تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
اعمل لدنياك ...
 وضعت تونس دستورها.
قيل من البعض أن المولود وضع ميتا وكبّروا عليه أربعا ولا حول ولا قوة إلا بالله، فقال آخرون أن ما ولد ميتا إنما هو حلم من أراد التفرّد بالدستور ليشكله على مقاساته ويوهم الناس بأن المولود من صلبه. ولمّا حمي الوطيس بين هذا وذاك يتنازعون حياة المولود من موته، استشرت صاحبة الأمر فجاءني جوابها في غفوتي وترسّخ في يقظتي واضح الرؤية  لا يشوب الخطاب نقص ولا تردد. 
قالت : « كنت، كلما أومأت على جيراني من وراء المتوسط تنتابني الغيرة وأشفق على من مثلي تلد ولا تعتني بالولد.
أنا تونس قضيت عمري بين فحول تراودني شرقا وغربا جنوبا وشمالا، فكنت اختلي بمن يثير في الرغبة وتقنعني حجته فأحفظ وده لعلي أعود إليه يوما إحياء لذكرى تثور في من حين لآخر. هكذا كنت على طبيعتي لا اعرف كيف يولد الأطفال وكانت ممارساتي عفوية ولا أحكم على نوايا عشاقي. 
نسيت أوجاع ولادتي الأولى ولم أعد أتعرف على مولودي الذي تغيرت ملامحه من كثرة ما تعرض له من مسخ إلى أن هبت منذ مدة عاصفة أطاحت بمن اعتدى وبمن ساعد في التشويه. وأفقدتني الريح العاتية العديد من الأعزاء وعزتني في ما تبقى من فلذة كبدي  الذي ترك حسرة في قلبي منذ الخدش  الأول.
هدأت الريح وسرعان ما توالت علي من حين لآخر رياح تهب متغيرة موجعة أحيانا. وبين الحسرة على ما ضاع مني والأمل في وضوح الأفق بعد هدوء العاصفة،أحسست يوما بشيء يتململ داخلي. أخيرا لقد حبلت من جديد. ممن هذا اللقاح يا ترى؟ 
إن الجنين يكبر ويكبر وتزداد حركته. لا أستطيع إخفاء فرحتي، فليقولوا ما يقولون. ... ما أجمل أن تحسّ الأنثى بالخصوبة. مَن مِن النساء تتحمّل الحمل بثقله إن لم تدغدغها لذّتا الخصوبة والتباهي بالإنجاب؟
لا تنسيني مشاغلي ما في أحشائي ولا يشغلني عنه خلاّني المتوافدون علي الواحد تلو الأخر في تزاحم وتنافس إلى حدّ الحرج فأرجئ بعضهم إلى مواعيد لاحقة. وكلمّا انشغلت عنه يهمزني الجنين بركلة تذكّرني أنه يكبر ويكبر. ويثقل الحمل علي فأنغمس تحت وطأته في نزواتي إلى أن يحين المخاض فأهجر ككل أنثى كل الرفاق.
أوجاع تبدأ في الرأس خوفا من الآتي. وبين الوجع والوجع أتصفّح دفتر عشاقي لأحثّ الوحم فيما تبقى له من الوقت على انتقاء الأفضل والاجتهاد في النّسخ والرّسم. إنّهم كثر، لا أتذكّر أحدهم إلاّ من خلال طفرة تركها في أحشائي منذ التقينا.
آه ، لقد تحوّلت الأوجاع. ... إنه الوليد. ... ها هو يدفع الحواجز ويقاوم أنسجة فيمزّقها. ... إنني أنزف. ... ها هو يفتح لنفسه طريقا ليرى النور. 
أحسنت. ... أحسنت. هيا اخرج قبل أن تنقضّ عليك حبال فتكبّلك. ... إنّ أملي فيك كبير، لعلك تنطق بما تعطل عنده لساني وتبلغ ما لم تطله يداي. إنك فأسي ومطرقتي.
أوجاع تفكّك أوصالي. ... يا إلاهي ما الذي جرجرني على هذا العناء؟ إنها الولادة الأخيرة، هذا وعد قطعته على نفسي، لن أقرب أحدا بعد هذا اليوم. آي. ... يا سيدي عبد القادر ... سأستخدم موانع الحمل، إنها كثيرة وأفضلها حسب ما قيل لي العازل الواقي. ... ما كل هذا يا ربي؟ لقد تبللت ثيابي عرقا كما لم تتبلل من قبل أبدا. سمعني جيراني وجاراتي أهذي وأصيح. بل بلغ طلقي الجار الأربعين، أعرف منهم من سرّ واغتبط ومن اغتاظ حسدا. كلّهم ينتظرون ما عسى أن يكون المولود. إنه وليدي كيفما سيكون. لن يخرج بسهولة انتظارهم. ... لن ألد لهم بعد الآن.
آي... يا ربي. ... أرى رقعتي البيضاء تلطخت. ... أه. ... لقد اسودت. واسودت أخرى وأخرى. ... وأخ....رى. وأخيرا، ها هو مكتملا. ما أسعدني. ... آ...ه. ... يا إلاهي ! يا لها من راحة ! إنني أطير . ... أطير. ... لقد زال ما كبر في أحشائي حتى لم أعد أطيقه. لقد وضع وأني أعلم ما وضعت. إنني الآن خفيفة مثل سحابة صيف.
أوضعت كل هذه التوائم؟ ما أجملها !  سيتسابق ويتنافس عليها العشاق. ... هذا أكيد. ... سأعوّدها على حسن المعاشرة. لا فرق بين شرقي وغربي أو أسود وأبيض. ستفتح بناتي مثلي لكل الشرائح العمرية وكل الفئات الاجتماعية ومن كل صوب وحدب، لعلها تلقح بلقاح أصيل نادر يشرّف من ينتسبون إلي ويرفع من شأنهم.
مولودي هذا، آمل أن يستمد القوة ويصحّ بصره ليرى أبعد مني مدى وتستنير بصيرته أكثر مني صفاء ويشعّ سلطانه بيانا لحقوق كل من الحكام والمحكومين عملا بالنصف الأول من الحديث الشريف «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا»...صورة لا أبلغ منها تأسيسا لعيش كريم ومستقبل زاه للأجيال القادمة . أما من كان يريد أن يؤسس للموت غدا استعدادا للآخرة دون سواها فما عليه إلا أن يتعفف ويزهد من بناتي الدنيوية.»
هكذا وضع مكتملا ونطق في شهقة الحياة شجاعا برّا بوالدته معتزا بها عزيزة شامخة حامي حماها. انفجر الهواء من رئتيه وانطلق معلنا دين أمّه الإسلام والعربية لغتها وهي حرّة في هواها لا سلطان عليها إلا ضميرها الحي. 
حفظ الله المولود الجديد حتى يشتّد ساعده وتفخر به أمّه بين الأمم.