نقاط على الحروف

بقلم
عادل دمّق
الإنسان.. الدين..الإغتراب
 مصطلح الاغتراب مصطلح لا يمكن التعامل معه على أنه مفهوم ومُقعّد بشكل نهائي، إذ أنه لا يزال عرضة للغموض والإبهام ، وربما كان ذلك أمراً طبيعياً، إذ من الصّعب تعريف المفهومات الأساسيّة تعريفاً دقيقاً، لذلك نستخدم هذا المصطلح بدلالات مختلفة ظهر كثير منها بصورة تفتقر إلى التمييز بشدة، إلى حدّ أنه ليس من الواضح من هو ذلك الذي يفترض أنه مغترب، ولعلّ سبب الاختلاف والتباين في تعريف واستخدام مصطلح الاغتراب عائد إلى المنطلق الذي تتحدّد به زاوية النظر إلى هذا المصطلح.
وجهة النظر الفلسفية لهذا المصطلح تكاد تنحصر بآراء «هيجل» و«ماركس» و«فرويد»، إذ أنهم رواد البحث في هذا الموضوع على المستوى الفلسفي. وقد حدّد الوجوديون فكرة الاغتراب عند «هيجل» و«ماركس» بنظرة شموليّة واحدة تتجسد في أنه «انعكاس لتصدّعات وانهيارات في العلاقة العضويّة بين الإنسان وتجربته الوجودية، الذات/الموضوع،الجزء/الكل، الفرد/المجتمع، الحاضر/المستقبل. أما المنطلق النّفسي والاجتماعي في تحديد مفهوم الاغتراب فقد كان يدور في إطار العزلة واللاّجدوى، وانعدام المغزى الذي يشكل «نمطاً من التجربة يعيش الإنسان فيه كشيء غريب، ويصبح غريباً حتى عن نفسه»-والمقصود بالاغتراب عن النفس هو افتقاد المغزى الذاتي والجوهري للعمل الذي يؤديه الإنسان وما يصاحبه من شعور بالفخر والرّضا، وبديهي أن اختفاء هذه المزايا من العمل الحديث يخلق شعوراً بالاغتراب عن النفس. وتكشف لنا عناية واهتمام النّظم الفكريّة (الفلسفة ـ علم النفس ـ علم الاجتماع) والنّظم الروحيّة (الديانات) بهذا المصطلح على مرّ العصور عن عمق بحثها في طبيعة هذا المصطلح ومظاهره ومصادره.. وهل هو حالة عقليّة أم اجتماعيّة أم موقف وجودي؟ ويبدو أن جميع هذه النّظم تتّفق في كون اغتراب الإنسان هو اغتراب تاريخي مرتبط بعلاقته بالوجود مرّت بمراحل صراع مختلفة أراد الإنسان فيها انتزاع حرّيته، لذا فإنّ تاريخ اغتراب الإنسانيّة هو تاريخ بحثها عن الحرّية، ولكي لا يشعر الإنسان بالاغتراب تجاه تاريخه فإنه ملزم بتحرير التّاريخ من الاغتراب، بمعنى إحداث تغيير في مجرى التّاريخ، وهذا يتمّ بتدخّل الإنسان في تحديد مسار التاريخ والتحرّك به ومعه. 
يمكننا الآن وصف مفهوم الاغتراب بأنه صراع الإنسان مع أبعاد وجوده، ويمكننا تحديد هذه الأبعاد بثلاثة أركان أساسية:
1 ــ البعد الحسّي: ويكون الصّراع فيه مع القوى الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة لتحديد موقفه التّاريخي مّما يدور حوله، ويكون مغترباً عن هذا الموقف لأنه لا يتحقّق، فيبقى الإنسان مستهلكاً مسلوب الذات.
2 ــ البعد القِـيمي: وينتج الصّـــراع فيـــه عن بحث الإنســـان عن عالم المُثل (المفقود) لأن الواقع الذي يعيش فيه يسحق شخصيته الإنسانيّة ويشوّهها فيهرب إلى عالم الخيال، ويقترح للإنسانيّة أساساً روحياً بدلاً عن الأساس الواقعي لها، ويزداد الصّراع في هذا البعد كلما ازداد وعي الإنسان بذاته، إذ يبدو له كل ما يحيط به ثقلاً عليه، وقيوداً يضيق بها ذرعاً ولا يخرج من ذلك تواصله أو علاقاته الاجتماعيّة، ومن هنا تأتي عزلته، ومن ثم اغترابه عن القيم الواعية التي تحيط به وتحكمه.
3 ــ البعد الميتافيزيقي: ويتجلّى الصّراع في هذا البعد حين يدير الإنسان ظهره للواقع ويتّجه إلى عالم «الماوراء» في محاولة منه لإدراك حقيقة وجوده وموقفه الكوني منه، وبما أن المعطيات الحسّيّة غير كفيلة بفهم العالم الميتافيزيقي فإن الإنسان يظلّ في شكّ مستمر في كون الوجود الذي لم يتحقق.. هل هو وجود فعلي أم محتمل؟. ومن هنا يأتي اغترابه الكلّي عن شرائط وجوده.
ولئن عدّ الفلاسفة الدّين مظهرا من مظاهر الاغتراب فإنّ الدّين الاسلامي يتّفق –بل له السبق – في هذا المنظور : أكثر مذاهب التّدين هي تجـلّ بـيـّن للإغتراب (الضّلال ,الشّرك ,الكفر ,البدع ...)
وجهة النّظر الدينيّة الاسلاميّة ( الدّين الإسلامي يتميّز عن سائر الأديان بثلاث خصائص فارقة : هو الدّين الحق[في ذاته] ،وهو الدّين القّيم [في مقاصده ]، وهو الدّين الخالص[في الإلتزام به ] ) تتضمن مفهوما أساسيا للاغتراب بمعنى الانفصال، انفصال الإنسان عن الله وعن نفسه وانفصال الإنسان عن الطبيعة ــ الملذّات والشّهوات ــ وانفصال الإنسان (المؤمن) عن الإنسان (غير المؤمن)، وأن المفهوم الدّيني للاغتراب عن الآخر وعن الطّبيعة ينطوي على أن الاغتراب ظاهرة حتميّة في الوجود الإنساني وحياة الإنسان على الأرض ما هي إلا غربة عن وطنه الأسمى، وطنه السماوي - وهو ما يتجلّى في قوله تعالى:  «وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى»(1) وقوله: «قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى» (2) وقوله: «وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهَُ»(3)
وانظر إلى قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (*) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (*) وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً ۖ وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (*) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا (*) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ ۖ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (*) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ ۚ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا ۚ بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (*) وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَٰذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (*) إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا ۚ وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (*) »(4)  أمن العفو أن تتضمن سورة الفرقان (الفرقان يشير إلى البيان والفصل) هذه الآيات؟؟؟
أضف إلى ذلك قوله تعالى : « إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ» (5) ويطلعنا العليم الخبير بمراجعات المغتربين يوم التغابن : «وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ»(6)
ومن المبهر أن قوله تعالى: «إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا ۚ وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (*) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (*) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا»(7)،شديد الاعتلاق بقوله عزّ وجلّ في آخر سورة النور التي تسبقها : «أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (8).
الهوامش
(1) سورة الضحى الآية 7 
(2) سورة البقرة الآية 120
(3) سورة البقرة الآية 130
(4) سورة الفرقان الآيات 35 إلى 42
(5) سورة الملك الآية 20
(6) سورة الملك الآية 10
(7) سورة الفرقان الآيات 42 إلى 44
(8) سورة  النور الآية 64