من ثنايا التاريخ

بقلم
اسماعيل بوسروال
هزيمة شبيه « ستالين» بتونس نصر الله 1968
 إنها مدينة «سيدي علي بن نصرالله» الواقعة جنوب القيروان عاصمة الأغالبة ... وليست حسن نصرالله وحزب الله اللبناني ... أردت تسجيل العنوان على هذا النحو لنتعمّق في ثنايا وأعطاف  تاريخ تونس الحديث ... بمميزات صغيرة جميلة كلمسة الحنين ليكون التاريخ التونسي اجتماعيّا وانسانيّا وليس سياسيّا «رسميّا» فحسب .
كنا في المرحلة الإعدداية نتّقد نشاطا وحماسا في مجالات الثقافة والرّياضة، حيث نكتب القصائد ونلقي الأشعار الحماسيّة ونقيم المباريات الرياضيّة سواء في إطار النوادي أو بـــ «المجهود الشعبي»...وكنا نناقش القضايا الوطنية والمسائل العامة على شكل ما تشهده الجامعة التونسية في ذلك الحين.
تمّت تسمية مدير للمعهد الثانوي بنصر الله وهو أستاذ ذو ميول اشتراكيّة وقع الدفع به إلى هذا المركز رغم افتقاره إلى الخبرة التربويّة اللاّزمة ... إنّه شاب يتّقد حماسا، مكتنز البنية، جهوري الصّوت، يطمح إلى تقليد قادة الأحزاب الاشتراكيّة  في أساليب الاتّصال حيث يعتلي كرسيّا في الساحة أو يطلّ علينا نحن التلاميذ من شرفة عالية ليحيّينا أوّلا ثم يلقي كلمة مقتضبة على منوال توجيهات الرئيس بورقيبة رحمه الله ولكنّه كان أيضا يسعى لتقليد توجيهات أو نصائح «القادة الرفاق» في أوروبا الشرقيّة ... له شاربان شبيهان تماما بشاربي «ستالين»... وكنا نراه يلوّح بقبضته في الهواء ويصعّد لهجته في بعض الأحيان بنغمة «الثورة البلشفية»... فكان الاتّفاق شبه الجماعي بين التلاميذ على إسناده تسمية «رمزية» وهي «ستالين» وهو أسلوب شقاوة ينتهجه التلاميذ والطلبة تجاه المدير والنّاظر والقيّم وأحيانا الأستاذ أو الأستاذة. وأصبح يخصّص منابر أسبوعية للحوار مع تلاميذ يقنعهم بالتّعاضد وحتى يكونوا هم أنفسهم رُسُلا لدى عائلاتهم يقنعونهم بالاختيارات الصّائبة للحكومة ...
بدأ « ستالين» التونسي عندنا معركته الأولى عندما تبنّى المبادئ والأفكار الماركسية وأراد تطبيقها على الأرض التونسيّة وعلى أبناء الشعب التونسي – تحت ذريعة المبادئ البورقيبية - حيث اجتمع بنا تلاميذ المبيت الداخليين ليعلمنا بأنّ جدول وجبات المطعم ستظلّ بدون تغيير في شهر رمضان...وجد كلام المدير « ستالين» معارضة من التلاميذ ولكنها معرضة مهذّبة واجهها بقرارا سلطوي غير قابل للنقض ...
مرّ الاسبوع الأوّل من رمضان في تلك السّنة وقد اتّخذ التلاميذ مواقف موحّدة حيث يقومون فجرا للسّحور بوسائلهم الخاصة ... ويستجمعون اللمجات المسائية للإفطار ... ويصلّون المغرب في ركن من الساحة ... وبذلك فشلت خطة « ستالين» لإجبار تلاميذ المعهد على إفطار رمضان ... بل زاد سلوك التّحدي له بالتّمسك بالشعائر الدينيّة ...ولمّا رأى فشل خطته « الشيوعية»  المتدثّرة بعباءة « البورقيبية» اجتمع بنا من جديد وقال : « أنتم أبنائي،وأنا أحترم رغباتكم. لقد قررت تعديل جدول وجبات الأكل وفق موعد السحور والإفطار ... وأقنعت العمّال بذلك ...» تقبّلنا ذلك القرار بسعادة غامرة دون أن نخفي نوعا من الشماتة في السيد « ستالين» الذي حاول من خلال مسكه بشاربيه بين الحين والآخر ألاّ يظهر بمظهر من خسر معركة « الفكر الشيوعي» أمام فتيان يافعين كان سلاحهم الوحيد فطرتهم السليمة التي فطرهم الله عليها .
ولم يكن هيّنا للسيد المدير أن يلقي السلاح البلشفي لا سيما وهو يملك سلطة معتبرة، فقرّرأن ينشئ في المعهد ناديا ثقافيّا «للحوار مع التلاميذ» ... وهي فكرة أسعدتنا كثيرا ... حيث يشرف «ستالين» بنفسه على إدارة الحوار وتقبّل الآراء والتفاعل معها ... وبذلك تدحرجت كنية «ستالين» وتأخرت  لأنّ الرّجل بدا غير « متحجّر» بل هو نسيج آخر للفكر التونسي وإن استعار بعض «الأشكال الثورية» القادمة من العالم «الشيوعي» آنذاك، لا سيما وأنّه صارحنا أكثر من مرّة أنّه لا يرى في الشعائر الدينية كالصّوم والصّلاة مظاهر تقدّم للإنسان أو شكلا من أشكال الحرّيّة بل هي مجرّد تقاليد موروثة. 
وحدث أن دخلت البلاد وضعية جديدة وهي « تعميم التعاضد» وقد أُزعج السّكان أيّما إزعاج حين طُلب منهم أن يسلّموا أغنامهم وأبقارهم وحقول الزيتون إلى « التعاضدية» ليصبحوا مجرّد «عمّال» بعدما كانوا مالكين.
كان والي القيروان خطيبا متحمّسا للسّياسة التّعاضديّة .. يواظب على أداء زيارات للمعهـــد الثانــــوي بنصر الله ليتحــدث عن آفــاق « التعاضد» و كيف سيغيّر وجه  تونس نحو الأفضل...كما كان نشطا جدا في زيارة المناطق الريفية الفلاحية لإقناع المزارعين بتـــــــسليم أرزاقهم إلى الدولة وإلى التعاضدية والوحدة الإنتاجية. 
ما زالت ترنّ وعوده الخلاّبة في أذني وهو يتحدث عن الآفاق الرّحبة لمواسم الخير والخصب القادمة سريعا إلى بلادنا حيث وعد أن تكون خلال العشرية القادمة جامعة في القيروان وكلّية في نصر الله ومعهد ثانوي في سيدي خليف... كان يستعمل عبارات أدبية منمّقة في تخيّل المستقبل ويستدعي عبارات منفّرة لتصوير الواقع المعيش...
تحمّس مدير المعهد لفكرة التعاضد وهو كما أسلفنا الذكر ذو ميول اشتراكية غير خافية، وقع الدفع به إلى هذا المركز ربّما لأفكاره اليسارية  ...وافتتح حصة حوار ونقاش حول ما يدور في أذهان التلاميذ من تساؤلات عن جدوى التعاضد .. أفاض في تحليل جدوى المنوال الاشتراكي وما حقّقه من مكاسب وخيرات في البلدان التي انتهجته ... حيث زالت الفوارق ... وتوحدت طبقات الشعب ... وانتهت الامبريالية والرأسمالية... وأصبح المجتمع «الاشتراكي» سعيدا ... حيث توفر لدى مكوناته الغذاء الصحي والمسكن اللائق...
و لما سأله بعض التلاميذ عن كيفية إقناع آبائهم وأمهاتهم بالتخلي عن حقول الزيتون التي نشؤوا فيها وقطعان الماشية التي تربوا فيها  وبينها ومعها والأبقار الحلوب التي يجالسونها ... ومزارع السنابل التي تبهج النفوس ... أجاب بأن ذلك يعود إلى «عقلية» متخلفة ... وذهنية «رجعية» وتربية «دينية» بالية لم تعد تساير العصر .. أنهم يؤمنون بـــ «الخرافات» والأقوال القديمة من نوع «المال والبنون زينة الحياة الدنيا»... فيكثرون من حبّ الأرزاق وإنجاب الأبناء ... وهم إلى « الحيوانات أقرب» ...إنهم مثل العبيد إذا لم تقوموا بتحريرهم فإنهم سيظلون يقبلون بأوضاعهم وطريقة عيشهم.. إنّ « العبيد» غير واعين بأن هناك حرية بإمكانهم أن يعيشوها... إلا إذا فتحتم أنتم أو آخرون بصيرتهم...
ساد القاعة صمت مطبق سرعان ما تحوّل إلى همسات و همهمات.. لقد أصرّ المدير على توجيه الاتّهامات والشتائم إلى الآباء والأمهات ... و طالب الأبناء بإنهاء مشكل معارضة التّعاضد من خلال تمرّدهم على والديهم وأعمامهم وأخوالهم... كما أنه أرجع الفقر والبؤس إلى المسائل الدينية واعتبر العقائد مصدر شقاء الناس.. تساءلت هل سيخضع الحاضرون إلى هذا التفسير القسري؟... والذي أكد مدير المعهد أنه لا يوجد تفسير آخر غيره ...
أنبرى من بين الحاضرين شاب يافع ...هادئ الطبع ..رصين.. وطلب من مدير المعهد أن يسمح له بأن يبدي رأيه دون أن يناله عقاب. وتساءل هل هو آمن إن أفصح عن مشاعر وآراء لا تُرضي ؟... 
فقال له المدير: « نعم ... قل ما تشاء فأنت آمن، ولا تخش أحدا».قال المدير ذلك ولم يجل بخاطره أن يتجاوز تلميذ مازال طري العود حدود المعقول ... و لم يتخيّل المدير أن من بين هؤلاء « البؤساء» و«الفقراء» من تحدّثه نفسه بأن يترك الخوف جانبا...
وقف الفتى اليافع  أمام الحاضرين في مواجهة المدير الذي كان  يصف «الزعيم بورقيبة» بالقائد الملهم ووزيره «بالمفكر الاشتراكي»... والآباء و الأمهات بـــ «المتخلفين المتمسّكين بالتّقاليد البالية» وشرع يوضح في نبرة هادئة :
- « سيدي المدير ... استمعنا إليك باهتمام وفهمنا مقصدك... سنسعى لإقناع الأولياء والأهل بجدوى التّعاضد وحكمة القيادة ... ولكن هناك أمران لا يمكننا الإجابة عنهما لأننا لا نملك إلا أن نلوذ بالصمت وأن ننسحب من حلقة النّقاش.. آباؤنا وأمهاتنا أقوى منا حجّة وينتصرون علينا» ونظر الفتى إلى المدير وتوقّف برهة كأنّه ينتظر إشارة مواصلة الكلام ...
ساد القاعة صمت رهيب ... لكن المدير قبل التّحدي الذي وضعه فيه الشّاب اللطيف وقال له :  
-« واصل كلامك ...أنت حرّ يا بني ... وضح أكثر .... ماهما الأمران المزعجان؟»
استأنف الفتى تدخله في أسلوب تشويقي ... 
- «سيدي المدير ... نحن نحتفل بالمولد النبوي الشّريف يوما واحدا في السنة ولكن تونس كلها تحتفل بعيد ميلاد سيادة الرئيس المجاهد الأكبر لمدّة ثلاثة أشهر!!!» كما  تخصّص الإذاعة المدائح الصّباحيّة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم تليها مباشرة المدائح الرئاسية وكأنّ الرئيس بورقيبة بُعث نبيّا بعد الرّسول محمد صلّى الله عليه وسلّم ...فلماذا هذا الرّبط بين المدائح النبويّة والمدائح الرئاسيّة ؟ أنا أعتقد أن النبّي نبيّ وأن الرّئيس رئيس ؟ فلماذا يريد الرّئيس أن يكون رسولا ؟ ألا تكفيه الرئاسة؟»
واسترسل الفتى اليافع قائلا : 
- «في الروزنامة الخاصة بالأعياد الوطنية والدينية لاحظت ما يلي – قال الفتى اليافع -يسجّلون المولد تحت عنوان « المولد النبوي» هكذا بدون إضافة أيّ كلمة أو صفة تقدير للرّسول الكريم  في حين يكتبون أمام 03 أوت « عيد ميلاد  فخامة رئيس الجمهورية» ...
أليس هذا أمرا غريبا ؟ إنّ آباءنا يقولون لنا ملاحظات سلبيّة لا أسمح لنفسي أن أذكرها أمامك وأمام الحاضرين. هذه هي النقطة الأولى ... أما النقطة الثانية فهي محيّرة كثيرا  ولا نقدر على الاجابة عنها وبودّنا لو يتم مدّنا بالتفسير المقنع...
سيدي المدير، نتفّهم أن يكون لرئيس الجمهورية قصر في قرطاج يليق بمقامه السّامي .. ولكن لماذا قصر في المنستير وقصر في رقّادة ... وقصر في الوسلاتية ... وقصر في ضواحي صفاقس (دار الهناء) ... لماذا لا تصرف الأموال في شؤون أخرى كالطرقات والجسور وغيرها ؟ .هذا ما أردت أن أقوله سيدي المدير والسلام عليكم»
صمت الشاب ... و في هدوء وثبات عاد إلى مكانه وسط ذهول الحاضرين ... وقد توقّع العديد منهم الويل والثبور وعظائم الأمور للفتى اليافع الذي حطم «جدار الخوف» وحوّل المدير إلى خطّ الدّفاع الأخير بعد أن حاصر مقولاته جميعا بالإفصاح في أمرين غاية في الإحراج.
علت الأصوات والهمسات والهمهمات ... واعتقد بعض التلاميذ  الحاضرين أن السّماء ستسقط على نصرالله هذا المساء وظنّ آخرون أنّ «ستالين» سيخرج من هدوئه وسيظهر عنفه اليوم ... بعد لحظات مال المدير نحو جليسيه في المنصّة وتبادل معهما بعض الكلمات ... بدا مبتسما وفي وضع لا يدعو لليأس أو القلق ... كنا نظنّ أنه لن يبحث عن حلّ للمشكل المطروح  بل سيتّخذ إجراء عقابيّا رادعا لا سيما وهو معروف بصرامته...
استأنف المدير اللقاء الحواري ... و بدا واثق النّبرة ... خلا من كلامه عدم الرضا، و كلما استرسل في الحديث بهدوء استعادت القاعة توازنها واستمّر الحاضرون في أماكنهم يلتقطون العبارات ... والتعابير ... والأوصاف بغربلة وتمعّن .. وممّا قال المدير معلقا على الفتى اليافع ... 
- « يا ابني ... ويا أبنائي ... وبناتي،  المجاهد الأكبر حرّر تونس وحرّر المرأة ... و نشر التّعليم حيث المدارس في الجبال والبوادي...ولولاه لكنت ترعى الخرفان؟... اذن من حقّ التونسيين أن يفرحوا بعيد ميلاده ... ويقيموا الحفلات من باب ردّ الجميل» ... لم يتعمق المدير كثيرا في الموضوع ... ولم يتطرّق إلى المدائح والأذكار والعكاضيات ولكن أصرّ على أن الشعب هو الذي يعبّر عن اعترافه بفضل «الزعيم الأوحد» على «الأمّة التونسية» وأنّ مظاهر الفرح هي من اجتهادات الشعب التونسي ولم يطلبها «المجاهد الأكبر» من أحد وهو في غنى عنها تماما تماما ...
وبعد صمت طال قليلا .. تناول المدير في ردّه مسألة القصور الرئاسية، فقــــال: « إن الدّولة لها هيبتهــا، وعندما يقيــــم الرّئيـــس في بناية فخمة فذلك من حظّ تونس ومن سمعتها لأنــــــه شرف لنـــا أن يكون «للزعيم» عدّة قصور يستقبل فيها ضيوفه. ففي الأيام الفارطة زارنا نائب الرئيس الأمريكي فأين تريد أن يتمّ استقبالــه؟ أفي كوخكم المتداعي؟... أم في «معمّرتهم الخربة»؟
وطفق يوصّف ويُفصّل بؤس السّكن في الأوساط الريفية المحرومة ويؤكد أن سياسة التعاضد ستجعل من البدو حضرا ومن التشتت السكاني قرى ومدنا صغيرة يسهل تزويدها بالماء وربطها بشبكة الكهرباء... فكان وصفا جميلا لحياة متطورة فيها التقدم والرفاه ...
عندما خرجنا بعد نهاية الندوة، لم نصدق أنه يمكن لنا أن نبدي رأيا جادّا دون خوف وأن الحياة تستمر بصفة عادية ؟؟ وأنّنا سنرى الشمس ... ونستشق الهواء ... ونسير في الشارع الرئيسي كما اعتدنا؟... ولكنّنا تأكدنا أنّ «ستالين» التونسي تمّت مقاومته بكلمات لطيفة من «فتى بدويّ يافع» ...وأدركنا في ذلك الزّمن الباكر أنّ «ستالين التونسي» لا يصمد أمام كلمة صادقة قادمة من أعماق الإنسان .