* التّونسيّات من ذوي الحاجيّات الخصوصيّة والقادرات على التّعويل على الذّات.
* جرحى أحداث الثّورة التّونسيّة ممّن لا يمكن دمجهنّ في إحدى الوظائف المتاحة .
* صغار الفلاّحات. 
* التّونسيّات اللاتي لهنّ دخل محدود جدّا والمسرّحات من عملهنّ لأسباب اقتصاديّة.
* السّجينات السّابقات ممّن تلقّين تكوينا داخل المؤسّسات الإصلاحيّة، مشهود لهنّ بحسن السّيرة طيلة فترة الحكم. 
* صغريات الباعثات المنتميات للشّرائح الاجتماعيّة ذات الإمكانيّات المحدودة في مختلف مناطق البلاد، ولاسيّما مناطق الظّل، المعتمديّات ذات الأولويّة والجهات الدّاخليّة.
* المتمتّعات بالعفو التّشريعي العام ممّن تعوزهنّ القدرة على إيجاد عمل.
* المبادرات في مجالات الاختراع، الابتكار والتّطوير التّكنولوجيّ. 
* العاطلات عن العمل أو العاملات دون مستواهنّ التّعليمي والرّاغبات في فتح مشروع بالمناطق الدّاخليّة وبالمناطق الأقلّ حظّا.
* صاحبات الشّهادات العليا سواء العاطلات عن العمل أو العاملات دون مستواهنّ التّعليمي.
* المبادرات ممّن لهنّ شهادة كفاءة مهنيّة والتّونسيّات الّلواتي يرغبن في توسيع مشروعهنّ الصّغير وإعادة هيكلته أو تطويره.
* العاملات في الوظيفة العمّوميّة أو لدى الخواصّ والرّاغبات في فتح مشروع خاصّ.
بفضل قواعد البيانات هذه والّتي يمكن إعداد جزء مهمّ منها في فترة قصيرة، تستطيع الجهات المعنيّة برمجة دورات تكوين وتوجيه لحثّ المبادرات نحو قطاعات معيّنة ممّا يساهم في الخروج بالمرأة من الصّورة التّقليديّة (العولة، صناعة الحلو الدّياري،...) إلى الصّورة المطلوبة.