بلا حدود

بقلم
نعمان العش
متأصّل ومستأصل مشروعان: متناصر ومتناظر
 1)  سؤال قعر الّذاكرة: هل نتعلّم الوطنيّة أم نعلم بها؟
أفراد كثيرون من أبناء الشّعب الفاضل يقرؤون ما يرد في وسائل الإعلام المكتوبة أو هم يسمعونها أو يشاهدونها، ولعلّي - وأنا أحد هؤلاء الأفراد- أقحم في ذاكرتي سؤالا أبيحه في كلّ لحظة قراءة أو سماع أو مشاهدة ليكون السّؤال المزمن المستقرّ في قعر الذّاكرة فلا تكون ذاكرة مشوبة بالإهمال والنّسيان ولا يكون السّؤال إلاّ قدَرًا على الذّاكرة فلا تنسى ولا تهمل. أمّا السّؤال فهو التّالي:
هل تشحن أذهان أفراد الشّعب بعملية الإرجاع والرّبط بين كلّ ما يتكتلّ فيها ممّا يُقرأ أو يُسمع أو يُشاهد من أخبار وتحاليل وتقييمات وردود فعل ترد عن إعلاميين وسياسيين؟
ما أريده ليكون رهانا يبرهن على نجاعة سيل الإعلام الرّهيب بأن يكون رصيدا يوافق الوطنية ويطابق أهدافا لثورة وطنية يتمثّل في أسئلة أكثر كثافة:
* هل أنّ كلّ مصادر الإعلام هي مصادر وطنية؟
* هلا تكون عملية بثّ الإعلام عملية وطنية؟
* كيف يكون التحيّز لقضايا جزئية وجهد إثارتها بتوتّر مغرض متعصّب لقضايا الشّعب رهانا وطنيّا؟
هل من جواب لا يكون له من مقابل إلاّ بيان طبيعة العلاقة الّتي تجمع بين كتلة ثورة أزاحت كتلة الاستبداد وبين كتلة مناضلين وطنيين لم ينكشفوا أو يتميّزوا زمن ثورة كانت عنوانا حقيقيا للوحدة الوطنيّة؟
أو: هل من جواب لا يكون له من مقابل إلاّ بيان طبيعة العلاقة الّتي تجمع بين كتلة هذه الثّورة وبين كتلة خونة الوطن وسماسرة فرص كانوا يحقّقون مآرب لقاء عمالتهم لمقاول نهب الشّعب والثّروة الوطنيّة ولقاء عمالتهم لمقاولي الامبرياليات الرأسمالية والاشتراكية والصّهيونية؟
إنّ هؤلاء لم يكونوا ينكشفون من قبل لأنّ شرط تحقيق الأرباح هو عدم الظّهور في الصّورة غير أنّهم احتاجوا اضطرارا لأن ينكشفوا في الزّمن الرّاهن وهم يلبسون أثوابا جديدة. لعلّلكم أصبحتم، يا أبناء الوطن العزيز، بحاجة إلى أن تتلقّوا دروسا تكميلية في معاني الوطنية والدّفاع عن الحقوق ومقاومة الاستبداد الجديد يقدّمها لكم من كانوا بالأمس يتسوّلون على أبواب البلاطات ومن كانوا يثرون لقاء مساندة تتفوّه بها مقالاتهم أو خطبهم لأنظمة وزّعت الخراب والموت بكلّ عدالة بين بعض الشّعوب العربيّة الإسلامية، والمثال الدّاعم لهذا الموقف هو مثال الحرب الّتي أعلنها العدوّ الأمريكي، بإيحاء من العدوّ الصّهيوني وبمباركة من بعض الأنظمة العربية، على الشّعب العراقي بحجّة إنقاذه من إرهاب الرّئيس صدّام حسين.
إنّ الجواب غير مرغوب فيه الآن لأنّه سوف يكون جوابا مقلوبا مثلما هي الحقائق مقلوبة وكذلك هو الخلط الّذي اجتمع وتكثّف لدى الشّعب في ذاكرة لم تعد تخزّن المعلومات وتجهّزها لتوظيفها في مقبل التّاريخ بل ذاكرة مصابة بانهيار عصبي فلا يعتمد عليها لحظة البحث عن تسلسل وتواتر وتناسق المعلومات، فبدل أن يكون إنتاج ذاكرة الشّعب تمام تحقّق التّواصل يكون الخضوع لاتّصال به يبثّه الخوف وانعدام الثّقة عوضا عن الأمل والفرح بالغد المقبل.
2) جغرافية المسار الدّيمقراطي: هل تشترط مناطق عازلة؟
إنّ ذاكرة الشّعب تحتاج ولاشكّ إلى قيادة ذات نمط جديد يبرهن تحالفها المنهجي مع شعب مغدور تاريخيا وهو الّذي يراد له أن يغدر حاليا تحت وطأة معاداة النّهضة الحاكمة ومعاقبته جرّاء انتخابه لها في 23 أكتوبر 2011 كما يبرهن انخراطها في المشروع الإسلامي كبديل مقبل للتّاريخ. إنّها القيادة الّتي تشحن أذهان أفراد الشّعب بعملية ربط وإرجاع سوف تطال كلّ التّاريخ الّذي له أن يذكّر بأعمال المصلحين في التّاريخ الإسلامي من مفكّرين وفقهاء وسياسيين وقادة ورجال قانون وغيرهم، وتطال التّاريخ الّذي ليس له أن يذكّر بغير أوكار الغدر الّتي طالت مناضلين وطنيين.
3) حدود الانتقال من الصّمت إلى الثّورة:
1-3) الصمت أم الكلام، أليس الصمت أكثر وجاهة من الكلام؟
لقد كنّا قد تدرّبنا على أن نقول خيرا أو أن نصمت، وتدرّبنا أيضا على أنّ الكلام ليس أقلّ قيمة ووجاهة من الصمت، و كان قليل منّا من اتّجه إلى ربّه قائلا «ربّ اغفر لي ذنبي و يسّر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي(..) و اجعل لي وزيرا من أهلي (..) اشدد به أزري وأشركه في أمري».
لعلّ أحدا منّا يجد في نفسه حيرة: هل يختار أن يكون صامتا أو أن ينطق معبّرا عمّا يكون خيرا فيكون قوله أمرا بالمعروف والخير؟ إنّه خير حينما لا يسكت عن الحقّ حتّى لا يلحق بالشّيطان فيكون شيطانا أخرس. كذلك ترى الكثيرين لا يلجؤون إلى حيرة تؤدّي بهم إلى الاصداع بالقول ولعلّهم يصمتون خوفا وهم بذلك مبرّؤون من سيّئات صمتهم فالنّجاة قد تكون نتيجة ايجابية للعزوف عن ظلم  الظالمين. ولعلّهم كذلك يصمتون تبريرا لما يكون  في واقعهم، و كلّه شحنة اعتداء على مبادئ يؤمنون بها وحقوق كان يجب أن يتمتّعوا بها وحرّية حرموا منها، فأخضعتهم الغفلة عن أضعف الإيمان، وهو أن يغيّروا المنكر بقلوبهم فضلا عن ألسنتهم، ذلك الذي لجأ محتميا بهذا الصّمت هو أشبه بمن لم ينهه صومه عن المنكر والمعصية فأجابه الله بأنّه ليس بحاجة إلى صلاته أو صيامه.
لا يفرّط في الصّمت أحد يستعدّ للقول، فهو في لحظة الصّمت يدرس ذاته وواقعه ويتأمّل بعقله ما يكون لاحقا لهذا الصّمت من قول يوجبه على نفسه ليكون متعلّقا بذاته وبمحيطه دافعا إلى إصلاحه أو تغييره.
إنّها لحظة الفصل التي دفعتني إلى استباق الأمر بهذا التّقديم، فذواتنا متعلّقة بالصّمت الايجابي والقول الايجابي بدوره، وكذلك هو واقعنا ومحيطنا متعلّقان بكلى الصّمت والقول الايجابيين.
اعتبرت اللّحظة لحظة فصل وفي ذلك إشارة بيّنة إلى قطع وتمييز بين زمنين يوجبان البداية والّنهاية باختلاف عمّا كان لدينا فيما مضى من بداية و نهاية. بدايتان ونهايتان مختلفتان وليستا متفارقتين:
* أما البداية في الزّمن الأوّل، وهو زمن كان فيه الإسلاميون يواجهون فيه آلة القمع والسّحل النظامية، فإنّها بداية الصّمت الّتي أختزلها في عبارة « القول الصّامت » الّذي يوجبه العمل السّرّي بما هو قول وفعل سرّيين. كانت الحركة الإسلامية تستخدم العمل السرّي ككاتم صوت تفرضه طبيعة العلاقة مع سلطة زين العابدين بن علي وجهازه البوليسي الّذي اعتمد عليه ليكتم صوت المعارضة الإسلامية.
* أمّا النّهاية في الزّمن الأوّل فإنّها نهاية الصّمت الّتي أختزلها في عبارة « القول الصاخب » وهو شطر اللّحظة الثّانية بما هو لحظة المرور من « شوط التّجهيز » « بالقول الصامت » إلى « شوط الإجهاز » « بالقول الصاخب ». كان مشروع التّعبير عن نمطية هذا القول الصاخب متمثلا في حركة 18 أكتوبر سنة 2005. كلّ الشّعب التّونسي كان غافلا عن طبيعة هذه الحركة وعن رهاناتها لأنّ أحدا لم يكن لينتظر نهاية لقوّة نظام بن علي الاستبدادي، وكذلك لا أرى أحدا كان يستعدّ لهذه النّهاية. غير أنّي أضيف إلى هذا الإقرار إقرارا آخر مكتوبا بالخطّ العريض وهو أنّ الطّبقة السّياسية، سواء تلك الّتي كانت منتصبة على سدّة السّلطة أو تلك الّتي كانت تدّعي أنّها معارضة، لم تكن لتدرك طبيعة الإرادة التي عبرت إلى نمط جديد من المواجهة مع النّظام الذي كان قائما آنذاك...
هل يخلو كلّ قول أو كلّ صمت أو كلّ فعل من إرادة يوجّه بها العقل ما يكون قولا أو صمتا أو فعلا؟
إنّني أستجير بمثل هذا السؤال لأواجه الغياب عن الإدراك لما كان لحركة 18 أكتوبر 2005 من إرادة سابقة فأقول في إشارة أولى أنّ هذه الحركة:
* جمّعت أطيافا من المعارضة التي كانت تعتبر وطنية منفصلة عن نظام الاستبداد في مبادئها وأدواتها ورهاناتها.
* ووحّدت هذه الأطياف المعارضة، رغم اختلافها الفكري والأيديولوجي والسّياسي في هدف واحد تمثّل في مصادرة إرادة بن علي وإدارته.
* وشملت اتّفاقا ووفاقا على الاشتراك في شكل عمل داخل جسم حركة 18 أكتوبر 2005 كحركة احتجاج أولى.
* واتّفقت على أن يكون رهان تحقيق الحرّية والعدالة والكرامة للشعب التونسي عنوانا لشكل النّضال الجامع لكلّ المناضلين المختلفين.
إنّي أقول كذلك، في إشارة ثانية، أنّ هذه الحركة قادتها « حركة النهضة الإسلامية » إيمانا بمشروعها الإسلامي الوطني واحتسابا له عند الشّعب لتكون قولا غير صامت يعبّر عن هيكل المشروع الإسلامي بما هو مشروع يناهض العنف والإقصاء وعدم الاعتراف بالآخر بل يِؤسّس لديمقراطية جامعة توافق العقل فتجمّع الوطنيين مهما اختلفوا وتحتضن المواطنين وهم كانوا قد حرموا من مواطنة أقرّتها المواثيق الدولية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرّته الأمم المتحدة في 12 ديسمبر 1949.
ولينطلق بما هو تعبير عن إرادة الشّعب في استرجاع حقّه في:
* التّعبير عن طموحاته في الحرية والعدالة والكرامة،
* الانتفاض ضدّ قوّة القمع و السّحل ومصادرة حرّيته
* تشريع الشروع بالإجهاز على نظام يحول دون تحقيق هذه الطموحات المتعلّقة به.
هذه مثلما فصّلت، هي البداية والنّهاية بما هي مشروع لم يكن ليفصل بين الصّمت والكلام أو القول بل ليجعلهما مجتمعين فلا يكون أحدهما دون أن يكون الآخر وفق المشروع الوطني والمشروع الإسلامي بما هو مشروع وطني مؤسس لديمقراطية إيجابية.
2-3)    كلام أم فعل !
إنّ المشروع الوطني، عندما أدعوه بمعيّة المشروع الإسلامي، فإنّي لست استثني، التّوأمة والمواءمة بين مشروعين لن يكونا إلاّ واحدا. إنّ في ذلك قصدا لن أجده مفارقا لولادة جديدة مؤسّسة لهذا المشروع، أمّا أن يكون تأسيسا، فدلالة ذلك فيها ما يكون صريحا، وضمنها ما ينكشف لاحقا، وقد كان من قبل مضمّنا، فما هو الصّريح وما هو الضّمني في هذا المشروع ؟
* خارق للعادة هو البحث الإستشرافي الّذي اخترقت به حركة النّهضة التّاريخ، وخرقت به ما ألفه من خطاب قد صاغ أحد نسخه الحبيب بورقيبة، وقد تمكّن من الاستيلاء على سلطة لم تكن ليكون هو نفسه حضوتها بالضّرورة، لأنّ التّاريخ لا ينفرد برأس واحدة بل هو متعدّد الرّؤوس، أمّا ما يعلو فيه فهو الصّوت الّذي استطاع أن يكون الأقوى قصد أن يبهت أصوات رؤوس أخرى تكون هي الأقوى عندما نستثير التّاريخ فنستشيره عن وطنيتها ونضاليتها فيشير إليها بالتّميّز دون أن يغفل عن الإشارة إلى ذلك الّذي قوي صوته بالمغالطة والتّمويه. هل يكون ادّعاؤنا بأنّ البحث الإستشرافي لحركة النّهضة الخارق للعادة خلو من الصّدق؟ لا يمكن الجزم بذلك إلاّ متى فشل هذا المشروع في التّحقّق بمفارقة لمبادئه ومنطلقاته ومسيرته التّاريخية، فالخطاب المألوف، هو الّذي يقدّم ما يخالفه الفعل، ولئن كنّا قد وجدنا نسخته الأولى لدى الحبيب بورقيبة فإنّ الخطابات الأخرى كانت مطابقة له وبعضها كان جنيسا له. إنّه دون شكّ الخطاب الّذي تكرّر لدى تيّارات شتّى قدّمت نفسها معارضة لنظام الحبيب بورقيبة، ولئن كان بعضها يدّعي الراديكالية والآخر يتبنّى الانقلابية، فإنّ أحدا منها لم يكن ليفارق خطابه. ما هو مضمون هذا الخطاب ؟ أختصر الجواب في أنّه يمنّي المستقبل بهالة من:
* الأوهام الموشّحة بجنّات سوف ينعم فيها الشّعب مثلما ينعم مريض في حديقة منتزه، أوهام مكلّلة بورود التّنمية الاقتصادية والسّياسية وبعطر معالجة المشاكل الاجتماعية المهنية والوظيفية والمتعلّقة بالأجور وبنَفَسٍ متطوّر يتعلّق بالبنية الأساسية وببطاقات مرور لتنمية بشرية وبأخرى لإصلاحات تربوية وقضائية ومالية. كلّ هذا يخالفه مشروع حركة النّهضة الإسلامية، لا في المضمون بل في الشّكل، لأنّ وطنيّا يستشرف مستقبلا لشعبه، لابدّ أن يتنزّه عن مخادعته ومغالطته فلا يكون ممّا يدّعيه وعدا إنّما يستشرف به طول عمر انتظار هذا الشّعب وصبرا ممطوطا إلى ما لا نهاية، ولابدّ له أن يستغرق الدّراسة والتّخطيط بالتّوازي مع الاحتكام إلى الوقائع التّاريخية والرّاهنة بسندات علمية مجالها علوم الاقتصاد والسّياسة والاجتماع والنّفس والتّربية والدّين، وبسندات أخرى يستمدّها من أعماق المكرور لدى الشّعب، في واقعه الّذي يريد تغيير وجهته نحو الأفضل، وفي المحضور عليه تاريخيا يريد الخلاص منه، وفي طموحه فيريد أن يكون حرّا وكريما وناميا. إنّ النّهضة تشرّع لكلّ هذا علميّا، فليست لتكرّر الخطاب البورقيبي أو اليساري أو غيره، ولا لتحذو ما استأنفه خطاب المطرود زين العابدين بن علي دون تغيير، بل لتأخذ القرار وهي تسير في طريق، وسيلة النّقل فيه نحو التّحقّق هو ما تستمدّه من علوم وتاريخ وأصول تشرّع انطلاقا منها لسعادة حقيقية عنوانها الخلاص الّذي يتحقّق تطوّريا تقدّميا بحسب ما يمليه شرطا الوطنية والإسلامية: وهما الإرادة الصّادقة أوّلا ثمّ الوطنيّة الصّادقة ثانيا. أمّا أنّها تتّخذ القرار أثناء عبور الطّريق، ففيه غايتان راهنتان:
أوّلهما أنّها تريد أن تخالف المألوف فيما كانت تقدّمه خطابات أخرى، واعدة هي ولاشكّ، ومخالفة هي لوعدها دون شكّ، لأنّهـا تستبق:
* بالوعد وتستأخر بالانجاز. إنّ منشود النّهضة يتميّز بأنّها تستبق بالدّراسة العلمية والتّاريخية أوّلا وتتقّدم بالانجاز والتّنفيذ لاحقا،
* وثانيها أنّها تريد بوعي أن يكون في كلّ ما تستشرفه محصّن بتاريخية سعيها نحو بنية لا تفارق صفتها اللصّيقة بالمجتمع كجزء منه كانت تشاركه طموحاته سابقا وهي تشرّكه في تحقيق طموحاته حاليا، فالعمق الشّعبي، لن يكون بالنّسبة لحركة النّهضة، مشروعا ليزوّد رصيدها الانتخابي إلاّ مقايضة مع ما تقدّمه الحركة لفائدته لتزوّد رصيد الشّعب التّونسي في الكرامة والحرّية والعدالة، هذا شطر أوّل لمشروعها مثلما يبرز فيه كمشروع وطني، وهي تضيف إليه الشّطر الثّاني، بما هو مشروع إسلامي يتمّ من خلاله اندماجها كحركة تبقي على صفتها الإسلامية مع شعب يريد أن يحافظ على انتمائه العربي الإسلامي فيتمّ التّماهي بل التّوأمة والمواءمة بين المشروعين الوطني والإسلامي أو بين العمقين، العمق التّحرّري وطنيّا والتّأصيلي هوويّا، إنّه ولادة جديدة مؤسّسة لمشروع وطنيّ أوّل في تاريخ تونس لعلّه بهذا المعنى لا يخالف المشروع الإسلامي كمشروع وطنيّ أصيل.
إنّني أخلص، دون تردّد، إلى إقرار لا اشكّ فيه أراه متمثّلا في أنّ خطاب حركة النّهضة الإسلامية كان من قبل قولا صامتا ثمّ انتقل في مسيرة تاريخية ليكون قولا صاخبا وهاهو في الزّمن الرّاهن يتحوّل وفق مسيرة منظومته الفكرية التّطوّرية إلى قول فاعل قد يدّعي البعض أنّه سوف يكون قادرا على أن يخمده سواء كان ذلك الّذي يريد أن يحي ميّتا فيستعيد خطابه في نمط من أنماط الاستنساخ أو كان أولائك الّذين يريدون محاربة مشروع متجسّد في حركة النّهضة الإسلامية وهو مشروع مخلّد بلغ من العمر إلى حدّ الآن أربع عشرة قرنا، فهل نتوقّع أن ينجح المشروع الاستئصالي للإنسان وللتّاريخ ؟ أم أنّنا نتجهّز للاجهاز على الشّوط الأخير لأصول المرض الحضاري ؟ 
3-3) صعوبات معوّقة وثوريّة مؤسّسة
إنّ ادّعاء يقرّ بأنّه ما من ثورة حقّقت انتصارا جذريّا لإرادة عامّة خاضت تمرّدا على واقع استبداد وقهر موجود ومألوف وهيّأت منشودا ممكنا يريد أن يلغي الأوّل، إنّما هو ادّعاء يمكن أن يحضى ببعض وجاهة:
* يدركها طرف أوّل وجمهور من النّاس، وهم الّذين لا يريدون أن يكون للثّورة أيّ أثر انقلابيّ يغيّب مغانم قد كانوا يكسبونها بدون موجب قانونيّ أو أخلاقيّ،
* ويدركها طرف ثان، وهو جمهور الشّعب والمثقّفين والمفكّرين والاستراتيجيين، وهم يتهيّئون لمواجهة أعظم صعوبات وعقبات تعترض نجاح ثورة وإرادة التّحقيق التّامّ لأهدافها ورهاناتها.
لا يكون الطّريق الأوّل لهذه المواجهة أقلّ عسرا من الطّريق الثّاني الّذي يكون فيه التّخطيط وتكون البرمجة لبنية الإنعتاق والتّحرّر من آثار الاستبداد والقهر في سبيل إنجاز صرح البناء الدّيمقراطي الّذي يكون راسخا عندما يكون مستجيبا لتأسيس أعمدة النّماء والكرامة والحرّية والمواطنة:
* أمّا الطّريق الأوّل فهو يماثل وضع مريض لا يكون له من شفاء إلاّ بتدخّل جراحيّ يستأصل ورما كان يكلّف هذا المريض آلاما حادّة وقصورا وعجزا يبطلان إرادته وحرّية حركته وفعله. جمّة هي هذه الآلام ومكلّف هو هذا العجز إذا لم يتهيّأ ثمّ لم تنجز جراحة تستأصل الورم،
* أمّا الطّريق الثّاني فإنّي أستأنف الحديث فيه انطلاقا من قول «ويليام ديلتاي»، في كتابه « مدخل إلى دراسة العلوم الإنسانية » يعتبر فيه:« إنّ أفعال الإرادة، بفضل الطّاقة المبذولة والتّضحيات الّتي تظلّ أهمّيتها ماثلة على الدّوام أمام عيني الفرد كواقع من التّجربة، إنّ أفعال الإرادة هذه تؤول إلى إنتاج شيء جديد، وإنّ عملها يؤدّي إلى تطوّرٍ سواء في الشّخص أو في الإنسانية. »
   وإنّي أجد في هذا المقال تفاعلا إيجابيا بين معاني المفاهيم التّالية:
*  الإرادة،
*  الطّاقة المبذولة والتّضحيات،
*  واقع التّجربة
*  تطوّر في الشّخص
*  تطوّر في الإنسانية
   فلا يثنيني ذلك عن إنجاز خارطة طريق تعبر بها هذه المفاهيم إلى المعنى والدّلالة الّذَيْنِ كانا من قبل مفتقدين إلى القيمة ثمّ إلى الرّهان، هذه الخريطة ترسم لنا مبادئ هذه الطّريق، وهي كما يلي:
سوف نعبر بهذا البيان الاختزالي إلى ما يمكن أن يكون معنى مؤدّيا إلى دلالة، فهل يكون احتياجنا إلى الدّلالة سائقا لنا إلى استباق ذلك بإبداع المعنى؟
إنّنا إزاء أمر يستحقّ استحداث تاريخ ممكن مفارق، ولاشكّ، إلى كلّ أنماط الوعي والسّلوك الّذي كانت تنشره السّلطة المستبدّة وتطيل له في أمل الحياة ولاستمرار مواكب المتمعّشين من المتسلّقين جدرانها بوقاحة الموالاة:
* من أصحاب المصالح الاقتصادية،
*  ومن العصابات المافيوزية،
* وممّن يدّعون المعارضة في واجهة يختفي خلفها الولاء في نمط من أنماط تلميع صورة الاستبداد فتنحرف، لدى الرّأي العامّ المحلّي والإقليمي والدّولي، صورة النّظام الحقيقيّة لتصير لديهم صورة مموّهة تظهر من خلالها صورة نظام للدّيمقراطية والحرّية.
سوف يتّصل بالإرادة تحقّق التّاريخ الممكن والحامــل للدّلالـــة، فلا وجود لمفارقة بين الإرادة والوعي بها بما هي شرط مزدوج يرتبط بها: أوّله الطّاقة المبذولة.
هل أنّ الطّاقة المبذولة في سبيل هذا التّاريخ الممكن هي طاقة تتّفق مع النّمط السّابق الّذي يفترض أن تحشره الطّاقـــة المبذولــــة في خانة الإلغاء والنّفي؟
إنّ فضح الأوهام، فيما أعتقد، لا يتصالح بل لا ينسجم مع القوى الارتكاسيّة، فهو فضح لا يمكن، بالتّالي، أن يكون فضحا تجزيئيّــــا، أي لا يوافق أن يقبل البعض من منظومة الاستبداد ويرفـــض البعض الآخر. إنّ مثل هذا الأمر هو، في حدّ ذاته، انقلاب على جذريّة الثّورة، فلا تكون الطّاقة المبذولة إلاّ وعدا قد يعقبه الإخلاف أو أن تكون معبــــرا مصطنعا تنشئه منظومة الاستبداد نفسها وتسلكه لتقوم، عبره، بإحداث انتقال عماده التّمويه والمخادعة، فيصبح الشّعب مثل أبله يصدّق ما لم ولن يتحقّق، فهي بالتّالي ثورة بيضــــاء ليس لهــــا ما تنتسب إليه من الثّوريّـــة إلاّ ما يشبه القنـــاع الّذي يلبسه المتنكــــّر أو البهلوانيّ.
يقول كلّ من يدرك أنّ الطّاقة، الّتي يجب أن تبذل في مثل هذا الحال، هي:
* ما يخالف نمطيّة التّصنيف بما هي إنجاز متقوّ بجماعات دعم نظام الاستبداد،
* وبما هي إجهاز على جماعات تفكّر استراتيجيّا وتنقل ذلك، داخل منظّمات وأحزاب وجمعيّات، تبذل طاقة تريد أن تغيّر الواقع عبرها.
لئن كان مثل هذا الالتزام يتضمّن مراهنة على عمليّة القلب والتّحوّل، فإنّ الطّاقة المبذولة لن تتحيّز إلى عنف تبذله وتمارسه وهي تريد أن يكون الفعل استئصاليا عنيفا. بهذا المعنى، أربكت حكومة الثّورة واجهتين كانتا كمثل جدارين يريدان إجبارها على تشتيت أوراقها وبعثرتها، فلا تكون طاقتها لتبذل باتّجاه المعنى، وهو عمق تعتمده ثورة لم تكن لتستأنف الواقع بل لتنشئ أو تؤسّس واقعا جديدا له دلالته. أليست الدّلالة هي ما به تكوّن قيادة الثّورة والدّولة الجديدة القيمة وما به تحقّقان الرّهان المنشود؟
إنّ هذين الجدارين لم يكن انتصابهما عشوائيا، وأقصد أنّهما لم ينتصبا ظرفيّا اتّفاقا مع طارئ أفسد استمـــــرار سير ما كان قائمـــا، ولا شكّ أنّ الجدار الأوّل تهيّئ من طرف نظام كان قد انتصب بتاريخ 07 نوفمبر 1987، مرادفة لبرنامج خطّط استراتيجيّا لنتيجتين أزمع على تحقيقهما:
1) أوّلهما: إعاقة نزيف انتشار في عمق الشّعب ببرنامج يستهدف تحقيق إعادة زرع الوعي والسّلوك الإسلامي،
2) وثانيهما: الاستيلاء على سلطة كانت قد حادت، من قبل في العهد البورقيبي الأسبق، عن العمق الإسلامي لتعتنق مبادئ حداثة فرضت بمنهجية استهدفت ما تأصّل عليه الشّعب فلم تكن لتوافق عمقه الحضاري بما راهنت عليه في منطلقاتها وأهدافها.
إنّها مفارقة استعدّ نظام بن علي للتصدّي لها