الإفتتاحيّة

بقلم
فيصل العش
افتتاحية العدد 50
 مرّة أخرى يضرب الإرهاب الأعمى بقوّة ويحصد أرواحا من أبناء تونس البررة، فاجعة جديدة تضاف إلى سابقاتها تأتي بعد الأمل الذي زرعته فينا وحداتنا الأمنية. لم تكن عمليّة روّاد والتي تلتها كافيتين لإخماد شعلة الإرهابيين والقضاء عليهم بالرغم من النجاحات الكبيرة التي ما فتئت قواتنا الوطنية من حرس وأمن وجيش تحققها. ففي كل مرّة يفاجئنا الإرهابيّون بطعنة جديدة في خصر بلدنا، باعثون من خلال ذلك رسائل للجميع مفادها أنهم لا يزالون أقوياء وأن الاستقرار الذي حققه التونسيون لن ينعموا به طويلا، فمازال في جعبتهم الكثير ومازال عشق القتل والإرهاب يجري في عروقهم ويحتلّ عقولهم وهم لا يرقبون في التّونسيين إلاّ ولا ذمّة. لذلك كان لزاما على التونسيين جميعا أن يعوا أن الإرهاب صار يشكّل التهديد الوطني الأول في هذه المرحلة وأن الحرب عليه باتت أول الأولويات وهي مسؤولية الجميع وليست مسؤولية قواتنا المسلّحة لوحدها.
هي مسؤولية الحكومة الجديدة التي من واجبها دعم قوات الأمن والجيش بالإمكانيات المتطورة اللازمة والضرورية لتطوير أدائها في مقاومة الإرهابيين خاصة بعد اكتشاف القدرات الهائلة لهؤلاء، حيث تبيّن أنهم ليسوا عصابات صغيرة محدودة العدد والعدّة بل تمتلك مخزونا من الأسلحة الفتّاكة ولديها شبكات تضمن لها اللوجيستيك الكافي للتحرك والمباغتة. كما أن الحكومة الحالية، وإن كانت مؤقتة، مطالبة بالتسريع في سنّ التشريعات التي تحمي العاملين بمختلف قواتنا الأمنية وتأمين الرّعاية الكافية لأسرهم وذويهم وتوفيرغطاء قانونيّ لهم لمقاومة من تجرأ وحمل السلاح في وجه التونسيين واختار فرض موقفه برصاص الكلاشينكوف وليس بالفكرة والحجّة. 
هي مسؤولية الأحزاب السياسية التي يجب أن تعمل جاهدة بدافع الوطنية على تحييد ملف الإرهاب عن التجاذبات الحزبية وتبتعد بالتالي عن استثمار مثل هذه العمليات في حملاتها الانتخابية عبر تشويه واتهام أطراف منافسة لها لتحقيق مكاسب على حسابها. ولتعلم هذه الأحزاب أن الانتخابات التي يسعى كل طرف لكسبها مازالت بعيدة وهي مرتبطة أساسا بتوفّر الاستقرار والأمن في البلاد، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلاّ إذا ابتعد السياسيون عن الصراعات واتجهوا إلى المنافسة الشريفة، بعيدا عن عقلية الاستئصال والإقصاء، تلك العقلية المرتبطة بالعنف بجميع أنواعه اللفظي والمادّي والمعنوي الذي يمهّد بدوره ولا ريب لانتعاش الإرهاب ويوفّر الأرضية الخصبة لاستقطاب الإرهابيين.
هي مسؤولية الصحافيين والإعلاميين لما لهم من قدرة على التأثير في الرأي العام وتوجيهه، فهم مطالبون قبل كل شيء بوقف الجدال القائم حول أداء قوات الأمن الوطني وعدم مسايرة حملات التشكيك التي تُستغل لزعزعة الوضع الداخلي، ثم بالتفاعل بحذر مع ملف الإرهاب وذلك عبر مسلكين لا ثالث لهما، الأول: التحري في المعلومات قبل نشرها وعدم خرق القوانين من دون المساس بجوهر الحق في الإعلام والثاني تجنّب التوظيف السّياسي للموضوع وعدم الانزلاق في متاهة التحريض على العنف والدعوة إلى كبح حريّات المواطنين في اجتماعهم ولباسهم بتعلّة قطع الطريق أمام الإرهاب. 
هي مسؤولية المثقفين والمربّين والفنّانين المطالبين بحشد كل إمكانياتهم وطاقاتهم لنشر ثقافة التسامح والتواصل ونبذ ثقافة التناحر والاستئصال خاصّة لدى الناشئة والشباب من خلال أنشطتهم وإبداعاتهم المتنوعة، وهم بتأصيلهم لثقافة الحوار والتسامح في المجتمع يصنعون سلما اجتماعيا ويقطعون الطريق أمام شبكات الانتداب للجماعات المسلّحة. ومسؤولية هؤلاء كبيرة لأن مهامهم وقائيّة قبل أن تكون علاجيّة، وليتذكر هؤلاء أن أكثر ضحايا الإرهاب في العالم هم المثقفون والفنانون والأدباء، وما حدث في الجزائر في تسعينات القرن الماضي ليس عنا ببعيد. 
هي مسؤولية الباحثين والمختصّين المطالبين بتعميق بحوثهم كل في مجال تخصصه لمعرفة الأسباب العميقة لظاهرة الإرهاب وآليات تطوّرها وانتشارها حتّى يتسنى وضع إستراتيجية وطنيّة في المواجهة الكاملة والشاملة لهذه الآفة على أسس علميّة صحيحة بعيدا عن التحاليل السطحية والمخططات القائمة على المواجهة المسلّحة فقط. فبالرغم من أن المواجهة الأمنية أمر واقع ومفروض وهي قادرة على تحجيم قوّة الجماعات الإرهابية والحدّ من إمكانية تضخّمها، إلا أن المعالجة السليمة لهذه الآفة تمرّ أساسا عبر القضاء على الظروف الملائمة لنشأتها سواء كانت اقتصادية بمحاربة الفقر وتوفير لقمة العيش أو اجتماعية بالتقليص من الفوارق الطبقية والجهوية أو الفكرية ببث فكر ديني مستنير وثقافة المواطنة والتسامح والحوار أو التربوية بإرساء منظومة تعليمية تربويّة تساهم في بناء إنسان متوازن متجذّر في هويته ومنفتح على عصره. 
هي مسؤولية مؤسسات المجتمع المدني وخاصة الحقوقية منها المطالبة بتأطير المواطنين لمساعدة جهود المؤسسة الأمنية في كشفها لخلايا الإرهاب والقضاء عليها ولكنها في نفس الوقت مطالبة بالمراقبة والتنبيه عند حدوث تجاوزات لحقوق الإنسان وللمواثيق الدولية ذات الصلة بتعلّة مكافحة الإرهاب. 
هي في النهاية مسؤولية كل التونسيين بمختلف انتماءاتهم الفكرية والاجتماعية. الجميع مدعوون لتكثيف الجهود ومزيد من اليقظة والوقوف صفّا واحدا أمام دعاة الفتن والتفرقة مع الدعم المتواصل لقواتنا المسلّحة والثقة في قدرتهم على كبح جماح هذه العصابات الإرهابية ومعرفة من يقف وراءها مغذّيا فيها حبّ القتل ونشر الفتنة بين التونسيين.
لا يهم إن كان الإرهابيون من السلفية الجهادية أم من عصابات الفساد ومافيا المخدرات والتهريب التي لا ترضى غير الاضطراب لهذا البلد حتّى يتسنّى لها تحقيق مـآربها أو مآرب من يقودها من وراء حجاب ... لا يهم دين هؤلاء فالإرهاب لا دين له ولا يهم معرفة من هم فكلّهم سواء .. مشتركون في عدائهم لهذا الوطن.