قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
الولادة العسيرة
 شهدت تونس ولادة دستورها الجديد بعد عسر كاد أن يفتل المسار التأسيسي وبعد أخذٍ وردٍّ استمر أشهرا طويلة، وبغض النظر عن التقييمات الممكنة للمسار كله أو بعضه أو حتى للمولود الجديد الذى طال انتظاره، فإن البلد صار الآن يملك دستورا يمكن الإحتكام إليه وتستطيع القوى السياسية أن تدير اختلافها تحت سقفه ومن خلال أحكامه.
تحوّل المشهد الإعلامي الذي أعقب التصويت على الدستور إلى ما يشبه الكرنفال الإحتفالي، بعضه كان في القصر الرئاسي وبعضه في المجلس التأسيسي وكثير منه فى الشارع ومقرّات الأحزاب وسط تركيز مقصودٍ على الصبغة الإحتفالية وكأن المقصود هوالقفز على الولادة العسيرة وما صاحبها من إكراه، بعضه كان غاية فى العنف والنفاق والإستعلاء وبعضه كان بالوكالة عن طرف خفيّ ظل يُدير المشهد من وراء ظهور التونسيين وبواسطة نخبتهم، يزيد فى الدستور وينقص منه بحسب ما يراه هو أسلم للشّعب وللتجربة الجديدة، وكأننا شعب من القصّر لا يستطيع أن يخطّ بنفسه دستورا سوف يمتد أثره لأجيال قادمة. وقع الحكّام تحت اكراهات السّلطة وغلب عليهم واجب التحفظ حتى كادت الحقيقة تطوى في ثنايا الكذب الصريح والسفسطة وحرب التنازلات وغير ذلك مما وقع فيه السياسيون نتيجة الولاء المزعوم للشعب والوطن ولو تُرك الشعب والوطن لحريتهما لكان لهما خيار آخر.
الذي يجب أن يعنينا في رأيي ليس الإحتفال بالمنجز ولا هو تقدير ما تحقق تسفيها أو تقديسا، وإنما الذى يعنينا حقيقة هو مدى استجابة ما تحقق لانتظارات النّاس من جهة ولأهداف الثورة من جهة أخرى.إن كتابة الدستور وإقراره بعد أن كادت الصراعات تعصف به عمل جيد ولا يوجد في الحياة عمل كامل خال من العيوب ولكن هل كان الدستور مطلبا شعبيّا جرى احتضانه من طرف طالبيه حتى تحقق ؟ هل استطاع المجتمع أو الشعب فرض إرادته في كتابة دستور يعبّر عن تطلّعاته ويكون مقدمة لمشروع نهضوي متكامل ؟ هل تورّطت النخبة فى قبول المطلب الشعبي نفاقا منها لشعبها العظيم ثم انبرت تكتب لنفسها دستورا تلزم الشعب به وهي التى كانت لا ترى في الشعب الذى تتحدث باسمه إلا قاصرا لم يبلغ بعد مستوى النضج الذي بلغته نخبه ؟ هل للسياسة حدود فى ما يمكن أن تتيحه لأي شعب من محدّدات وضوابط أم أن الأمر عفو للشعب لا ينازعه فى إرادته أحد؟ كل هذه الأسئلة الملحّة سوف تظل تؤرقنا لزمن طويل ما دمنا لم نستطع أن نصل بالثورة الى المدى الذي نحقق به المبتغى منها .
لو أن الشعب استطاع من خلال المجلس التأسيسي فرض إرادته الحرّة على الجميع لما كان فى حاجة للقبول برباعي راع للحوار الوطني حكم بين الشعب وإرادته حاكم بأمره وأمر الجوار الحضاري والسياسي القريب منهما والبعيد .ولو ظلّ الناس مؤمنين حقيقة بأهمية الدستور كمرجع أساسي يتأسس عليه كل ما سيتلوه من بناء سياسـي أو حضاري لكانت مشاركتهم فى كتابة هذا الدستور وتحديد أولويّاتهم فيه أعمق وأدقّ، ولم يتركوا الأمر لارادات أخرى مسقطة أو منصبـة. لذلك اقتصر دورهم فى نهاية المطاف علي المباركة أو المناكفة وانقسموا بين مؤيد مبرّر لما كان ومحتجّ منكر للدّستور وكاتبيه فضاعت بذلك فرصة للتوافق الحقيقي وليس للتّوافق المصطنع الذي تقرّر بالإكراه والعجلة.  
إن غايتنا مما تقدّم لم تكن التشكيك فى أهمية الدستور التونسي الجديد ولا هي التقليل من شأنه لأن إقراره وتوقيعه من طرف ثلاثة رؤساء مناضلين أمر فى غاية الأهمية، وإنما كان هدفنا الدلالة على أهمية المشاركة الشعبية الفاعلة فى أي عمل سياسي حتى يكون العمل أقرب ما يكون التصاقا بالإرادة الشعبية ومقدمة لمشاركة شعبية أعمق فى ما سيعقبه من خطوات لاحقة حتى لا يلتفّ الملتفون على إرادة الشعب أو يسرقوا منه ثورته بالمخاتلة بعد أن عجزوا عن سرقتها منه عنوة بسياسة فرض الأمر الواقع أو بالإنقلاب.
تستطيع الإرادة الشعبية أن تبدع أرقى الدساتير كما أنها تستطيع أن تقبل بأفضل الممكن إن لم يكن من ذلك بدّ ولكن أرقى الدساتير لا تستطيع وحدها أن تقيم نظاما ديمقراطيا يتيح للشّعب فرصة المشاركة فى تقرير مصيره وثمّة من يراهن على امتلاك القوّة المادّية التي تمنحه الحقّ فى تأويل الدستور أو أى نصّ قانوني على هواه أكثر من مراهنته على عمقه الشّعبي أو النضالي، ومن ثمّ فإن المعركة ما زالت فى بدايتها ولم يتحقق بعد من أهداف الثورة إلا نزر قليل لعلّ أهم ما فيه حرية التعبير وتنوع الفضاء الإعلامي وشيء من قوة ما يسمى بالمجتمع المدني في ظل صراع محموم مع قوى الرّدة والثورة المضادة .و ليس أمامنا فى المدى المنظور إلا مزيد النضال الجماعي من أجل إعلاء مكانة الحريّات فى مجتمعنا والدّفع بالإرادة الحرّة لكلّ مواطنينا للمساهمة الفاعلة فى الحراك المتنامي داخل المجتمع من خلال العمل الحزبي والجمعياتي المنظم بغاية الحصول على أكبر قدر ممكن من المشاركة الشعبية فى كل الإستحقاقات القادمة حتى نستطيع بحق أن نجعل من انجاز الدستور والمصادقة عليه لبنة من لبنات جدار سميك يحول بيننا وبين السقوط فى براثن القمع والدكتاتورية من جديد.