تجلّيات

بقلم
الحبيب المعلول
هل تستغني أدلّة الشريعة اللفظية عن معرفة المقاصد الشرعية؟
 بيّنّا في مقالنا السابق بهذه المجلّة الغرّاء في عددها الثّامن والأربعين، والذي جاء تحت عنوان «القواعد التي تراعى لفهم النصوص الدينية» أنّ لفهم نصّ القرآن والسنّة قواعد منطقية تتعلّق بطرق استخراج المعاني من الألفاظ والتّراكيب، تمنع من التّعسّف في تحميل النّص ما لا يحتمل من المعاني وتهدف إلى تحقيق الموضوعية في استنتاجها واستنباط الأحكام الشرعية منه. وفي مقالنا هذا، نجيب عن السّؤال الذي تولّد عن عرض ما تقدّم: «هل أدلّة الشريعة اللفظيّة تستغني عن معرفة المقاصد الشرعيّة»؟                                    
في الحقيقة، هذا سؤال كان قد عرضه الشيخ الإمام محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله في كتابه مقاصد الشريعة وبيّن في الجواب عنه أنّ أدلّة الشريعة اللفظيّة لا تستغني عن معرفة المقاصد الشرعية.(1) ومن قبله يعدّ الإمــــام أبو حامد الغزالـــي(ت:505هجـــري) أوّل من تنبّه إلى وجوب معرفــة مقاصــــد الأدلة الشرعيّــــة حين صرّح أنّه لا يمكن أن نفهم النصّ في غير سيـــاق مقصده الشرعـي.(2) ويعـدّ أبو إسحاق الشاطبي الغرناطي(ت:790هجري) في كتابه «الموافقات» المعلم الأوّل في علم مقاصد الشريعة (3) وقد أحببنا في مقالنا هذا أن نقدّم جوابنا عن هذا السؤال مستندين إلى ما أورده ابن عاشور وغيره في سبيل إيضاح هذه المسألة المهمّة التي تتعلّق بتحقيق الفهم السليم والمستنير لنصوص الشريعة الإسلامية.       
برّر ابن عاشور في كتابه «مقاصد الشريعة»احتياج المفسّر والمجتهد والفقيه إلى معرفة المقاصد الشرعيّة حتّى يحسن التفسير والاجتهاد والفقه، ويجتنب الأغلاط التي وقع فيها بعضهم لاقتصارهم على دلالة الألفاظ ، وإهمالهم الاستعانة بالمقاصد، مثل ما يحفّ بالكلام  من القرائن والاصطلاحات والسّياق. فقد بيّن بأنّ الأقوال والأفعال الصادرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لها صفات كثيرة صالحة لئن تكون مصادر لأقواله وأفعاله لذا يتعيّن لقارئها أن يتطلّع إليها بقصد تعيينها وتحديدها. تصل هذه الصفات أو الحالات إلى اثني عشر حالة، فهو يقول: «أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلّم التي يصدر عنها قول منه أو فعل اثني عشر حالا وهي:(1) التّشريع، (2) الفتوى، (3) القضاء، (4) الامارة، (5) الهدي، (6) الصلح، (7) الإشارة على المستشير، (8) النصيحة، (9) تكميل النفوس، (10) تعليم الحقائق العالية، (11) التّأديب، (12) التّجرّد عن الإرشاد.»(4) 
ويوضّح بعد ذلك بالأمثلة والشّواهد أنّ تعيين هذه الصّفات والأحوال قائم على القرائن الحافّة بهذه النصوص النّبوية، ومن الأمثلة التي يعرضها، يذكر بخصوص حال التشريع، وهي الحال الغالبة على الرّسول صلّى الله عليه وسلم لأنّه من أجلها اصطفاه الله بالرسالة، قرائن ظاهرة تكشف عن هذه الحالة مثل ما ورد في خطبة حجّة الوداع، من تعيينه صلى الله عليه وسلم مسمّعين يسمّعون الناس ما يقوله مثل قوله: «خذوا عنّي مناسككم» أو قوله تعقيبا على ما يقول: «ليبلّغ الشّاهد منكم الغائب»(5). ويعرض لحال الإفتاء علامات تتّضح من إجابته صلى الله عليه وسلم عن سؤال فرد أو مجموعة. أمّا حال القضاء  فتظهر عند حضور خصمين بين يدي الرّسول صلى الله عليه وسلم. ومن أمارات ذلك، قول الخصم مخاطبا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقض بيننا» أو قول الرّسول صلى الله عليه وسلّم للخصمين: «لأقضينّ  بينكما»، فالرّسول هنا لم يتصرّف باعتباره مفتيا بل تصرّف باعتباره قاضيا.»(6) 
ومعلوم أنّ ممّا يميّز حال القضاء عن حال الفتوى إضافة لما تقدّم ذكره أنّ القضاء متعلّق بمعيّن أمّا الفتوى فلا تتعلّق بمعيّن وإن كان كلاهما متعلّقين بتطبيق للتّشريع. إنّ تطلّع النّاظر في هذه النصوص الدّينية إلى الصّفة أو الحالة التي صدرت عنها ضروري في معرفة مراد المتكلّم فيها ولاستنباط الحكم الشرعي المتّفق مع هذه النّصوص، لأنّ هذه الأحكام تختلف باختلاف الحال أو الصّفة التي صدر عنها تصرّف الرسول صلّى الله عليه وسلّم، بين حال التّشريع أو حال الهدي والإرشاد أو النّصيحة أو طلب حمل النفوس على الأكمل من الأحوال لأنّ حال الهدي والإرشاد أعمّ من التشريع. فالرّسول صلى الله عليه وسلم كما يذكر ابن عاشور: «قد يأمر وينهى، وليس المقصود العزم، ولكن الإرشاد إلى طرق الخير»(7).يعني بقوله هذا أنّ بعض الأوامر التي نصّت عليها أقواله صلى الله عليه وسلم لا تفيد «العزم»أي حكم الواجب الذي يثاب فاعله ويأثم تاركه، بل أقصى ما تفيده حكم المندوب الذي يثاب فاعله ولا يأثم تاركه. كذلك النهي الوارد في بعض أقواله، قد لا يفيد «العزم»أي حكم الحرام الذي يأثم فاعله ويثاب تاركه بل أقصى ما يفيده هذا النهي هو حكم المكروه الذي يثاب تاركه ولا يأثم فاعله. 
ويزيد ابن عاشور توضيح وتأكيد ما تقدّم في قوله السّابق الذي عرضناه وبيّنّاه من خلال الصفات الأخرى التي عنها تصدر بعض الأقوال للنبي صلى الله عليه وسلم، من ذلك قوله: «ونجد الكثير من أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونواهيه راجعة إلى تكميل نفوس أصحابه وحملهم على ما يليق بجلال مرتبتهم في الدّين، من الاتّصاف بأكمل الأحوال ممّا لو حمل عليه جميع النّاس لكان حرجا عليهم. وقد اختلط هذ ا  الأمر حتى على بعض الصحابة، من ذلك أنّ أبا ذرّ الغفاري رضي الله عنه استند إلى قول الرّسول صلّى الله عليه وسلم له ذات مرّة: «يا أبا ذر، أتبصر أحدا؟» فقال: «نعم». فقال له الرّسول صلّى الله عليه وسلم: «ما أحبّ أنّ لي مثل أحد ذهبا أنفقه كلّه في سبيل الله إلاّ ثلاثة دنانير».(8) فظنّ أبو ذرّ أنّ هذا أمر عامّ للأمّة، فجعل ينهى عن اكتناز المال، فأنكر عليه عثمان بن عفّان رضي الله عنه ذلك لأنّ المقام هنا هو مقام تعليم الحقائق العالية التي هي مقام رسول الله صلى الله عليه (9) ففي هذا المثال أراد أن يوضّح لنا أنّ بعض أوامره صلى الله عليه وسلّم هي خاصة بأصحابه، فإذا هي واجبة في حقهم فإنّها في حقّ المسلمين قد تكون مستحبّة فحسب. ومن الأمثلة التي وضح بها حال النصيحة، ذكر ما أخرجه الإمام مسلم من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها أنّها ذكرت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّ معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباها، فقال لها: «أمّا أبو جهم، فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأمّا معاوية فصعلوك».(10) والصعلوك هو الفقير. وإنّ هذا الحديث لا يدلّ على أنّه لا يجوز للمرأة أن تتزوّج برجل فقير، ولكنّها استشارت رسول الله فأشار عليها بما هو أصلح»(11). فهذا المثال يؤكّد أنّ ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلّم بوصفه ناصحا، لايفيد الإلزام أي الوجوب وإنّما أقصى ما يمكن أن يفيده من الأحكام هو الندب أي الاستحباب. وكذلك الشأن بالنّسبة للحالة الثانية عشر – حالة التّجرّد عن الإرشاد- يقول ابن عاشور بخصوصها: «كما نجد تصرّفات صادرة عن الرّسول صلى الله عليه وسلّم مجرّدة عن الإرشاد فضلا عن التّبليغ، إذ لا تتعلّق بأمر التّديّن أو انتظام الجماعة وتهذيب النّفوس، بل هي أمور جبلّية أي خاص بطبيعة البشر أو هي خاصّة بدواعي الحياة المادّية التي يعيشونها في ظرف خاص وزمن معيّن، وهذه الأمور كطعامه صلى الله عليه وسلم ولباسه ومشيه وركوبه ونحو ذلك ممّا لا يكون موضوعا لمطالبة الأمّة بفعل مثله بل لكلّ أحد أن يسلك ما يليق بحاله وبدواعي حياته المادّية.»(12)ومفاد قوله هذا أنّ المسلم ليس مطالبا أن يتّبع الرسول صلى الله عليه وسلّم في نوع طعامه أو في هيئة لباسه أو في طريقة تنقّله ونحو ذلك من الأمور التي اقتضتها ظروف عصره والعرف السّائد فيه، وليس فيها قصد ظاهر للرّسول صلى الله عليه وسلّم لتكون هذه الأمور تشريعا للمسلمين، وهذا يؤكّد ما سبق بيانه بأنّه ليس كلّ ما يصدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم هو من قبيل التشريع أي يفيد معنى الطلب أي طلب الفعل أو طلب الترك. وبهذا الذي تقدّم، يكون ابن عاشور قد قدّم للمسلمين منهجا سليما لفهم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلّم. ويعدّ في هذا من الذين قدّموا لمنهج الاجتهاد في الإسلام أعظم خدمة.ومن بعد ابن عاشور سعى بعض الباحثين في الثقافة الإسلامية إلى بلورة بعض القواعد المهمّة لحسن فهم عديد الأحاديث النّبوية التي يفيد ظاهرها معنى لا يستجيب لتطوّر الظروف والأحوال أو لا ينسجم مع الواقع أ وتجدّد المصالح. ومن هؤلاء يمكن ذكر ما قدّمه الدكتور «يوسف القرضاوي» في كتابه «شريعة الإسلام». فقد جاء في فصل «حقائق تراعى في فهم الأحاديث النّبوية» قوله: «وممّا يساعدنا على فهم النّصوص الظنّية الدلالة- وبالذات الأحاديث- فهما صحيحا أن نضع أمام أعيننا هذه الحقائق:
1\التّمييز بين ما بني من الأحاديث على علّة مؤقّتة يزول الحكم بزوالها وما ليس كذلك.
2\ التّمييز بين ما بني من الأحاديث على عرف تغيّر فيما بعد وما ليس كذلك.
3\التمييز بين ما هو عام من الأحاديث لكلّ المكلّفين وما هو خاص ببيئة وقوم معيّنين
4\التمييز بين ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم أو فعله بوصف الإمامة وما قاله بوصف الفتوى والتّبليغ عن الله تعالى.
5\التمييز بين حديث جاء في واقعة حال معيّنة وما كان تشريعا عامّا دائما.
وتوضيحا  للقاعدة أو الحقيقة الأولى المتقدّمة يذكر ما جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس وغيره أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسافر المرأة إلاّ مع ذي محرم»، فيذهب إلى القول بأنّ العلّة وراء هذا النهي هو الخوف على المرأة من سفرها وحدها أو مع رجل أجنبي في زمن كان السّفر فيه على الجّمال والبغال أو الحمير وتجتاز فيه غالبا صحار تكاد تكون خالية من العمران والأحياء، فإذا لم يصب المرأة في مثل هذا السّفر شرّ في نفسها أصابها في سمعتها. ثمّ يكشف عن تغيّر هذا الظرف بقوله: «ولكن إذا تغيّر الحال كما في عصرنا، وأصبح السّفر في طائرة تقلّ مائة راكب أو أكثر، أو في قطار يحمل مئات المسافرين ولم يعد هناك مجال للخوف على المرأة إذا سافرت وحدها، فلا حرج عليها شرعا في ذلك ولا يعدّ هذا مخالفة للحديث النبوي»(13). 
وفي خصوص توضيح القاعدة الثانية قال: «يمكن ذكر أمثلة متعدّدة من الأحاديث النّبوية التي بنيت على عرف زمني كان قائما في عصر النبوّة ثمّ تغير فيما بعد، منها:قضاؤه صلّى الله عليه وسلّم بالديّة في قتل الخطأ وشبه العمد على العاقلة وهم عصبة الرجل، فأخذ بظاهر ذلك بعض الفقهاء وأوجبوا أن تكون العاقلة هي العصبة أبدا، ولم ينظروا إلى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم إنّما أناط الديّة بالعصبة لأنها- في ذلك الزمن- كانت محور النّصرة والمعونة. وخالفهم آخرون كالحنفيّة مستدلّين بفعل عمر بن الخطاب الذي جعلها في عهده على أهل الدّيوان...لأنّهم العاقلة على عهده...إذ لم يكن على عهد النّبي صلّى الله عليه وسلّم ديوان ولا عطاء»(14). وفي عصرنا الرّاهن أصبحت شركات التأمين هي التي تقوم مقام العصبة وديوان الجند، وبسب ذلك قد صدرت فتاوى بإجازة عمل شركات التأمين على حوادث الطرقات وغيرها لأنّها اليوم هي مناط النّصرة والمعونة كما كانت العصبة زمن الرّسول صلى الله عليه وسلّم وديوان الجند زمــن عمــر رضي الله عنه.(15)
وفي خصوص توضيح القاعدة الثالثة، فإنّه يردّ نفس الذي تقدّم عن ابن عاشور الذي بيّن وجه الاختلاف في الحكم بين ما صدر عن الرّسول صلّى الله عليه وسلّم بوصفه سياسيّا وبين ما صدر عنه بوصفه قاضيا وبين ما صدر عنه بوصفه مفتيا وما صدر عنه بوصفه مبلّغا لتشريع عام. 
وفي خصوص توضيح القاعدة الرّابعة، أورد الحديث الشريف الوارد في الصحيحين بالسند المتصل عن ابن عمر أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّما الحمى من فيح جهنّم، فأبردوها بالماء». ثم قال في شأنه: «هذا الحديث النّبوي أشكل على كثير من الأطبّاء قديما وحديثا، إذ رأوه منافيا لدواء الحمّى وعلاجها باعتبار هذا الخطاب لكلّ الناس في كل بيئة وفي شأن كلّ حمّى، ولكن هذا الحديث خاص بأهل الحجاز وما والاهم، إذ كان أكثر الحميات تعرض لهم من نوع الحمّى اليوميّة العرضيّة الحادثة عن شدّة حرارة الشّمس، وهذه ينفعها الماء البارد شربا واغتسالا.»(16) وبهذا المثال يتبيّن وجود أحاديث نبوية في صورة  العام لكنّها خاصّة.
وفي خصوص توضيح القاعدة الخامسة، فقد أورد ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من امتناعه عن التّسعير حين غلا السّعر في عهده رادّا بهذا الموقف طلب بعض أصحابه قائلا لهم: «إنّ الله هو المسعّر القابض الباسط وإنّي لأرجو أن ألقى الله وليس في عنقي مظلمة لأحد»(17)، ثمّ قال في شأن هذا الأثر النّبوي: «فمن العلماء من أخذ بهذا الحديث المنع من التسعير مطلقا وفي كلّ حال مع أنّ السياق في الحديث وألفاظه تدلّ على أنّهم كانوا في حالة غلاء طبيعي نتيجة لقانون العرض والطلب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله هو المسعّر القابض الباسط» ممّا يدلّ على أنّ ندرة الأشياء وغلاءها كان بصنع الله وقدره لا بتلاعب المتلاعبين واحتكار المحتكرين، وبخاصة أنّ المجتمع كان بسيطا في معاملاته وكان مثاليّا في أخلاقه وسلوكه. أمّا إذا تعقّد المجتمع وتغيّر الناس وكثر الطّامعون والمتلاعبون بالأسواق، فليس في الحديث ما يمنع التّسعير على هؤلاء، ولا يعدّ ذلك مظلمة يخشى منها كما خشي النّبي صلى الله عليه وسلم ذلك في عهده، بل ترك هؤلاء الجشعين وترك جماهير النّاس لاستغلالهم هو المظلمة التي يجب أن تتفادى والضّرر الذي يجب أن يدفع وهذا ما جوّزه فقهاء التّابعين وأخذ به المالكية والحنفية وبعض الحنابلة.»(18) فمن مثال التسعير هذا يتّضح أنّ من سنّته صلى الله عليه وسلم ما يندرج في واقعة حال معيّنة، فيبقى  الحكم في نطاق تلك الواقعة وما شابهها ولا يمكن أن يكون الحكم عاما مطلقا ودائما فلا يتغيّر. 
ومن القواعد المهمّة التي تراعى في فهم النصوص الدينية، نذكر ما جاء في مقال للباحث والمفكر العربي المسلم الدكتور صلاح الدين النكدلي، فقد أكّد على ضرورة التمييز بين هدف النّص وبين الوسيلة التي عيّنها لتحقيق هذا الهدف. ويوضّح لنا هذه القاعدة بمثال من الأحاديث النّبوية وهو قوله عليه الصّلاة والسّلام في شأن رؤية الهلال لإثبات شهر الصيام: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين»(19) ثمّ قال في شأنه: «فهذا الحديث الشريف قد أشار إلى هدف وعيّن وسيلة. أمّا الهدف من الحديث فهو واضح بيّن وهو أن يصوموا رمضان كلّه ولا يضيّعوا يوما منه، والوسيلة المعيّنة بالنص، هي الرؤية بالأبصار وهي وسيلة ممكنة مقدورة لجمهور الناس في ذلك العصر لا تكلّفهم عنتا ولا حرجا في دينهم، فلهذا جاء الحديث الشريف بتعيينها، لأنّه لو كلّفهم بوسيلة أخرى كالحساب الفلكي والأمّة في ذلك الحين أمّية لا تكتب ولا تحسب، لأرهقهم في أمرهم عسرا، والله يريد بأمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم  اليسر ولا يريد بهم العسر، فقد قال عليه الصلاة والسلام عن نفسه: «إنّ الله بعثني ميسّرا ولم يبعثني معنّتا» (20) . فإذا وجدت وسيلة أقدر على تحقيق هدف الحديث وأبعد عن احتمال الخطأ والوهم والكذب في دخول الشهر، وأصبحت هذه الوسيلة ميسورة غير معسورة ولم تعد وسيلة صعبة المنال ولا فوق طاقة الأمّة، بعد أن أصبح فيها علماء وخبراء فلكيّون وجيولوجيّون وفيزيائيّون متخصّصون على المستوى العالمي، فلماذا نجمد على وسيلة -الرؤية بالأبصار- وهي ليست مقصودة لذاتها ونغفل الهدف الذي نشده الحديث؟ لقد أثبت نصّ الحديث المتقدّم دخول الشهر بخبر واحد أو اثنين يدّعيان رؤية الهلال بالعين المجرّدة، حيث كانت هي الوسيلة الممكنة والملائمة لمستوى الأمّة، فكيف يتصوّر أن يرفض وسيلة لا يتطرّق إليها الخطأ أو الوهم أو الكذب، وسيلة بلغت درجة اليقين والقطع ويمكن أن تجتمع عليها أمّة الإسلام في شرق الأرض وغربها وتزيل الخلاف الدّائم والمتفاوت في الصوم والإفطار والأعياد. 
إنّ الأخذ بالحساب القطعي اليوم وسيلة لإثبات الشهور، يجب أن يقبل من باب –قياس الأولى- بمعنى أنّ السنّة التي شرّعت لنا الأخذ بوسيلة أدنى لما يحيط بها من الشكّ والاحتمال وهي-الرؤية بالأبصار-لا ترفض وسيلة أعلى وأكمل وأوفى بتحقيق المقصود، والخروج بالأمّة من الاختلاف في تحديد بداية صيامها وفطرها وأضحاها إلى الوحدة المنشودة في شعائرها وعباداتها.ومنذ ستّة قرون دعا أحد أكبر فقهاء الشّافعية، وهو الإمام تقي الدين ألسبكي المتوفى سنة 756هجري، بالأخذ بالحساب الفلكي في النفي لعدم إمكانية رؤية الهلال. فقد ذكر في فتواه أنّ الحساب إذا نفى إمكان الرؤية البصرية، فالواجب على القاضي أن يردّ شهادة الشهود، حيث قال «يقدّم عليه. لأنّ الحساب قطعي والشهادة والخبر ظنيّان، والظنّ لا يعارض القطع فضلا عن أن يقدّم عليه.)» (21) واعتمادا على موقف «ألسبكي» وغيره فقد استقرّ أمر تحديد شهر رمضان بالأساس على اعتماد الرؤية البصرية وفاء للفظ النّص مع الاستئناس بالحساب وفاء لمقصده. 
وفي هذا الذي تقدّم قاعدة أخرى مهمّة تراعى في فهم النصوص الدينية وحسن تطبيقها لا بدّ لأهل العلم الشرعي من اعتمادها في تحقيق التجديد في الفقه وفي الخطاب الديني. ونختم هذا المقال بقاعدة أخرى مهمة قد أشار إليها الإمام البخاري(ت:256هجري) وتتعلّق بما يسميه الأصوليون «تحقيق مناط الحكم»أي الواقع الذي يتنزّل عليه الحكم الشرعي حتى لا ننزّل النصوص في غير مواضعها فنخطئ في الأحكام الشرعية. قال الإمام البخاري: «كان ابن عمر يرى أنّ الخوارج شرار خلق الله، ويقول: إنّهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفّار فجعلوها في المؤمنين، ومن ذلك قوله تعالى:( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، فأما الذين اسودّت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم,فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) (آل عمران:106 ) قالوا: والفاسق أي مرتكب الكبيرة، لا يجوز أن يكون ممّن ابيضّت وجوههم فوجب أن يكون ممّن اسودت وجوههم ووجب أن يسمّى كافرا.»(22) ويروى أنّ الإمام علي كرّم الله وجهه رغم علمه الواسع بالقرآن قد عمد إلى مناقشة الخوارج بعمل الرّسول صلى الله عليه وسلّم، أي بسنّته الفعلية التي لا تقبل تأويلا والعدول عن الاحتجاج بنصوص القرآن والسنة القوليّة التي كانوا يتمسّكون بظواهرها وينزّلونها في غير مواضعها، ولذا لم يقدروا عن الإجابة والالتجاء إلى ظواهر النّصوص التي ألفتها عقولهم السّخيفة.فمن قوله في محاجتهم : «قد علمتم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم الزّاني المحصن ثم صلى عليه، ثم ورثه أهله، وقتل القاتل وورّث ميراثه أهله، وقطع يد السّارق، وجلد الزّاني غير المحصن، ثم قسم عليهما من الفيء ونكحا المسلمات، فأخذهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذنوبهم وأقام حقّ الله فيهم ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام ولم يخرج أسماءهم مـــن بيـــن أهلـــه.»(23) هذا القول للإمام علــــي كرّم الله وجهه يلخّصـه قول الإمـام أبو جعفر الطّحــــاوي (ت:321هجري) في متن عقيدتـــه الشهيرة-عقيدة أهل السنّة والجماعـة-: «نحن لا نكفّر أحدا من أهــل القبلــــة بمعصيــــة ما لم يستحلّها» (يقصد ما لم ينكر حكمها ويقول بأنّها حلال) لأنّ الكفر تكذيب وإنكار لما هو معلوم من الدّين بالضرورة أي مشهور لدى عامّة الناس أنّه من الدّين.
في خاتمة هذا المقال لعلّنا قد لفتنا نظر القارئ الكريم إلى أنّ الدّين الإسلامي علم له قواعده التي يجب أن تراعى في فهم ما جاء في كتاب الله أو في سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهذه القواعد يزدوج فيها العقل والسمع- أي ماسمعناه عن النبي صلى الله عليه وسلم سواء من القرآن أو السنّة المطهّرة- ويصطحب فيهــــا الرأي والشــــرع، وهذا ما أكّده الإمام الغزالي رحمه الله في مقدّمة كتابه في أصول الفقه «المستصفى» حين عدّ علم الفقه وأصوله من هذا القبيل لأنّه يأخـــذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل.
   الهوامش: 
(1) ابن عاشور، مقاصد الشريعة، طبعة2006، دار سحنون تونس.ص23.
(2)الغزالي، المستصفى في علم الأصول، الطبعة الثانية، دار الكتب العلمية الجزء 2 ص190.
(3)هذه التسمية واردة عن محمد الطاهر الميساوي في مقدمة كتاب مقاصد الشريعة لابن عاشور. وكذلك عن الدكتور أحمدالريسوني أستاذ الفقه ومقاصد الشريعة بجامعة محمد الخامس وبدار الحديث الحسينية بالرباط.
(4) و(5) و(6) و(7) ابن عاشور مقاصد الشريعة، ص27و28و29
(8)صحيح البخاري، كتاب «الرقاق»باب «قول النبي ما أحبّ أنّ لي مثل أحد ذهبا».
(9)ابن عاشور، مقاصد الشريعة، ص23.
(10) صحيح مسلم
(11) ابن عاشور، مقاصد الشريعة، ص32.
(12) ابن عاشور، مقاصد الشريعة، ص34.
(13)الدكتور يوسف القرضاوي، شريعة الإسلام، الطبعة الثانية، المكتب الإسلامي، فصل «حقائق تراعى في فهم الأحاديث النبوية» ص139و140.
(14) المصدر السابق، ص146.
(15) الدكتور عبد الله آل محمود، أحكام عقود التأمين ومكانها من شريعة الدين.
(16) القرضاوي، شريعة الإسلام، ص151.
(17) أخرجه أبو داود وابن ماجة والترمذي الذي قال عنه: «حديث حسن صحيح».
(18) القرضاوي، شريعة الإسلام، ص152,153.
(19)صحيح البخاري حديث عدد1909، صحيح مسلم حديث عدد1081.
(20) أخرجه مسلم وغيره
(21) الدكتور صلاح الدين النكدلي، مجلة الرائد، عدد158، مقال «درس من هلال رمضان».
(22) نقلا عن كتاب الشيخ أبو زهرة،المذاهب الإسلامية، الجزء الأول ، ص77.
(23) نهج البلاغة، فصل من وصية الإمام علي لابن عباس الذي بعثه لمناقشة الخوارج، ص534 وفصل من كلام الإمام علي للخوارج، ص234.