مراجعات

بقلم
نورالدين الجلاصي
النساء لسن ناقصات عقل و لا دين
 روي حديث « النّساء ناقصات عقل ودين» مسندا إلى أربعة من الصحابة ، فرواية أبي سعيد الخدري أخرجها البخاري ومسلم وابن حبان، ورواية عبد الله بن عمر أخرجها مسلم وأحمد وابن ماجه، ورواية أبي هريرة أخرجها مسلم والترمذي، وعنها قال : صحيح غريب. أما رواية عبد الله بن مسعود فأخرجها ابن حبان وابن أبي شيبة والحاكم في مستدركه على الصحيحين، وأبو داود الطيالسي والحارث بن أبي أسامة والحميدي والشّاشي في مسانيدهم.
 نص هذا الحديث المشهور بين الناس هو ذلك الذي رواه البخاري وغيره مسندا إلى أبي سعيد الخدري، وفيه أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم خرج في يوم عيد الى المصلّى فوعظ النّاس ثم انصرف فمرّ على النساء فقال : « يا معشر النّساء تصدّقن فإنّي رأيتكنّ أكثر أهل النّار»، فقلن: «وبم ذلك يا رسول الله ؟» قال : «تكثرن اللّعن وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرّجل الحازم من إحداكن». قلن:« وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله ؟» قال: « أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرّجل ؟» قلن: « بلى» .قال : «فذلك من نقصان عقلها. أليس اذا حاضت لم تصلّ ولم تصم؟» قلن : «بلى». قال: «فذلك من نقصان دينها».
 وهذه الصيغة توافق رواية ابن عمر وأبي هريـــرة في نسبــــة قول : ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل منكن ...الخ. إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
أما رواية عبد الله بن مسعود فإنها ترد بصيغتين:
الأولى : توافق ما سبقها من روايات البخاري وغيره كما في الصّيغة التي ذكرناها آنفا عن أبي سعيد الخدري، وهي عند الحاكم في مستدركه على الصحيحين .
والثانية : أخرجها ابن حبّان والحارث بن أبي أسامة والحميدي والشّاشي في مسانيدهم وابن أبي شيبة في مصنفه، وهي من رواية شعبة بن الحجّاج عن الحكم بن عتيبة ومنصور بن المعتمر والأعمش سليمان بن مهران، جميعهم عن ذر بن عبد الله المرهبي عن وائل بن مهانة التيمي عن عبد الله بن مسعود عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال للنّساء : تصدقن فإنّكن أكثر أهل النّار، فقالت امرأة – ليست من علية النساء – بِم أو لِم ؟ قال : لأنّكن تكثرن اللّعن وتكفرن العشير . قال عبد الله –أي ابن مسعود -: ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب على الرجال ذوي العقول منهن. قيل: وما نقصان دينها ؟ قال: تمكث كذا وكذا يوما لا تصلّي. قيل: وما نقصان عقلها ؟ قال : جعلت شهادة امرأتين شهادة رجل.
إن وجه الخلاف الأساسي بين هذه الصيغ كلها هو في نسبة قول: ما رأيت من ناقصات عقل ودين ...الخ ، فمرّة ينسب إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم ، و مرة ثانية إلى الصّحابي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
 لنذكر أولا أن حديث ابن مسعود بالصّيغة الثّانية التي تنسب قول: ما رأيت من ناقصات عقل ودين ... إليه ، هو صحيح السّند ، وليس فيه مطعن لأحد، وقد أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده من طريق شعبة بن الحجاج عن الحكم عن ذر بن عبد الله عن وائل بن مهانة عن عبد الله بن مسعود، واكتفى فيه إلى حدّ قوله صلّى الله عليه وسلّم «... وتكفرن العشير». وقد علّق البوصيري على سنده بقوله : ورجاله ثقات .
وأخرجه بتمامه وبنفس السّند الحارث بن أبي أسامة وابن حبّان والشّاشي ، وذكروا أن قول: ما رأيت من ناقصات عقل ودين ...الخ. هو من كلام عبد الله بن مسعود وليس من كلام النّبي صلّى الله عليه وسلّم.
و رواه الحميدي  أيضا في مسنده عن سفيان بن عيينة عن منصور بن المعتمر عن ذر بن عبد الله عن وائل بن مهانة عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : تصدّقن يا معشر النّساء ولو من حليكن فإنكن أكثر أهل النار، فقامت امرأة –ليست من علية النساء – فقالت : لم يا رسول الله ؟ قال : لأنكن تكثرن اللّعن وتكفرن العشير . ثم قال عبد الله –أي ابن مسعود-: ما وجد من ناقص العقل والدّين أغلب للرّجال ذوي الرّأي على أمورهم من النّساء. قال: فقيل: يا أبا عبد الرّحمن، وما نقصان عقلها ودينها ؟ قال: أما نقصان عقلها فجعل الله شهادة امرأتين شهادة رجل وأمّا نقصان دينها فإنّها تمكث كذا يوما لا تصلّي لله سجدة.
 ومن هذه الطريق أيضا أخرجه الحاكم النيسابوري في كتاب النّكاح من المستدرك على الصّحيحين وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه – يعني البخاري ومسلم- ووافقه الإمام الذّهبي في التلخيص، مع أنّه قال في وائل بن مهانة في ميزان الاعتدال: لا يعرف. وهذا تسرّع منه ، فقد قال الإمامان أحمد  والبخاري : كان من أصحاب ابن مسعود، وذكره ابن سعد و الإمام مسلم في الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة ، ووثقه ابن حبّان والعجلي والنسائي كما قاله الذهبي نفسه في الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة، بل إن الذهبي علّق على تخريج الحاكم له في كتاب الأهوال من المستدرك بقوله : صحيح على شرط البخاري ومسلم .
والظّاهر البيّن من عمل هؤلاء الحفاظ إنّ ذلك كان دقّة نظر منهم حيث لم تثبت نسبة بقيّة الرّواية أي من قول: ما رأيت من ناقصات عقل ودين... إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وما دام هذا الجزء قد ثبتت نسبته إلى الصّحابي عبد الله بن مسعود وصحّت روايته عنه فإنّه يكون قد أدرج في بقية الروايات المنقولـــة عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وعبد الله بن عمر في كلام النبــي صلّــى الله عليه وسلّم وهو في الأصل ليس من كلامه، وهذا ما يصطلح عليــه في علــم الحديــث « بالحديث المدرج» أي ما كان في الحقيقة من غير كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأدخل في كلامه إما شرحا للفظة أو بيانا لمسألة أو سهوا من الرّاوي أو ذكرا لموقف كما هو الحال في بعض عبارة هذا الحديث الذي نحن بصدد بيان ضعف نسبتها إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، بل إن عبارة «ليست من علية النساء» هي أيضا مدرجة لأنها من كلام ابن مسعود في وصف المرأة التي اعترضت قول النبي صلى الله عليه وسلم «..فإنكن أكثر أهل النار» بقولها : «لم يا رسول الله».
 ومما يؤكّد حصول هذا الإدراج في هذا الحديث ويثبت أن قول : «...ناقصات عقل ودين ..» هو من كلام الصحابي ابن مسعود وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أمور منها:
 * أن هذا الحديث تصحّ نسبته إلى عبد الله بن مسعود لا لغيــره لأنه قد حفّت بوروده قصّة تعلّقت به وبزوجته ملخصها أن رائطة أو زينب – وهما اسمان لها، كما ذكره الطحاوي والكلاباذي – كانت امرأة صنّاعا – حاذقة ماهرة بعمل اليدين- وكان زوجها عبد الله بن مسعود رجلا خفيف ذات اليد – (قليل الأموال)، فكانت تنفق عليه وعلى ولده من صنعتها، فلما سمعت النّبي صلى الله عليه وسلم يقول «..تصدّقن فإنّكن أكثر أهل النار» عادت إلى بيتها فأخذت حليّا لها وعزمت على الخروج للتّصدق به ، فقال لها زوجها ابن مسعود:«أين تذهبين بهذا الحلي ؟» فقالت: «أتقرّب به إلى الله والى رسوله لعلّ الله أن لا يجعلني من أهل النّار، لقد شغلتني أنت وولدك، فما أستطيع أن أتصدق معكم».
قال : «هلمّي ويلك تصدّقي به علي وعلى ولدي، ما أحبّ إن لم يكن في ذلك أجر أن تفعلي،» فقالت : «لا والله حتى أذهب به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو ائته أنت فاسأله فإن كان ذلك يجزيني وإلاّ صرفتها إلى غيركم». قال عبد الله : «بل ائتيه أنت». فقالت فانطلقت فاستأذنت بلالا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : «يا رسول الله هذه زينب تستأذن عليك»، فقال : «أي الزيانب»؟ قيل: «امرأة عبد الله بن مسعود». فقال : «نعم ائذنوا لها».
فأذن لها فقالت: «يا نبي الله إنّك أمرتنا اليوم بالصّدقة وكان عندي حليّ فأردت أن أتصدّق، فزعم ابن مسعود أنّه وولده أحقّ من تصدقت به عليهم»، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلم: «صدق، زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم.»
إن هذه الصّيغة للرّواية مؤلّفة من مجموع روايات تتحدّث عن نفس الحادثـــة، وتعدّدها لا يفيد تكرّر الواقعة وإنّما له علاقة بالرّاوي الأصلي لها -أعنـــي عبد الله بن مسعـــود - الذي يكون قد حدّث بها في أكثر من مناسبـــة ، وهو ما يفسّر اختــــلاف الألفاظ عنـــه في الموضع نفسه، من ذلك قولـــه في وصف المـــرأة التي تساءلت عن سبب كثرة أهل النّار من النّساء فقال مرة : « قالت امرأة ليست من علية النساء» وفي أخرى « فقالت امرأة جزلة»(أي ذكية) ، وفي ثالثة : «ليست بأعقلهن ...» أو يكون هذا التعدّد متعلّقا برواية الصّحابي عن الصّحابي، وهذا من البيّن الواضـــح في هذا الحديث، فبعضه المتعلّق بزوجة عبد الله بن مسعود في سؤالها النّبي صلى الله عليه وسلم لم يشهده ابن مسعود وإنّما رواه عنها. وهذا البعض نفسه رواه أبو سعيد الخدري كما في صحيح البخاري ولم يحضره ولا هو كان شاهدا عليه، إذ الآذن لها على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بلال ...فيكون أبو سعيد قد رواه عن ابن مسعود أو «حمله عن زينب صاحبة القصة» كما قال ابن حجر. ورواية الصّحابي عن مثله أمر معلوم لمن عرف حالهم رضي الله عنهم، وليس في ذلك مطعن عليهم، إذ لم يكونوا يكذبون.
والظاهر من ذلك كلّه أن « مشادّة كلاميّة» وقعت بين عبد الله بن مسعود وزوجته حيث دعاها الى أن تتصدّق بحليّها عليه وعلى ولده فأبت عليه حتى تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعلّها أن تكون قد أغضبته حين أبت عليه ولم تصدق قوله. فكان من شأنه أنه عندما حدث بأمره غيره من الصحابة علّق على « تعنّت النساء» جملة فقال:«ما من نّاقصات عقل ودين أغلب للرّجال ذوي الرّأي من النساء...» ، ويدلّ على ذلك رواية أبي سعيد الخدري عند البخاري متحدّثا على زينب زوجة ابن مسعود ، قالت :«يا نبي الله إنّك أمرت اليوم بالصّدقة وكان عندي حليّ فأردت أن أتصدق به فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم» . فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم».
   وفي إخراج الإمام البخاري لهذا القسم من الرّواية في صحيحه إشارة قويّة دالّة على صحّة حديث ابن مسعود، وحجّة وجيهة تثبت معرفة البخاري له، ممّا يدفع القارئ إلى التّساؤل لِمَ أخرج رواية أبي سعيد الخدري ولم يخرج رواية ابن مسعود؟
  هنا من الضروري أن يسعى القارئ إلى فهم عمل الإمام البخاري، وإدراك ما اعتمل في عقله واختلج في صدره، إذ لا شكّ أن ذلك كان حاضرا أثناء تصنفه للجامع الصحيح...
  لقد كان من الشروط التي ألزم بها هذا الإمام العظيم نفسه في تخريج الرواية – وهي شروط لم ينصّ عليها في كتابه، وإنما استخرجها علماء الحديث من طول دراستهم للصّحيح وعنايتهم به – أقول، لقد ألزم نفسه أنه لا يخرج لراوٍ  إلاّ أن يكون له راويان يرويان عنه الحديث فيخرج بهما من حدّ الجهالة .. ولمّا كان وائل بن مهانة التيمي الكوفي الرّاوي عن ابن مسعود قوله : «ما رأيت من ناقصات عقل ودين ...» لم يرو عنه أحد غير ذر بن عبد الله المرهبي كما ذكره الإمام مسلم في كتاب «المنفردات والوحدان»، فإنّ البخاري لم يرو حديثه التزاما منه  بشرطه. ولهذا السّبب عينه حكم عليه ابن حجر في تقريب التهذيب بقوله: «مقبول من الثّانية». فهو من الثّانية أي من طبقة كبار التّابعين، وهو مقبول  - لا لضعف فيه – وإنّما لقلّة حديثه كما ذكر ابن سعد وتابعه ابن حجر في ذلك.
 وربّما كان ممّا ضاعف توجّه البخاري إلى ترك رواية وائل بن مهانة عن ابن مسعود: « ما رأيت من ناقصات عقل ودين...» أن أحد أسانيد روايته يأتي من طريق حسّان – هكذا غير منسوب – عن وائل بن مهانة عن عبد الله بن مسعود موقوف عليه.. أي لا يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الطريق ضعيف لأنّ حسّانا هذا مجهول، والجهالة سبب لضعف الحديث وترك الاحتجاج والعمل به، غير أن هذا السّبب مستبعد لأن المحفوظ كما ذكر ابن حجر العسقلاني هو رواية ذرّ بن عبد الله عن وائل بن مهانة من دون واسطة حسان - غير المنسوب هذا - ، وبذلك يصحّ السّند بل قد سقنا فيما تقدّم قول البوصيري في « الإتحاف» : «رجاله ثقات» .
على أنّ ما ذهبنا إليه في شأن قول : «ما رأيت من نّاقصات عقل ودين»... الخ من أنّه مدرج في كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنّه من كلام عبد الله بن مسعود، وعليه فيجب وقفه عليه لا رفعه الى النّبي صلّى الله عليه وسلّم .- أقول – إن ذلك لم نسبق إليه ، وإنّما وجدنا أصول هذ القول عند النسائي والمزّي وابن حجر، غير أنّه قول ملتبس غير بيّن، وصورته الآتية :
أن النسائي رواه في سننه من ثلاث طرق :
* الأولى من طريق شعبة عن الحاكم قال: «سمعت ذرّا يحدث عن وائل بن مهانة عن ابن مسعود عن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: تصدقن»... الحديث.. إلى قوله «وتكفرن العشير» .
*الثانية : من طريق سفيان قال : «حفظناه من منصور، سمعه من ذر يحدث عن وائل بن مهانة عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تصدقن يا معشر النساء ...الحديث ..الى قوله وتكفرن العشير» .
* الثالثة: من طريق داود بن عمرو قال: «أخبرنا منصور بن أبي الأسود عن الأعمش عن ذر عن حسّان عن وائل بن مهانة قال: قال عبد الله : تصدقن يا معشر النساء ... نحوه  قال النسائي : «ولم يرفعه.»
  فتبين من ذلك أن الطريقين الأوليتين مرفوعتان الى النّبي صلّى الله عليه وسلّم ، أمّا الطريق الثّالثة فموقوفة على عبد الله بن مسعود.
  هذا ما رواه النسائي ونقله عنه ابن حجر في تهذيب التهذيب، غير أنّ أبا الفضل العسقلاني شارح البخاري عدل في التهذيب عما ذكره المزّي مصحّحا لما أورده النّسائي فلخّص روايات النّسائي قائلا في ترجمة حسّان غير المنسوب :
« عن وائل بن مهانة عن ابن مسعود قال: يا معشر النساء تصدّقن... الحديث موقوف، قاله الأعمش عن ذرّ بن عبدالله عنه. وخلفه منصور والحكم عن ذرّ عن وائل عن ابن مسعود مرفوعا ولم يذكر حسّانا، أخرجه النسائي على اختلافه.
 أمّا ما ذكره المزّي في تهذيب الكمال وأعرض عنه ابن حجر في تهذيبه : فهو قوله في ترجمة حسّان  - (وذكر رمز «س» نسبة الى النّسائي) – قال: «حسان غير منسوب عن وائل بن مهانة عن عبد الله بن مسعود : ما رأيت من ناقصات عقل ودين ... الحديث، موقوف، وعنه – أي حسّان – ذرّ بن عبد الله. قاله منصور بن أبي الأسود عن الأعمش عن ذر. وقال شعبة عن الحكم عن ذر عن وائل نفسه مرفوعا، وهو المحفوظ».
 هذا ما قاله المزّي، فتبيّن أنّ الموقوف على عبد الله بن مسعود من الحديث بتمامه هو قوله : «ما رأيت من ناقصات عقل ودين»..إلى آخر الحديث فقط، لا كلّ الحديث وأنّ المرفوع منه إلى النّبي صلّى الله عليه وسلم هو قوله : «يا معشر النساء تصدقن...إلى وتكفرن العشير» .
 وإذا تركنا جانبا مسألة حسّان غير المنسوب هذا، إذ لا تأثير لها على رواية الأعمش عند النّسائي فقد رواها ابن أبي شيبة قال : «حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش عن ذر عن وائل بن مهانة قال: قال عبد الله ما رأيت من ناقص الدّين والرأي أغلب للرّجال ذوي الأمر على أمرهم من النساء . قالوا: يا أبا عبد الرحمن، وما نقصان دينها؟ قال: تركها الصلاة أيام حيضها، قالوا: فما نقصان عقلها؟ قال : لاتجوز شهادة امرأتين إلا بشهادة رجل».
 وأبو معاوية الضرير (محمد بن خازم) من أثبت الناس في الأعمش، قاله أحمد وابن معين وغير واحد من علماء هذا الفن.
  أقول: إذا تركنا حسانا غير المنسوب هذا –لما مرّ آنفا من رواية ابن أبي شيبة – تبين أنّ قولنا : إنّ القول المنسوب إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم : ما رأيت من ناقصات عقل ودين ... الخ ، هو من كلام عبدالله بن مسعود ، وأنّه موقوف عليه ،وقد أدرج في كلام النّبي صلّى الله عليه وسلّم ، وبذلك فإنّنا لم نسبق إليه بل وجدنا له أثرا في كلام العلماء قديما .
على  أنّ القول بالإدراج لا يقدح في صحّة الحديث ضرورة، وان رتّب الحديث المدرج في نوع الضعيف في كتب المصطلح، ولذلك قال ابن كثير متحدثا عن معرفة المدرج : « وقد وقع من ذلك كثير في الصّحاح والحسان والمسانيد وغيرها»، فقوله في الصّحاح عنى أنه لا تأثير للإدراج على درجة صحّة الحديث.
 وأمّا قول الحافظ المزّي إن المحفوظ رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فالظّاهر أنّه يقصد أصل الحديث لا قول:«ما رأيت من ناقصات عقل ودين...» على وجه التخصيص، فإنّ هذا القول ثابت أنّه من كلام عبد الله بن مسعود كما في الرّواية التي أخرجها ابن حبّان في صحيحه  وابن أبي شيبة  في المصنف والدّارمي في السّنن  والحميدي والحارث بن أبي أسامة والشّاشي في مسانيدهم، ولذلك تراه فسّره بما يعتقد صوابه حين سئل : « يا أبا عبد الرحمن، وما نقصان دينها .. وما نقصان عقلها. فقال تركها الصلاة أيام حيضها وأنه لا تجوز شهادة امرأتين الا بشهادة رجل» .على اختلاف في الألفاظ المحكيّة فيه.
  ويزيدك يقينا في ذلك رواية مسلم والبخاري وابن خزيمة وأحمد بن حنبل والدّارمي وابن حبّان والنّسائي في الكبرى وابن أبي شيبة وابن ماجه عن جابر وابن عباس وحكيم بن حزام بألفاظ متفاوتة، نسوق إليك منها لفظ جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: «شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد، فبدأ بالصّلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، ثم قام متوكّئا على بلال، فأمر بتقوى الله، وحثّ على طاعته، ووعظ الناس، وذكّرهم ثم مضى حتى أتى النساء، فوعظهن وذكرهن، فقال : تصدّقن فإنّ أكثركنّ حطب جهنّم. فقالت امرأة من سطة النساء (أي جالسة في وسطهن) سفعاء الخدّين (أي فيهما تغيّر وسواد) : «لم يا رسول الله» ؟ قال: «لأنّكن تكثرن الشّكاة وتكفرن العشير» ، قال: فجعلن يتصدقن من حليّهن يلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتمهن» ؟
 فهذا هو أصل الحديث المتّفق عليه في سائر الروايات، وهو الثّابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمّا بقيته فهو مختلف في رفعه إليه عليه السّلام أو وقفه على ابن مسعود رضي الله عنه.. وحينئذ لا يبعد أن يكون رفعه مجرد وهم ممّن رفعه إليه ظنّا منه أنّه من حديثه صلى الله عليه وسلم، واعتماد منهج المقارنة يؤكّد ذلك حيث يكشف عن الرؤية الإنسانيّة والواقعيّة للرّواة مهما كانت درجتهم في الضبط والإتقان وقد نقل هذا واضحا وصريحا عن أحمد بن حنبل قال: «... والغالب على من يحفظ ويحدث أن يهم وليس من الإنصاف ترك حديث شيخ ثبت صحت عنه السنة لأوهام يهم فيها». (ابن حجر: تهذيب التهذيب 6/398) وبمثله صرّح مسلم بن الحجاج في كتاب التمييز فقال: «... فليس من ناقل خبر وحامل أثر من السّلف الماضين إلى زماننا – وان كان من أحفظ الناس، وأشدّهم توقيا واتّقانا لما يحفظ وينقل – إلاّ الغلط والسّهو ممكن في حفظه ونقله، ..» (كتاب التمييز ص124)
ويترتب على نسبة كلام ابن مسعود رضي الله عنه إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم أقوال وأحكام نعتقد – قطعا – أنّها لا تصدر عنه عليه السلام ، منها قول السرخسي في المبسوط (29/216) «والدّية تنقص بصفة الأنوثة ...لنقصان دين النّساء كما وصفهنّ به الرّسول – صلّى الله عليه وسلم- في قوله انّهن ناقصات عقل ودين .»
وقال في الموافقات 4/46 ... ونبّه على ذلك في قوله : «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لبّ منكنّ . وفسّر نقصان العقل بأنّ شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل وحيث ثبت ذلك بالقرآن وقال فيه « أن تضّل أحداهما فتذكر إحداهما الأخرى. دلّ على انحطاطهن عن درجة الرجل».
وجوّز آخر «أن يكون للنّساء قوة الاجتهاد وإن كنّ ناقصات عقل»   (غاية الوصول في شرح لب الأصول ص165)
وقال آخر: «.. ونقصان دينها أنّها اذا حاضت لا تصوم ولا تصلّي، وهذا النّقصان ليس هو نقص مما أمرت به، فلا تعاقب على هذا النقصان، لكن من أمر بالصّلاة والصّوم ففعله كان دينه كاملا بالنسبة الى هذه النّاقصة الدين»  (مجموع الفتاوى 7/232- 233)
 وقال أيضا:«...وقال – أي النّبي صلّى الله عليه وسلّم – في نقصان دينهن: «إنها إذا حاضت لا تصوم ولا تصلـــي»، وهذا ممّا أمر الله به فليس هذا النّقص دينا لها تعاقب عليـــه، لكن هو نقص حيـــن لم تؤمر بالعبادة في هذا الحــــال. والرّجل كامــــل حيث أمر بالعبادة في كل حال، فدلّ ذلك على أنّ من أمر بطاعة يفعلها كــــان أفضل ممّن لم يؤمر بها وان لم يكن عاصيـــا، فهذا أفضل دينا وإيمانا، وهذا المفضـــول ليس بمعقب ومذموم فهذه الزّيادة كزيادة الإيمان بالتطوعات» (المجموع 13/54)
فأما  نقصان ديّة المرأة عن ديّة الرّجل فقد قال الشّيخ يوسف القرضاوي : «انه لا يثبت فيه حديث صحيح، ولم يرو واحد من الأيمة المحدثين الكبار أي أحاديث في تنصيف ديّة المرأة ، حتى جاء الإمام البيهقي ليرو لنا في السّنن الكبـــرى حديثا عن معاذ بن جبل عن النّبي – صلّى الله عليه وسلّم – قال: «ديّة المرأة على النّصف من ديّة الرّجل»، وقد رواه البيهقي من طريق عبادة بن نسي ، ثم قال:«وفيه ضعف»، وأشار إلى إسناد هذا الحديث في الباب التالي فقال: «لا يثبت مثله».
فهذا ما ثبت في الحديث المرفوع عن ديّة المرأة خاصّة – أعني ديّة النفس، وقد جاءت أحاديث في جراحات المرأة مثل كسر الأصابع أو الأسنان...فقد رووا حديثا يصرّح أنّ ديّة المرأة مثل ديّة الرّجل حتّى تبلغ الثلث، فتكون على النّصف من ديّة الرّجل، فقد روى النّسائي في سننه عن إسماعيل بن عياش عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: « عقل المرأة مثل عقل الرّجل، حتى تبلغ الثّلث من ديتها». قال أبو عبد الرحمــــن ( النسائي): «إسماعيل بن عياش  ضعيف كثير الخطأ» . يضاف إليه أن ابن جريج لم يلق عمرو بن شعيب ولم يسمعه كما قاله أحمد بن حنبل والبخاري.
وروى ابن التّين عن بعضهم أنّه حمل العقل في حديث ابن مسعود «النساء ناقصات عقل» على الدّية. ثمّ علّق على ذلك بقوله: «وفيه بعد». وقال ابن حجر معقّبا على قول ابن التّين السفاقسي:«بل سياق الكلام يأباه».(الفتح:1/406)
ثم ان هذا الحكم معارض بقول الله تعالى :{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً }(النساء92)
فالآية بيّنة محكمة واضحة الدّلالة، وهي لم تميّز في الحكم بين رجل وامرأة في وجوب الدّية والكفّارة، والدّية هي حقّ أولياء الدّم والكفّارة هي حقّ الله تعالى.
وهو معارض بالسنّة في قوله صلى الله عليه وسلم :«المسلمون تتكافأ دماؤهم»، أي تتساوى دماؤهم في القصاص والحرمات، لا يفضل شريف على وضيع، وذلك لأنّهم سواء في المكانة، وفي الحرمة والحقوق، ومقتضى هذا : أن لا نفرق هنا بين ذكر وأنثى، فليس دم الرّجل أثمن وأغلى من دم المرأة، حتى تكون عقوبة الاعتداء عليها أقل من عقوبة الاعتداء على الرّجل، ولو صحّ ذلك لم يكن هذا الحديث صحيح المعنى، لأنّ دماء المسلمين في هذه الحالة غير متكافئة ولا متساوية.
 وأمّا عن شهادة المرأة فقد اختلف فيها علماء المسلمين. فقال ابن القيّم بقبول شهادة النّساء منفردات في الأعراس والحمّامات والمواضع التي تنفرد النّساء بالحضور فيها، وأجاز قبول شهادتهنّ على الوصيّة في السّفر، واعتبر ذلك أولى من قبول شهادة الكفّار فيها.
وأجاز عطاء شهادة النّساء في النّكاح، وأجاز شريح شهادتهنّ في الطّلاق ، وقال بعض النّاس : «تجوز شهادة النّساء في الحدود».
وروى ابن أبي شيبة عن مكحول قال : «لا تجوز شهادة النّساء إلاّ في الدّين». وعن الشّعبي قال : «من الشّهادات ما لا تجوز فيه إلاّ شهادة النساء» .
وعن الزهري قال: «مضت السنّة أنّه تجوز شهادة النّساء فيما لا يطلع عليه غيرهن».
 ومجموع هذه الأقوال يدلّ على أنّه لا يوجد مجال لم تدخله شهادة النّساء. وعليه فإنّ قوله تعالى :(وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى) (البقرة/ 282)  لا يحسن حمله على انحطاط المرأة  لا لنقصان العقل والدّين ولا بأصل الجبلة والفطرة، - لأنّ « العقل لايختلف، لأنه حجّة عامة يرجع اليها النّاس عند اختلافهم ولو تفاوتت العقول ( أي بأصل الجبلــة) لما كان كذلـــك» - بل يجب حمله على العوارض التي تنشأ نتيجة ظروف معيشية كالانقطاع عن التعليم أو الانحصار بين جدران البيت لا تكاد تغادره ،أو بسبب الانكفاء على الذّات فلا تستمر تنميتها ثقافيّا ... وهي في هذا لا تختلف عن الرّجل .
وتوجد إشارات لهذا المعنى وردت في تفسير الآية كقول الشيخ ابن عاشور: «...وفيه مرمى آخر هو تعويدهم بإدخال المرأة في شؤون الحياة إذ كانت في الجاهليّة لا تشرك في هذه الشؤون».
وكقول ابن القيم :«... والمرأة العدل كالرّجل في الصدّق والأمانة والدّيانة إلا أنّها لما خيف عليها السّهو والنّسيان قويت بمثلها وذلك قد يجعلها أقوى من الرجل الواحد أو مثله، ولا ريب أنّ الظّن المستفاد من شهادة مثل أم الدرداء و أم عطية (صحابيتان ) أقوى من الظّن المستفاد من رجل واحد دونهما و دون أمثالهما ... وهو سبحانه لم يذكر ما يحكم به الحاكم وإنما أرشدنا إلى ما يحفظ به الحق، وطرق الحكم أوسع من الطرق التي تحفظ بها الحقوق.»
فأنت ترى أن شهادة الثّانية تزكية لشهادة الأولى، ونحسب لو أن رجلا استشهد في قضية فاضطربت شهادته لسهو أو نسيان فإنّه لن يؤتى بثان يذكّره أو يقوّي شهادته وإنّما تسقط شهادته فلا يؤخذ بها، فامتازت المرأة بهذا التفضّل الإلهي تعليما للأمّة وتعويدا لها بإشراك المرأة في شؤون الحياة، والغاية الأساسيّة هي صون حقوق الناس وحفظها.
وأمّا نقصان دين المرأة حيث لا تصوم ولا تصلّي حين حيضها ... فلا دليل فيه على « أنّ من أمرّ بالصّلاة والصّوم ففعله كان دينه كاملا بالنسبة إلى هذه الناقصة الدين»، لأنّ ذلك « شيء كتبه الله تعالى على بنات آدم» كما هو نصّ الحديث الصّحيح، ولو كان الأمر على ما ظّن بعضهم لكانت الأزواج أدنى مرتبة من أزواجهن، والله تعالى يقول: « جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ» (الرعد 23). ويقول سبحانه : «هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ» (يس56). ويقول عزّ وجلّ من قائل: «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ» (الزخرف70).