بهدوء

بقلم
د.لطفي زكري
الخطاب الإلهي للإنسان
 يثير استقبال البشر للكتب المقدّســـة (الصّحف، الزّبـــور، التّوراة، الإنجيل، القــــرآن) وتفعيلهـــا في تاريــــخ المجتمعــــات الكثيـــر من التساؤلات حـــول علاقتهـــا بالإلـــه والإنســــان ســـواء من جهة دلالة ومعنى مخاطبة الإله للأقوام بألسنتهــــا أو من جهة استقبــــال تلك الأقوام لهذا الخطاب وكيفية تفاعلها معه في رسم علاقتهــــا بذاتهـــا وبالعالم وبالآخريــــن. فحين يتلو المؤمن كتابـــه المقدس يشعـــر أنه دخل في حوار مباشـــر مع الذات الإلهيّة طالما كان يؤمن بأن ما يتلوه من مفردات هو من وحيهـــا. لكن هذا المؤمـــن يدرك حق الإدراك أنه لم يغادر وضعه الإنساني المحكوم بالتناهي والنسبية. ذلك أنه ما يزال يفكّر بعقل إنساني ويتحرك بين مفردات لسانيّة هي في النّهاية إنسانيّة أيضا، حتى وإن كان الملتحف بها فكرا إلهيّا. ومن هنا بالذات ينشأ السؤال عن معنى وحدود إلهيّة الخطاب الذي تعرضه الكتب المقدّسة على المؤمنين بها. أي إذا كان الإنسان عاجزا عن مجاوزة وضعه الإنساني المحكوم بالتّناهي والنسبيّة، فهل يعني ذلك بالضرورة أن الإله هو من يتواضع فيقدم لهذا المخلوق المغلوب على أمره ما يناسب وعيه التاريخي من ألوان الخطاب الهادي إلى سواء السبيل؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل علينا أن نتأوّل النّص الدّيني على أنّه خطاب منزل إلى الإنسان بغرض هديه إلى مطلق الحقّ والخير والجمال أم على أنّه خطاب إلهي متحرّر من مبدأ التقاطب المؤسّس لإمكان التواصل بين الذّات الإلهيّة والذّات البشريّة؟ أي هل هو خطاب خفض أم خطاب رفع؟ وفي النهاية هل هذا الخطاب محكوم بالنّديّة أم بالتواضع؟ 
لمّا كان اللّسان مؤسســــة اجتماعيــّــة كـــان مـــن الضـّــروري على من يريد مخاطبـــة قوم أن يتقن لسانهـــم. بيد أنّه ليس كاف أن نتكلّم نفس اللّسان حتى نتواصل، بل حتى تكون الرّسالة ضامنة لهذا المطلب بين المرسل والمرسل إليه لا بد من قيامها على مبدأ التقاطب، ونعني به احترام المخاطِب لدرجة وعي المخاطَب ولقدراته الذهنيّة فلا يستخدم من المفردات والصّور التعبيرية وأساليب الترغيب والترهيب إلا ما يناسب وضعه أو مستوى النضج الذي بلغه. فلا يمكن للمخاطِب أن يؤمّن مطلب التواصل مع الآخر طالما بقي يحتكـــم إلى قدراته التعبيرية ولا يراعي درجة قابلية المخاطَب لنصّ الخطاب الموجه إليه. من هنا كان من الضروري السؤال عما إذا كان الخطاب الإلهي للإنسان مناسبة يتأنسن فيها القول الإلهي أم أفقا يتأله فيه الوعي الإنساني؟ 
إن الطابع التاريخي المميز للوعي البشري يجعل الكائن العاقـــل أو المفكر مقيدا في وعيه بذاته وبالعالم من حوله بحدود الزّمان والمكان ومن ثم لا يمكنه أن يتمثّل الوجود الإلهي المطلق إلا على شاكلــــة وجوده الخاص بعد أن يضفي عليه بعض صفات الكمال ويحــــرّره من بعض سمات النّقص. فالوجود الإلهي بالنّسبة للمؤمـــن، وإن كان وجودا مفارقـــا، إلا أنه يبقى بالنسبــــة إليه وجودا ندّيــــا يدعوه ويحاوره ويستغفره ويسترضيــــه و... وينسى المسافة الوجودية الفاصلـــة بين الوجود الإنساني المتناهي والوجود الإلهي اللامتناهي وما تفترضه من خفض يقدر عليه الإله ورفع يعجز عنه الإنســـان. إن الإنسان يتحرك ويحيا في عالم المصالح والمشاعر المتناقضة والمتقلّبة فكيف يمكنه أن يتمثل الحضور الإلهي خارج هذه التناقضات والتقلبات. بل إن الخطاب الدّيني ذاته يبدو لصيقا بهذه الخصوصيّة إلى حدّ يتراءى فيه الإله ندّا للإنسان وخصما أو سندا له. ويزداد الأمر طرافة حين يتراءى الإله منحازا إلى فئة من خلقه ضد أخرى أو يفضل رهطا على آخر.
إنه لمن السخف أن نتخيل إرادة إلهيّة تسيّر العالم وترسم قدر الأشياء في علاقة نديّة مع الإرادة البشرية. ليس الإنسان قوة بل ضعفا في قلب الوجود وهو ليس مؤثرا كونيّا بل هو مكمن التأثيرات الكونية. فهل يعقل أن يكون هذا الكائن المتناهي قضية القضايا الإلهية أو أن يكون الوجود الإلهي قد تناهى إلى حد الاستغراق في جزئيات الحياة البشرية ليشارك الخلق الأفراح والأحزان والحب والكراهية والمكر والنصر... 
ما من شك في أن المؤمن يتصرف كما لو كان ندا للإله حتى وإن خصه بكل صفات الجلال والكمال. ذلك أن طقوس الدّعاء والإنابة والاستغفار والتّوبة وكل ما يجاورها من مظاهر الطّاعة والعبادة تلغي المسافة الوجوديّة بين المتناهي واللامتناهي وتجعل الإنساني والإلهي متجاورين ومتواجهين ومتّحدين يصل بينهما الأمر والنهي والجزاء والعقاب والقبول والرّفض. لكن هل الصورة التي يحملها المؤمن عن الإله من خلال الكتب المقدّسة هي عين الصورة التي يريدها الإله لنفسه؟ وهل تشكل الحياة بين الولادة والموت أساسا ومعيارا يتحدد به المصير اللامتناهي؟ ثم أي معنى لرفع الوجود المتناهي إلى أفق الوجود الأبدي اللامتناهي؟  
ليس الإله قاضيا بين المتخاصمين وليس صديقا لبعضهم وعدوا للآخرين. وهو ليس شريكا في الوجود المتناهي حتى يسعى إلى الإدانة أو الاحتضان. فهل ينبغي علينا أن ننظر إلى الجحيم (جهنّم) كوعيد حقيقي وإلى النّعيم (الجنّة) كوعد حقيقي أم ينبغي علينا أن ننظر إلى كلتيهما كتقنية أدبيّة، كما في قصّة آدم وحواء؟ الجحيم (جهنّم) مجرد كناية عن الرّوح المعزولة، والتي ستتّحد في نهاية المطاف، على غرار جميع النّفوس، في روح الله. أمّا النّعيم (الجنّة) فهي كناية عن فكّ العزلة والعودة إلى الوضع الأصلي قبل الخلق، أو هي كناية عن استعادة الأجزاء للوحدة التي كانت عليها قبل النفخ الإلهي من الرّوح المطلق. 
إن مقتضـــى الألوهيـــة لا يستطيع أن يحــددّه عقل متناهـــي كالعقل البشري، فالكائن البشري لا يمكنــــه أن يتصـــور الإلـــه إلا على شاكلته مع فارق طفيف هـــــو فــــارق القــــوة والعظمــــة والكمـــال. إن الإله في وعي الإنسان ليس ســـوى صورة إنســـان قوي كامل يملأ وجوده الكون أو يوجد في كل مكان دون أن يكون مرئيا في أي مكان. ولعلّ هذه الصورة بالذات هي التي تحكم وعي المؤمن بالحضور الإلهي وترسم حدود فهمه للوحي من حيث هو إنزال وتنزيل واكب الصيرورة التاريخية للوعي البشري نحو النّضج هديا وتشريعا ونسخا وتصحيحــــا. لذلك كثيرا ما ينسى المؤمن المسافة الفاصلة بين وجوده المتناهـــي والوجود اللامتناهي للذات الإلهية فيتأول الخطاب الإلهي على نحـــو ندّي محملا إيّاه مقاصد إنسانيّة ظنا منه أنّها هي عين المقاصد الإلهيــــة. وبموجب اختلاف التأويلات يدخل البشر في سجال يتجاوز حدود الحوار نحو الإقصاء وتبادل الاتّهامات بالكفر والشّرك والإلحاد في الدّيانة الواحدة أو بين ديانات مختلفة.  
إن عقلا يعي محدوديته وتناهيه لا يمكنه أن يتمثّل الخطاب الإلهي الموجّه إليه إلا بوصفه خطاب ذاتٍ تواضعت وانخفضت إلى مستوى التناهي الذي عليه الكائن البشري حتى تهديه وترسم له صورة تقريبية عن الوجود المطلق ليست هي بالضرورة الصورة التي يمكن للعقل البشري أن يتمثلها بما يبذله من جهد تأويلي حتى وإن بدت له متطابقة مع ما يمكن أن تتحمّله المفردات والسياقات المعبرة عنها من معانــــي أو دلالات. لكن هل يعني هذا أن الوعد والوعيد والحضّ على فعل الخير والنّهي عن فعل الشّر ليس في واقع الأمر سوى استجابة لمقتضيات الوجود المتناهي للكائن البشري وما يعرض له من مشكلات العيش المشترك؟ 
لسنا بحاجة إلى الكثير من الأدلة لبيان أن الإنسان ليس مشكلا مركزيـــا بالنسبـــة إلى الـــذات الإلهيــــة وأن الإنســــان لا يُشْكِــلُ إلا على الإنســـان. وإذا كان الإنسان يستعد لمواجهة الإنسان فلا يمكننــا أن نسحب الحكم على علاقة الإله بالإنسان فنجزم بأن يوم اللقـــاء أو يوم الحشر الأكبر سيكون مسرحا أو مناسبــــة تزول فيها المسافـــة بين الوجـــــود المتناهـــي للإنســــان والوجـــود اللامتناهي للإلــــه. إن المواجهة تفترض حدّا أدنـــى من النديـــة ينعدم تمامـــا بين الإلهي والبشري أو بين الخالق الذي لم يُخْلق والمخلــــوق الــذي لا يَخْلِــــق. إن منطق الملاقـــــــاة لا يبدو مناسبا في مثل هذه الحالـــة إلا على جهة الإيمان بإله له مواصفات إنسانية (يحـــب، يكـــره، ينتقـــم، يغفر، يعذب، يجـــزي، يمكـــر، ينصـــر، ...) لا على جهة الإيمان بإله خالق متعال على خلقه. وإذا كان الخطاب الإلهي يستجمع كل المفردات الدّالة على الملاقاة فذلك بغرض رفع الوجود الإنساني فوق المرتبة الحيوانية وشدّه إلى أفـــق مفتوح يحـــرّره من تناهيه ويرتقي به إلى معايشة الحقيقة كما تلوح لعقلـــه المحدود بحدود الزمان والمكان.
مما تقدم يثور في وعي المؤمن سؤالا محيرا يمكننا صياغته كالآتي: هل في عدم الاعتراف بندية الخطاب الإلهي إقرارا ضمنيا بعبثية الحياة الإنسانيّة ومن ثمّ نقضا للإيمان؟ وهل يقتضي فهم الوحي على جهة التواضع الإلهي للوجود البشري نفي جدّية الخطاب وإثبات هزليته؟ قطعا الإجابة تكون بالنفي، لأن مقولتي الجدّ والهزل هما أيضا من مواصفات الحياة الإنسانية ومفرداتها. ولا يختلف هذا الموقف من الناحية النظرية عن نقيضه. فسواء تعلق الأمر بموقف يتأول الخطاب الإلهي على أنه خطاب ندي وجدي أو بموقف يتأول عين الخطاب على أنه خطاب هزلي، فإننا في الحالتين نكون أمام موقف يلغي المسافة الوجودية بين الوجود المتناهي للموجود (الإنسان) والوجود اللامتناهي للواجد (الإله). إن مقتضى الإيمان الذي يعي حقيقة هذه المسافة هو أن ينفي المؤمن إدراج الإله ضمن قائمة الموجودات طالما أنه ليس واحد منها. فالإله ليس موجودا، وإنما هو بالأحرى الواجد للموجودات جميعا.
إن منطق التواضع والتقاطب في فهم الخطاب الإلهي للإنســـان ليس غايـــة في حد ذاته ولا هو مجرد ترف فكري لا طائل منــــه. فرهان هذا الشكـــل مـــــن النظر هو التخفيف مــــن حدة التوتــــر بين الملل والنحل الدينية ببيان هشاشة المواقف التفاضلية والمواقف الإقصائية القائمة على فهم ندي - للخطاب الإلهي- يؤسس للمواجهة بين الإله والإنسان ويشرع لأنسنة الوجود الإلهي برد اللامتناهي إلى المتناهي. ويراهن هذا المنطق من جهة ثانية على حمل المؤمن مهما كان انتماؤه الديني على استحضار المسافة الوجودية الفاصلة والواصلة بين الإله (الواجد اللامتناهي) والإنسان (الموجود المتناهي) حتى لا يبالغ في فهم التقارب أو التباعد بين الحديـــن. ذلك أن الخطر الأكبر الذي يهدد الوجود الإنساني لا يكمـــن في الخطـــاب الإلهــي بل يكمن في احتكار وامتلاك الفهم الصحيــــح لهذا الخطاب. إن الخطر في هذا المنظور التواضعي أو التقاطبي لا يأتي من الإله بل يأتــــي من الذين يتكلمون باسم الإلــــه، فيصورونــــه راض عنهم وغاضبــــا على من سواهــــم. وحتى يكون الإله متحررا من الأنسنة في وعي المؤمن كان من الضروري القطع مع تقاليد نسيان المسافة الوجودية بين الواجد اللامتناهي (الإله) والموجود المتناهي (الإنسان). بيد أن هذه القطيعة ليست ممكنــــة إلا بالنسبة إلى وعي متحرر من سجن الخصوصية الدينية ومنخرط فـــي رحاب الديانــة الكونيـــة التي افتتحها آدم عليه السلام مع بنيه واستأنفهــــــا سائر الأنبياء والرســـل ومن عايشهم من بعده.