في العمق

بقلم
د.ناجي حجلاوي
التّربية والدّرس الدّيني
 توطئة:
نعمد في مستوى هذه الدّراسة إلى إثارة ما يتعلّق بتعليم الفكر الدّيني من مسائل وما يُثيره من أسئلة من قبيل هل يتمتّع هذا الفكر بخصوصيّة تميّزه عن ضروب التّفكير الأخرى كالأدبي والعلمي مثلا؟ وهل بإمكان هذا الوعي الدّيني أن ينضبط بحدود الاستراتيجيّات التّربويّة من جهة وبضوابط المناهج التّربويّة الحديثة من جهة أخرى؟ أم أنّه ضرب من التّفكير يتمتّع بإطلاقيّة الحقيقة الإيمانيّة الجانحــــة إلى اللاّتاريخيّة؟ وهل هذا النّوع من التّفكير يعاني من معوّقات ذاتيّة تحول دون تطويره ومواكبة المتغيّرات الثّقافيّة؟
حول التّربية:
وقبل محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة يجدر بنا التّعريج على بعض النّظريّات التّربويّة والوقوف على بعض مرتكزاتها. إنّ التّربية مجال معرفي واسع يتمتّع بحيويّة متأتيّة من رافديْن:
الأوّل نظري تتراكم فيه المقاربات النّظريّة من نفسيّة إلى سلوكيّة إلى جشتلطيّة إلى معرفيّة إلى إنسانيّة إلى نفعيّة إلى أنثروبولوجيّة. والثّاني عملي مخبري تُطبّق فيه النّظريّة داخل أروقة المدرسة وتُعرض على محكّ التّجربة. ومن خلال ذلك يستبين علماء التّربية جدوى النّظريّة وهي تُقاس بمدى قابليّتها للتّطبيق وما يتولّد عنها من نتائج في مستوى التّكوين والنّجاعة.
وليس خافيا أنّ النّظريّات التّربويّة قد تعاقبت مراحلها وتطوّرت وفق تطوّر البُنى العقليّة بمفعول التّقدّم العلمي في معناه الواسع، فأفلاطون، على سبيل المثال، يرى أنّ التّربية استحضار الحقائق الكامنة في التّلميذ إلى وعيه طالما كانت النّفوس ماثلة في عالم المُثُل، وساعتئذ كانت تتمتّع بالمعرفة التّامّة والشّاملة بكلّ الأشياء إلاّ أنّ اتّصالها بالأجساد تسبّب لها في النّسيان(1).  وأمّا «جون جاك روسو» فيعتبر أنّ مهمّة التّربية الأكيدة تكمن في تلقيح الصّغار وحمايتهم ممّا يتسبّب فيه مجتمع الكبار من الشّرّ والفساد فالمدرسة النّاجحة حينئذ هي الّتي تهذّب المجتمع من الشّوائب كمخلّفات الجهل والتّدهور الأخلاقي. وبذلك يتحقّق الكمال الاجتماعي الّذي تهدف إليه الطّبيعة (2). 
إلاّ أنّ التّعامل مع المسألة التّربويّة لم يقتصر على النّظر المجرّد وإنّما تجاوز ذلك لإعداد النّشء كي يصبحوا قادرين على مواجهة الحياة ومصاعبها فأضحت التّربية هي الحياة عيْنها(3)، وهكذا اتّسعت الدّوائر التّربويّة لتتجاوز العناية بتعليم الصّغار في مصطلح «بيداغوجيا» كي تطال تربية الكبار وأطلق عليها «بيير فيرتيرو» مصطلح «اندراغوجيا» (4)، وتبعا لذلك أضحت العمليّة التّعليميّة مندرجة ضمن إستراتيجية أكبر هي إستراتيجية التّربية الّتي تنهض على الحوار والتّفاعل بدلا من التّلقين القائم على تصوّر أنّ المتلقّي مجرّد بنك لإيداع المعلومات، «فالتّعليم الحقّ هوّ القادر على حلّ التّناقض في علاقة المُربّي والمُربّى وهو الّذي يجعلهما مشاركيْن في عمليّة واحدة». (5) فإذا كانت الثّورة في العالم المتخلّف الضّعيف اقتصاديّا واجتماعيّا وهو ما يثير الكثير من اللّبس باعتبار ربطها باللاّنظام والفوضى والتّمرّد على القانون، فإنّ الثّورة المقصودة هي ثورة ثقافيّة تستهدف تحرير الإنسان وتوجيه طاقاته نحو الأفضل من خلال تغيير العالم الّذي يعيش فيه (6). 
وعلى هذه الشّاكلة تجاوزت العمليّة التّربويّة نقل المعارف من جيل إلى جيل لتضطلع بتعليم كيف تكون الحياة عبر تغيير أنماط التّفكير وتحقيق الثّورات المعرفيّة من خلال نقل الخبرات الحيويّة. إنّ تصوّرًا كهذا التّصوّر العليق بالتّربية إنّما يرتكز على تفهّم أشمل وإحاطة أدقّ بكنه العقل البشري الّذي لم يعُد يُنظر إليه على أنّه كينونة ثابتة وإنّما هوّ على حدّ رأي «جون ديوي» عمليّة نموّ مستمرّ (7).
والحاصل أنّ التّربية تتّخذ لها الإنسان موضوعا أساسيّا، وهو ما حدا بأفلاطون إلى اعتبار الكفاية التّربويّة في جمهوريّته هي أساس التّفاضل بين النّاس.(8) وإذ نقتصر في هذا المقام على ذكر ما سلف من النّظريات التّربويّـــة لأنّنا لسنا بمقـــام استعراضها، فإنّنا نشيــر إلى أنّ الدّرس الدّيني رغم هذه الأطر النّظريّة ما زال يتخبّط في العديد من النّواقص.
أزمات الدّرس الدّيني:
ليس خافيا على الدّارس ما يُعانيه الدّرس الدّيني من أزمات لعلّ من أبرزها أنّه ينوس بين نزعتيْن متناقضتيْن هما النّزعة الإيمانيّة والنّزعة العلميّة فلا يجد المتلقّي أجوبة شافية ولا مُواءمة مقنعة بين الحقيقتيْن، بالإضافة إلى أزمة أخرى تتمثّل في أنّ الدّرس الدّيني يُقلّد في مستوى المنهج ولا يبتدع لذاته منهجا يلمّ شتات الأفكار الدّينيّة، وفي أحسن الأحوال يجترّ المناهج التّقليديّة في مقاربة الظّاهرة الدّينيّة فيكتفي بالنّقل والاستقراء والاستنباط، فتغلب حينئذ عليه النّزعة الخطابيّة بدلا من البحثيّة (9)،  وإن ادّعى المتكلّمون أنّ المجاز لديهم قد تحوّل إلى سلاح يرفع التّناقض بين الأدلّة البرهانيّة من جهة والنّصوص المقدّسة من جهة أخرى (10). 
إنّ الدّرس الدّيني الجاري في المقرّرات التّربويّة لم يَقْو على استيعاب طبيعة الوحي وحقائقه إذ لم يتخلّص من وطأة المذهبيّة قديما والإيديولوجيّة حديثا، فتلاشت، حينئذ، الوحدة الفكريّة وأمسك كلّ عالم بجزء من المنهج الكلّي وطرفا من الحقيقة الدّينيّة. يقول حسن حنفي في هذا الصّدد: «الواقع عند مالك، والفكر عند أبي حنيفة، ووحدة الواقع والفكر عند الشّافعي» (11). ومن مظاهر التّأزّم، أيضا، في الفكر الدّيني هو إهماله لمكوّنات الواقع والانكفاء على الأصوات المنبعثة من النّصّ الدّيني.
كما أنّه يتخبّط في الإكثار من الرّوايات والآثار بما تتسبّب فيه من الجمع بين الغثّ والسّمين وما صنّفه عصر التّدوين من تمثّلات وإضافات فبان العجز الكبير على تحويل المعاني إلى تصوّرات ونظريّات إزاء الذّات وإزاء الآخر وإزاء الطّبيعة. ومن أزمات هذا النّمط من التّفكير التّقليدي انحصاره في المثاليّة دون الانخراط في حركة الوجود تأثّرا بعلم الكلام والفلسفة. ولم ينتبه هذا التّفكير إلى اللّغة القرآنيّة ذات الطّبيعة الرّمزيّة والإشاريّة المفتوحة على التّأويل وإنتاج المعاني، فظلّ سجين الألفاظ خوفا من السّقوط في التّأويل غير المحمود والتّحريف.(12) ولم يتخلّص الوعي الدّيني من النّزعة الإيمانيّة المغلقة الّتي تُراعي حقوق الله وتدافع عنها أكثر ممّا تدافع عن حقوق الإنسان في غفلة عن المقاصد الكبرى للشّريعة إنّما هي حفظ الحياة والمال والعرض والعقل وكلّها ذات أبعاد إنسانيّة. إنّ المتأمّل في مظاهر التّأزّم الّتي يتخبّط فيها الدّرس الدّيني يترسّخ لديه أنّه منقطع عن الوجود بمقتضى إلغائه للتّاريخ والارتماء في أحضان الماضي ممّا جعله جافّا مجانبا لمشاغل النّاس والانخراط في مجريات حياتهم اليوميّة، وعليه فقد تسنّى القول أنّ المسألة الدّينيّة رأت نفسها غير معنيّة بالثّورات العلميّة الّتي شهدتها البيداغوجيا وطرائق التّعليم الحديثة ممّا أكّد المراجعة النّقديّة لتحقيق إصلاح شامل.
ضرورة الإصلاح:
يبدو أنّ التّحدّي أمام أصحاب الرّغبة الصّادقة في تحقيق نهضة عليقة بالوعي الدّيني يكمن في إخراج المعاني من النّصّ وإحداث الملاءمة بينها وبين ما يتطلّبه الواقع من إجابات وحلول على قضاياه. إنّ الإصلاح التّربوي يحتاج إلى إرادة سياسيّة صادقة باعتباره خيارا وطنيّا، وحينئذ ينطلق من ترسيخ إطار قانوني وتشريعي يرسم التّوجّهات التّربويّة الكبرى مع ضرورة اعتماد النّقد والتّعديل المستمرّيْن والتّقويم الشّامل لضمان التّنمية والتّقدّم عبر تطوير المناهج، علما بأنّ إصلاحا تربويّا معزولا عن إصلاح البُنى الاجتماعيّة بأسرها عمليّة مهزوزة غير مجدية في كثير من الأحيان وأغلبها، وبهذا الصّدد تجدر الإشارة إلى تجربة الولايات المتّحدة الأمريكيّة الّتي بفضل ما وفّرته من وسائل جيّدة للتّقويم الشّامل الموضوعي استطاعت أن تحدث تغييرا جذريّا في المناهج في السّتّينات، ثمّ ها هي الآن تراجع نظامها التّعليمي مرّة أخرى عن طريق التّقويم الشّامل والموضوعي لتكشف عن مدى التّخلّف والقصور الّذي يعانيه التّعليم هناك.(13) إنّ التّقييمات تعطي صورة تقريبيّة على الجودة في بعض مناحي النّظام التّربوي علما بأنّ التّقييم على ضربين: الأوّل وطني يتعلّق بالتّقييمات الدّاخليّة صلب النّظام التّربوي نفسه وفق إحصائيّات مضبوطة كمّا وكيفا نجاحا أو إخفاقا. والنّوع الثّاني يتعلّق بالاختبارات الدّوليّة كاختبار الرّياضيّات المشهور وموضوعه تقدير مدى التّحصيل في صفّ من الصّفوف فيما يتعلّق بمادّة الرّياضيّات ومدى تمثّل المفاهيم باعتبار السّنّ وضروب الاختبارات في هذا النّوع كثيرة بحسب المواد المختلفة (14). 
وإذا كانت الإرادة السّياسيّة صادقة في تحقيق رهانات الإصلاح التّربوي فإنّ التّفكير الدّيني يضحى ذا قيمة اعتباريّة بحجم القضايا الوطنيّة إذ يصبح همّا من الهموم الثّقافيّة ولاسيّما أنّ الحراك الثّقافي لا يصبح ذا جدوى إلاّ إذا صار مسؤوليّة جماعيّة لا فرديّة خاصّة إذا كانت المهمّة تتمثّل في إعادة إنتاج المعاني من النّصّ وتطويره، ومن هذا المنطلق تتّضح خطوط التّمايز بين الدّين والتّديّن، فالثّــــورة على سبيل المثال يعثر عليها الدّارس في الدّيــن كما أنّ التّحــرّر موجـــود في الدّين وغير موجود في التّراث والنّزعة اليساريّة الرّافضة يتضمّنها الدّين ولا يتضمّنها الفهم القديم للدّيـــن (15)،  لأنّ المتأمّل في المنطوق الدّينـــــي يجده قد فــــــاق الدّين في أصلــــه. كما أنّ اللاّهوت قد تعاظم بمفعول علم الكلام وأنّ التّشريع والطّقوس قد تزايدت بمفعول الفقه ممّا حدا بالمستشار عبد الجــواد ياسيــن إلى القول: «إنّه لا سبيل إلى إدراك الدّين والتّعبير عنه إلاّ عبر وسائل الاجتماع البشريّــــة وفي مقدّمتها اللّغــة» (16). 
إنّ تقدّما في مجال التّربية ينبغي التّوقّف عنده مراعاة للتّكاليف النّاجمة عن التّربية من جهة وإنتاجيّتها من جهة أخرى. وفي هذا الإطار يندرج قول إبراهيم الوسلاتي: «إنّ أوّل ما توجبه عمليّة الإصلاح التّربوي هو رسم الغائيّات الّتي يعهد إليه بإنجازها سواء من جهة الكيف باعتبار ما يستلزمه تكوين الإنسان وتنشئته على ما يراد له من قيم ومعارف ومهارات أو من جهة الكمّ باعتبار ما تسمح به ديمقراطيّة التّعليم من تخطيط بعيد المدى يمكّننا من الوصول تدريجيّا وبإحكام توافق الطّموحات والإمكانات إلى أن يكون جزء وافر من خرّيجي المدرسة من حاملي الشّهادات العلميّة الرّفيعة المستوى»(17). 
والّذي تجدر الإشارة إليه هو أنّ التّربية لا تترعرع ولا تنمو بصفة طبيعيّة إلاّ إذا كانت في إطار من الحريّة لأنّ الحرمان من هذه القيمة يجعل النّشء يتعلّق بحداثة الأشياء ولا يتعلّق بحداثة الفكر(18).  وقد أحدث الحرمان من التمتّع بقيمة الحريّة خلطا كبيرا بين المفاهيم ولاسيّما أنّها ظلّت رهينة ردّ الفعل وانظر إلى اللّخبطة مثلا في تحديد مفهوم العفّة لدى النّساء فهو في حقيقة الأمر إذ يتعلّق بطبيعة التّربية إن كانت جيّدة أو خسيسة ، فإنّ البعض قد حصره في الكشف أو السّتر(19). 
وهكذا توجّب على القائمين على الشّأن التّربوي، بصفة عامّة، وعلى الشّأن الدّيني، بصفة خاصّة، تأصيل القيم التّربويّة وربطها بالمدنيّة الحديثة حتّى تقع مجانبة الاستلاب والتّسطيح فتتعمّق النّزعة الاجتهاديّة والإحساس بالهويّة وتأصيلها في الوجدان عبر استخدام اللّغة الأمّ وتطويرها باعتبارها الحاملة للأبعاد المميّزة للشّخصيّة الأساسيّة دون الانغلاق عليها وانفتاحها على الثّقافة المعاصرة حتّى لا ينغلق التّفكير الدّيني وينعزل عن ضروب المعارف الأخرى ويُفصل عن مسار التّطوّر التّاريخي، تحقيقا للهدف الأسمى المتمثّل في العقل النّيّر والفكر الحرّ والحسّ النّقدي. وإلى هذا الحدّ من التّحليل يظلّ السّؤال مطروحا حول مدى تأثّر الوعي الدّيني بهذه الرّؤى المعرفيّة المستجدّة؟
إنّ أهميّة الفكرة الدّينيّة تنبع من كونها ذات ألق مقدّس يتفرّع إلى جانبيْن الأوّل برهاني يركّز على إعمال النّظر العقلي كقوله تعالى « أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ» (20) وكقوله «فَلْيَنظُر» (21) وكقوله «أَوَ لَمْ يَرَ» (22) وكقوله «أَفَلاَ يُبْصِرُونَ»(23)، والثّاني يخاطب الوجدان والعاطفة ترغيبا وترهيبا، وإذا بهذا الإعداد النّظري المنتج لوعي دينيّ جديد يتّسم برغبة في التّجاوز للّذات نحو إرساء فهم متجدّد للوحي ومعانيه وللعالم وتطوّره. إنّه إعداد منتج للقيم وبان للذّات ومحيط بالواقع ومكوّناته ومدرك للآخر وأبعاده وانظر إلى قولة ربعي بن عامر الّتي اختزلت كلّ هذه المعاني:«الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن ضيق الدّنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، أُرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوَهم إليه (24). وهذا الإعداد النّفسي والعقلي للّذات الحاملة للتّفكير الدّيني ينشدّ إلى الاضطلاع بدور رسالي يعطي للحضارة معنى يتجاوز به مثله الأعلى القائم على استغلال الآخر إلى مثل أعلى أكثر رفعة وإطلاقيّة وهو اللّه الّذي يكدح إليه الإنسان دون توقّف في سعي وجهد دائبيْن لتمثّل صفاته الحسنى(25). وهذه الرّسالة تتّسم بالعالميّة من خلال خصائص خطابها الممتدّ نحو الإنسانيّة بأسرها، وهو ما استوعبه الجيل الأوّل الّذي أحسن فهم الظّاهرة الدّينيّة حين وضعها في مجريات الواقع الّذي يعيش فيه. وقد استطاع أن يوفّق بين قدسيّة التّكليف والاعتراف بحريّة النّاس والمنحى التّحريري والبعد الاجتماعي الاقتصادي والبعد السّياسي وعالميّة التّوجّه في بناء فكري متناسق فذّ.
ولا يذهبنّ الظنّ بالدّارس إلى أنّ استحضار بعض الشّواهد من الجيل الأوّل قفزٌ على التّاريخ وعود على بدء، وإنّما هي لمحات مضيئة من الثّقافة خادمة للمنهج وليست استنساخا لتجربة جرت في زمان غير الزّمان وفي مكان غير المكان. فالفكر يتحدّد بواسطة جميع اللّحظات الّتي مضت وخلّفناها وراءنا على حدّ عبارة إمام عبد الفتاّح إمام (26). 
إنّ المطلوب حينئذ من الدّرس الدّيني هو تخليص الوعي من النّزعة الارتداديّة الماضويّة الّتي تعتبر أنّ الحقيقة كاملة في التّجربة الإسلاميّة الأولى ولا صلاح إلاّ بما صلح به الأوائل لأنّ هذا التّصوّر حرفي شمولي أصولي وهو لا يُعدّ أكثر من وهم لأنّ الأصوليّة تنهض على ادّعاء التّماهي مع الأصل النّقيّ الخارج عن التّاريخ ، في حين أنّ الأصل لا يتكرّر بل يُعاد مختلفا ويُستدعى متنوّعا. وإذا كانت المعاني تتعدّد فإنّ الأصل النّقيّ في صورته الأولى يتشتّت ويتلاشى، ثمّ إنّ هذا الأمر يشي بتصوّر مفاده أنّ جيل الصّحابة جيل فريد فذّ في التّاريخ قد أتوا الحكمة البالغة والمعرفة التّامّة فيما يتعلّق بالوحي ومعانيه. وأنّ المنقذ من الضّلال إنّما يكمن في اتّباعهم واقتفاء آثارهم حذو النّعل بالنّعل. وعلى هذه الشّاكلة أضحى الوعي الدّيني يدور حول ذاته في شكل دائري وأُقصي عن المعارف الأخرى وأُبعد عن مسار التّطوّر التّاريخي (27)، والحال أنّ المناهج قد تطوّرت والعقل البشري قد حقّق فتوحا علميّة لا حدّ لها ولاسيّما أنّ المشاكل ليست هي هي بحكم التّطوّر في الزّمان، ولذلك ستتغيّر الأجوبة والحلول بالضّرورة.
إنّ الّذين يقدّمون الماضي برمتّه على أنّه قيمة مطلقة وحقيقة بديهيّة يُخفي دفاعا عن مصالح ذاتيّة. والحال أنّ الارتماء في أحضان زمان غير الزّمان وواقع غير الواقع يُخفي عجزا فكريّا وتبريرا لعوراته.
وليس خافيا أنّ مهمّة بحجم إعادة البناء لقضايا تناول النّصّ الدّيني وتجديد فهمه في ضوء المكتسبات العلميّة لسانيّا وانثربولوجيّا ليست بالمشروع الهيّن ولا الفردي لأنّ إخراج الحقيقة الدّينيّة من مستواها الإطلاقي إلى نسبيّة فهمها أمر يتطلّب جهودا مكثّفة في مستوى التّربية والتّعليم والإعلام في فضاء يتّسم بالحرّيّة ويسمح بالنّقد والمراجعة ولاسيّما أنّ طبيعة التّفكير الدّيني جدلي بطبيعته لا يرفض التّأثير والتّأثّر والتّفاعل مع الواقع.
ولذلك نلفي النّصّ الدّيني مفعما بالأسئلة الّتي تكاد تفوق ما يقدّمه من أجوبة. وعليه فإنّ للدّرس الدّيني أن يتّسع مجاله ليطال المسائل الحضاريّة بحيث ينفتح على الرّؤى المعرفيّة المستجدّة وبذلك يتسنّى له الإقرار بالنّسبيّة المعرفيّة وتخفّ وطأة التّعصّب الأعمى المعادي لكلّ نزعة تجديديّة.
والّذي تجدر الإشارة إليه هو أنّ المكتشفات المعرفيّة تزيد من التّحدّيّات الّتي تواجه العقل البشري إذ تدفعه إلى إنتاج العلوم وإعادة بنائها وفق المستحدث من المناهج ومن ثمّ يتحوّل النّصّ إلى معنى وتتحوّل الآية إلى فكرة ويتحوّل الكتاب إلى حضارة وبما أنّ السّؤال المركزي منهجي بالأساس فعلى القائمين على هذا الفكر أن يجدّدوا في مستوى المناهج في ضوء العلوم الجديدة، كي يتبلور نظام عقلي تنتظم فيه الوقائع وتُبنى فيه سياقات عامّة للمعرفة. يقول أبو القاسم حاج حمد في هذا المضمار: «لا نتناول القرآن كمجرّد نصوص وأحكام ولكن نتناوله كمنهج محيط بهذه الأحكام ودالّ على خلفيّتها وضابط لمفهوميّتها» (28). 
إنّ الدّارس لا يقف على كبير اختلاف بين الأوضاع التّربويّة من قطر عربيّ إلى آخر لأنّها تنتمي إلى أمّة وحي دوّن في كتاب لا يعتور جمعه وتدوينه شكّ بالقدر الّذي أحاط بالكتب المقدّسة الأخرى كالعهدين القديم والجديد، ولعلّ أبرز ما تميّز به هذا المصحف الإمام أنّه نزل نجوما، وفي ذلك درس بليغ في المستوى المنهجي إذ لا يستقيم بيداغوجيّا الإصداع بالحقيقة مرّة واحدة لمعالجة قضايا نفسيّة اجتماعيّة متدرّجة في الزّمان. وقد اكتنز النّصّ بالمجاز وبالأساليب القادرة على الانفتاح على الصّيرورة التّاريخيّة والمهمّ أنّ هذا النّصّ قد تضمّن شارات مشجّعة على نبذ الماضي والتّقليد إذ الإنسان كائن حيّ تكتنف حياته عوارض كثيرة وهي تحتاج إلى تفسير ومعنى لتغطيتها وتفسيرها، وهذه المعاني إنّما ترد من النّصّ ومن الواقع وعلى هذه الطّريقة ينتقل التّفكير الدّيني من سجون الألفاظ إلى اتّساع الخبرات الفكريّة والشّعوريّة وفضاء التّجارب الحيّة على حدّ اعتبار الأصوليّين في قولهم: «لا يصبح التّفسير مبحثا من مباحث الألفاظ ولا مبحثا من مباحث دلالة الألفاظ بل مبحثـــــا من مباحث العلّة المؤثّـــرة» (29). وإذا بالإشكاليّـة الدّينيّة تضحــى شديدة الالتصاق بالوجود الإنساني لا من الألفاظ فحسب، وبهذا المعنى يصحّ القول: «إنّ الأفكار الدّينيّة صالحة لكلّ زمان وكلّ مكان لأنّها تشتمل على طبيعة الوجود الإنساني بأسره.
إذا كانت الحقائق الإيمانيّة تجنح إلى أن تكون مطلقة فإنّ العقل لا يدركها لذلك لابدّ له من الاستعانة بسلطة أخرى، وهذه السّلطة هي سلطة الكتاب، فلكي يكون برهان العقل يقينيّا فلابدّ له من الاعتماد على السّلطة الّتي تمحو كلّ شكّ قد يتركه العقل في البرهان. إذ العقل يمهّد لبعض الحقائق الإيمانيّة، وهذه الحقائق لا يمكن البرهنة عليها عقليّا ولكن من الممكن البرهنة على إمكانيّة الاعتقاد بها. فالعقل سابق للإيمان تمهيدا وبه لاحق تأييـــدا. وقد اختزل القدّيــــس أوغسطين هذه المعاني بقوله: «اعقل كي تؤمن وآمن كي تعقل». وعمومـــا فإنّ العقل يظلّ ضرورة لما يُدخله على التّفكير الدّيني من التّوعية والتّرشيد، «فيجب علينا أن لا نيأس مـــن أيّ تدخّل للعقـــل في مجال الإيمان، حيث يعصمنا العقل من الأوهام والأخطاء في التّفكير ويذكّرنا بأنّ تجربة الإيمان أمر لا يتعدّى حدود الممكن العقلي، ومن هنا يأتي التّنسيب والتّسليم بتعدّد أنماط المعقوليّة الدّينيّة وتفهُّم أن يكون الآخر مختلفا عنّا» (30). إلاّ أنّ المبالغة في تحكيم العقل في المجالات الغيبيّة يستتبع محاذير كثيرة كقياس الغائب على الشّاهد ومن ثمّ العود إلى نسق المنظومة الفكريّة التّقليديّة.
إنّ المجدّدين في هذا المجال من الثّقافة يطمحون إلى بناء علم جديد بالدّين عبر التّخلّص من وهميْن: الأوّل يتمثّل في إمكانيّة تحصيل معرفة يقينيّة بالغيبيّات، والآخر يتجلّى في بناء معرفة مطابقة لموضوعها (31)، علما بأنّ قابليّة المسألة الإيمانيّة للتّعليم إنّما هي عمليّة عسيرة لأنّها مسألة كلّيّة غير قابلة لا للتّجزئة ولا للتّدريس وإنّما هي أمر يؤخذ بالاقتداء والتّأسّي لتترسّخ الملكة، وعليه فقد وجب أنّ تحفّ بالعمليّة التّعليميّة أطر أخلاقيّة متينة وقيم مبنيّة على أسس إيمانيّة قويمة (32)، لأنّ الفطرة السّليمة تفضي إلى الاستقامة ويزيدها الاقتداء بالمتّصفين بحال الإيمان هداية واستواء. ولا يطمع طامع في إخضاع الفعل الإيماني إلى ميزان العقل لأنّ ذلك من قبيل طلب المحال على حدّ عبارة ابن خلدون يقول: « فالعقل ميزان صحيح فأحكامه يقينيّة لا كذب فيها غير أنّك لا تطمع أن تزن به أمور التّوحيد والآخرة وحقيقة النّبوّة وحقائق الصّفات الإلهيّة وكلّ ما وراء طوره فإنّ ذلك محال، ومثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الذّي يزن به الذّهب فطمع أن يزن به الجبال» (33) .
ولا تفوت ابن خلدون الانتباه إلى الاهتمام بالظّروف الحافّة بالعمليّة التّربويّة حتّى تكون ذات نجاعة وإفادة. وهو ما يتجلّى في اشتراطه اللّين في الأداء التّربوي ومجانبة القسوة. يقول إنّ: «إرهاف الحدّ في التّعليم مضرّ بالمتعلّم سيّما في أصاغر الولد لأنّه من سوء الملكة، ومن كان مربّاه بالعسف والقهر من المتعلّمين .. سطا به القهر وضيّق على النّفس في انبساطها، وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث وهو التّظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلّمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا، وفسدت معاني الإنسانيّة الّتي له من حيث الاجتماع والتّمرّن وهي الحميّة والمدافعة عن نفسه ومنزله وصار عيالا على غيره في ذلك، بل وكسلت النّفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيّتها فارتكس وعاد في أسفل السّافلين؟» (34) 
المراجع
(1) أحمد فؤاد الأهواني، التّربية في الإسلام، القاهرة، دار المعارف، مصر، 1967، ص 195.
(2)  انظر أحمد عليّ الفنيش، أصول التّربية، الدّار العربيّة للكتاب، ليبيا- تونس، ط5، 1985، ص 14.
(3) جورج إم غازدا وريموندجي كوسيني بمشاركة مجوعة من الكتّاب الآخرين، نظريّات التّعلّم، دراسة مقارنة، ج2، تعريب عليّ حسين حجّاج، مراجعة: عطيّة محمود هنّا، سلسلة عالم المعرفة، عدد 108، ص 5.
(4) اللّجنة الدّوليّة للتّربية، تعلّم لتكون، تعريب حنفي بن عيسى،  الجزائر، الشّركة الوطنيّة للنّشر والتّوزيع، 1976، ص ص 175-176.
(5) باولو فرايري، تعليم المقهورين، تعريب يوسف نور عوض، دار القلم، بيروت، ط1، 1980، ص 71.
(6) م.ن، ص 8.
(7) William Boyd , The History of Western Education , A & C Black Publishers Ltd; 10th edition , December, 1972, p 404.
(8) أفلاطون، الجمهوريّة، تعريب حنّا خبّاز، دار القلم، بيروت، ط2، 1980، ص 65 وما بعدها. وص ص 184-185.
(9)  انظر حسن حنفي، التّراث والتّجديد، ص 79.
(10)  نصر حامد أبو زيد، فلسفة التّأويل دراسة في تأويل القرآن عند محي الدّين بن عربي، الدّار البيضاء، ط4، 1998، ص 5.
(11) م.ن، ص 88.
(12) ابن جرير الطّبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، مج6، تحقيق البكري أحمد عبد الرّزاق وخلف محمّد عبد اللّطيف وعبد الحميد محمود مرسي ومحمّد محمّد عادل، إشراف وتقديم عبد الحميد عبد المنعم المدكور، مصر، دار السّلام، ط 2، 2007، ص ص4559-4560.
(13) عبد العزيز عبد الله جلال، اليسر وتخلّف التّنمية، عالم المعرفة، عدد 91، سنة 1985، ص 78.
(14) لطفي الحجلاوي، أيّ معنى للجودة في التّعليم اليوم، مقال ضمن كتاب جماعي بعنوان: الثّورة والمسألة التّربويّة: إشكاليّات وبدائل، منشورات منتدى الفارابي للدّراسات والبدائل، ط1، 2013، صفاقس، ص ص 73-74.
(15) انظر حسن حنفي، التّراث والتّجديد، مكتبة الجديد، تونس، د.ت، ص 24.
(16) يمكن العودة في هذا المجال إلى عبد الجواد ياسين، الدّين والتّديّن، دار التّنوير، بيروت، ط1، 2012، ص 6.
(17) إبراهيم الوسلاتي، الإصلاح التّربوي، أوربيس للطّباعة والنّشر، تونس، ديسمبر 1992، ص 12.
(18) م.ن، ص ص 12-13.
(19) رفاعة رافع الطّهطاوي، تخليص الإبريز في تلخيص باريز، الدّار العربيّة للكتاب، 1991، ص 305.
(20) أعيد هذا الاستعمال في القرآن مرّتيْن. المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، وضعه محمّد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث، القاهرة، ط2، 1988، ص320.
(21) ذُكرت هذه الصّيغة في القرآن مرّتيْن. م.ن، ص 877.
(22) ذُكرت هذه الصّيغة في القرآن عشرين مرّة. م.ن، ص 360.
(23) ذُكرت هذه الصّيغة في القرآن مرّة. م.ن، ص 154.
(24) أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدّمشقي، حقّقه ودقّقه: عليّ شيري، ج7، دار إحياء التّراث العربي، ط1 جديدة ومنقّحة، 1988، ص 46. وذكره مالك بن نبيّ في: دور المسلم ورسالته في الثّلث الأخير من القرن العشرين، المقدّمة، دار الرّاية، تونس، 1984، ص 4.
(25) م.ن، ص.ن.
(26)  إمام عبد الفتّاح إمام، تطوّر الجدل بعد هيجل، الكتاب الأوّل جدل الفكر، دار التّنوير، بيروت، ط1، 1984، ص 77.
(27)  نصر حامد أبو زيد، فلسفة التّأويل دراسة في تأويل القرآن عند محي الدّين بن عربي، الدّار البيضاء، ط4، 1998، ص 12.
(28) أبو القاسم حاج حمد، الحاكميّة، مراجعة وتحقيق محمّد العاني، بيروت-لبنان، دار السّاقي، ط1، 2010، ص 112.
(29) حسن حنفي، قضايا معاصرة في فكرنا المعاصر، ج1، مكتبة الجديد، طبعة أوميقا، تونس، د.ت، ص 181.
(30) مصدّق الجليدي، أنوار من أجل رؤى حداثيّة أصيلة، الدّار المتوسّطيّة للنّشر، تونس، ط1، 2014، ص 194.
(31) انظر مصدّق الجليدي، أنوار من أجل رؤى حداثيّة أصيلة، ص 105.
(32) يمكن العودة في هذا المجال إلى أبي يعرب المرزوقي، شفاء السّائل لتهذيب المسائل، المقالة الأولى، الدّار العربيّة للكتاب تونس ليبيا، 1991، ص 33.
(33) ابن خلدون، المقدّمة، تحقيق عليّ عبد الواحد وافي، القاهرة- مصر، دار النّهضة، ط3 مزيدة ومنقّحة، د.ت، ج3، ص1071.
(34) م.ن، فصل في أنّ الشّدّة على المتعلّمين مضرّة بهم، ص 1253.