في الشأن السياسي

بقلم
لسعد الماجري
الأحزاب السياسية في تونس : معضلة الانتقال من الكمّ إلى الكيف
 من أهم مظاهر ما بعد الثورة أو ذلك الحراك الشعبي الذي أفرز شكلا جديدا من الفعل السياسي في تونس هو التشكّل الجديد لكثير من الأحزاب السّياسية وكذلك لعدد غير متناهي من الجمعيّات التي تعمل ضمن ما سمّي بالمجتمع المدني.
لا شكّ في أن الصّراع السّياسي هدفه السّلطة وكرسيّ الحكم وهذا شيء مشروع وطبيعي. اٍذ أنّ الديمقراطيات تتّسم بالتّعددية الحزبيّة وهذا مظهر ايجابيّ حيث تحاول الأحزاب في تلك الديمقراطيات العريقة استقطاب المنتمين والأنصار ودفعهم للمشاركة السّياسيّة وللتأثير في القرار السّياسي وفي بناء الدولة. اٍلاّ أنّ الشيء الملفت للنّظر في بلداننا بعد موجة الثورات الغير مكتملة، أنه حصل نوع من الاٍنفلات السّياسي تمظهر في تضخّم عدد الأحزاب والجمعيّات التي تشكّلت والتي اختلفت وتشابهت أسماءها ولم تفهم الجماهير العريضة حول ماذا تشكلت هذه الأحزاب وما هو الاٍختلاف الحقيقي بينها. فالكلّ ينادي بالحرّية والعدالة والكرامة، والكل يلوّح بالديمقراطية والمواطنة والبعض الآخر يرتكز على الدّين كعاطفة شعبيّة تجمع حولها الكثير من الناخبين، وهنا تجد جملة من الأحزاب الإسلاميّة تشكّلت حول مشروع سمّي بالاٍسلام السياسي والبعض الثاني تكلّس حول «الايدولوجيا» ولم يستطع أن يتطوّر بنفسه لفهم الواقع الجديد والمعقّد بعد الثورة كجملة الأحزاب اليسارية المنهج والتي تدور حول الفهم الماركسي للسّياسة والتي خبرت العمل النقابي منذ زمن. وآخرون اصطفّوا حول المشروع القومي العربي والذي هو مشروع كلاسيكي وقع اختباره في العديد من الأنظمة العربيّة التي سادت قبل الثورات كما في مصر وليبيا وغيرها من البلدان العربية. ومن وراء كل هؤلاء ظهرت حركات أخرى ذات توجه ديني سلفي ووهابي لا تعترف بالعمل الديمقراطي ولا بالدّولة المدنيّة وإنّما ترى أن الحلّ واضح في الاٍسلام وتتّخذ الدعوة منهجا لها وتنادي بالقرآن دستورا وترفض أي تشريع خارجه وتتنظم سرّا ولكنها سرعان ما وقع اختراقها والاٍندساس فيها من أطراف أخرى داخلية وخارجية فانتقلت بعض فصائلها إلى الاٍرهاب تحت مسمّى الجهاد. 
اٍن النّاظر إلى كل هذه التشكيلات من الأحزاب واٍلى هذا الكمّ البضائعي من الجمعيّات قد يتفهّم في البداية هذا الأمر كظاهرة أولى مقبولة بعد الثورة، اٍذ تترجم نوعا ما اٍرادة الاٍنخراط في الحياة السياسية من الجميع ومن كل القوى النّاشطة في المجتمع وهذا مؤشر جيّد في الدرجة الأولى، فهو يعبّر عن ثراء المجتمع وعدم التصحّر السياسي بعد فترة طويلة ساد فيها المنطق الواحد والحزب الواحد وتجفيف الساحة من المنافسين السياسيين للزعيم الأوحد. اٍلا أنّنا لا يمكن أن نتفهّم تمادي هذه الظاهرة بهذا الشكل المتخلّف بعد ذلك لأنه وجب على هذه الأحزاب أن تعيد التشكّل وأن تصيغ نفسها بشكل جديد يحترم أبجديات العمل السّياسي الديمقراطي والشفافية. وحسب رأينا لا بد لهذه الأحزاب أن تحاول قدر جهدها احترام جملة من المبادئ للعمل السياسي اٍذا أرادت لنفسها الديمومة وعدم الاٍندثار وإذا كانت تنوي الاٍشعاع الجماهيري والاٍنتشار :
(1) الابتعاد عن لبس الدّثار الإيديولوجي نهائيّا أي ذلك الفهم الميكانيكي للأشياء ضمن منطق الايدولوجيا. حسب رأينا فإنّ أي حزب يريد النجاح يوجّب عليه الاٍنخراط في منطق الواقع من أجل فهم المشكلات الاجتماعية والاقتصادية المطروحة بشكل موضوعي وعدم الانسياق الآلي وراء تفسيرات قبلية نظرية مهما كانت قوة النظرية التي يرجع اٍليها في تفسير الأحداث. اٍن الواقع الثوري الجديد والمعقّد لا يطابق أي نظرية مسبّقة مسقطة مهما كان بريقها. اٍن الواقع الجديد يتطلّب نظريته الخاصة به ولا بدّ للمفكرين الجدد ولروّاد الواقع وللمحتكّين به والخبراء أن يصوغوا هذه النظرية. وعلى السّياسيين أن ينأوا بأنفسهم عن التحدث إلى الجماهير الشعبيّة البسيطة بخطاب معقّد غير مفهوم وخطاب متعالي أو سفسطائي. اٍنّ دور السّياسي في هذه المرحلة هو تأطير الجماهير قصد حماية أهداف الثورة ومحاولة تبسيط الرؤيا لها من أجل التقليل من مظاهر الفوضى العارمة ومن أجل تسهيل انخراط هذه الجماهير في المشروع الديمقراطي الواسع والعريض حتى يتأتى لهذه الجماهير العريضة أن تتطوّر بنفسها عن الاٍستقالة الجماعية وأن تشحذ فيها الهمّة وأن تتغذى بالممارسة الديمقراطية ومتطلّباتها. فلا يمكن للايدولوجيا أن تسهّل هذه المرحلة الدقيقة وإنّما فنّ التأطير والصدق في الفكر والشفافية في التعامل وثقافة الحوار.
(2) الاٍبتعاد عن لعب دور الوصاية على الدّين أو التكلّم باسمه. فالمجتمعات العربية مسلمة بالمنطق التاريخي والحضاري ولا تنتظر حزبا سياسيّا معيّنا يعيد بريق الدّين. فالدين مخزون نفسي لدى الجماهير لا حاجة لإثباته أو نفيه. وإنّما من حقّ أي حزب سياسي أن يستأنس بفهم ديني تنويري متقدّم دون السقوط في الوصاية بأي شكل من الأشكال أو محاولة استخدام الدّين كمطيّة للعمل السياسي والوصول إلى السلطة لأنّ الدّين ملك للجميع لا يمكن لحزب من الأحزاب أن يستأثر به لنفسه دونا عن الآخرين. إنّ الدّين مقدّس عند الجماهير والعمل السياسي يتّسم عادة بالدنس لأنه عمل بشري يحتمل الخطأ والصواب ولذلك لا يمكن أن يحشر الدّين الصّافي والنّقي في الزّاوية لأن ذلك الحزب بعينه يتّخذ الدين سمة له ووصفا وكناية ولقبا وعنوانا وإعلانا فإذا نجح الحزب نجح الدّين وإذا فشل نفس الحزب في مرحلة سياسية أخرى فهمنا ذلك على أنه فشل للدّين. أنه بهذا التّمشي نضمن تكافؤ الفرص السياسية للجميع ولا نرجّح كفّة حزب على آخر لا لشيء إلا لأنه ينبع من الدّين. وفي انتظار أن تتطوّر الجماهير الشعبية بحسّها الواقعي وتبتعد شيئا فشيئا عن العاطفة وتقترب من الحسّ المدني والعقلاني وجب حماية المسار الديمقراطي من النكوص إلى الوراء والركوب على الدّين. فالدّين سفينة الجميع ولا يوجد في مجتمعاتنا كافر ومسلم كما حال مجتمع قريش إبّان الرّسالة المحمّدية ولكن هناك محافظون وتقدّميّون وأناس يناضلون من أجل الدّيمقراطية وآخرون يريدون إجهاضها وأناس يحبّون العدالة الاجتماعية وآخرون لا تروق لهم، فهم مصطفون حول حماية مصالحهم.  وعلى الأحزاب التي تريد أن تستوحي من الدّين حلولا للمجتمع، وهذا حقّها، أن تنخرط بصدق في اللعبة الدّيمقراطية ولا تكون في منزلة بين المنزلتين، تستخدم الديمقراطية كآلية للوصول إلى السّلطة ولا تؤمن بها. وعليها أن تنأى بنفسها عن الفهم المتخلّف للدّين فهذا الدّين يحثّ على العدل وعلى الحرّية وعلى العقل في أبهى تمظهراته وعليها أن تؤسّس فكرا يحاكي متطلّبات العصر. 
(3) اٍن على الأحزاب جميعا أن تبتعد على لغة الحشد والتجييش للجماهير لأن هذه الجماهير ليست كمّا بضائعيّا نتسابق على استقطابه، فمن تستقطبه اليوم قد تخسره غدا بلا عودة اٍن لم تؤسس برنامجا واضح المعالم للعمل. فلا بدّ إذن من الاٍنتقال من لغة الحماس إلى لغة العقل. إن الأحزاب تتنافس فيما بينها وهذا جوهر الديمقراطية ولكن حول برامج لا حول شعارات فضفاضة لا تسمن ولا تغني من جوع. إن لغة البرامج وحدها هي من يجب أن تسود وليست قعقعة الشعارات الكلامية الفارغة أو اللافتات الملوّنة المرفوعة. كفانا أشكالا وهامات فارعة بل علينا بالجواهر والنفائس.
(4) إن على الأحزاب السياسية اليوم أن لا تكتفي بمنطق الضدّ والمستضدّ أي أن تكون صدى يؤسّس وجوده على نقيض حزب آخر. فإذا كان الحزب الذي أناقضه ذو توجه ديني تناديت أنا بالعلمانية وإذا كان الحزب الآخر اشتراكيا تناديت أنا بالليبرالية... الخ، فيكون وجودي مرتبطا بوجوده فإذا انزاح الآخر وجدت نفسي منزاحا لا محالة.
على كلّ حزب سياسي إذن أن يجد له برنامجا واضحا على المستوى السياسي والاٍقتصادي والاٍجتماعي. وعليه أن يؤسّس وجوده على مبادئ واضحة وملموسة وعلى منظومة فكرية واقعية يمكن للجماهير العريضة فهمها وملامستها والتماهي معها دون صعوبة ولا تتطلّب مستوى عاليا من الفكر أو الثقافة أو الفلسفة لاستساغة المبادئ والبرامج المعلنة.
(5) على الأحزاب أيضا أن تتدرّب على شؤون الإدارة والحكم لأنّ غايتها الحكم واٍن كانت اليوم في المعارضة فقد تصل يوما إلى الحكم مفردة أو في ظل ائتلاف حزبي أو جبهة سياسية عريضة. وعلى هذا الأساس لا يمكنها أن تكتفي بعرض أفكارها في شكل أحلام وإنما توجّب عليها من هذا المنطلق أن تكتسب خبرات أساسية في الاٍقتصاد والمالية والتنمية والإدارة وصياغة المشاريع ولا تكتفي بالمنطق السّياسوي المبالغ فيه ولكن عليها أن تحيط هياكلها بخبراء في كل المجالات وبذلك يرتقي خطابها السياسي من وعود زائفة إلى برامج علمية مدروسة ومحيّنة : تكلفتها محسوبة ونتائجها مضمونة. وهكذا يصبح لدى أحزابنا السياسية الخبرات اللازمة لغوص دواليب الحكم والتصرف والتسيير ويصبح نقدها لغيرها من الأحزاب مبنيا على قراءة علمية للإمكانيات المتاحة والفرص الممكنة. وبذلك لا تهدر الطاقات في الكلام الفارغ الذي لا يسمن ولا يغني من جوع ونقدّم للجماهير حلولا حقيقية لا خطابات لاذعة لا يمكن ترجمتها في واقع الناس.