بهدوء

بقلم
البحري العرفاوي
لماذا ظل العرب يعانون «الإخفاق الديمقراطي»؟ هل تنجح التجربة التونسية؟
  (1) غربة الديمقراطية 
«الديمقراطية» ليست منتوجا عربيا إسلاميا وليست من مشتقات ثقافتنا، إنما تسربت إلى فضائنا ضمن المشهد الحضاري، الذي اصطحبته حملة نابليون على مصر سنة 1798، ثم اشتغل عليها بعض رجال الإصلاح تباعا مصدومين بغلبة الاستعمار «المتقدم»، مستنتجين بأن من شروط التقدم الاستفادة من «الغالبين» في التنظيمات وفي أسباب القوة، مما لا يصطدم بأسس العقيدة ومقاصد الشريعة... تكلم مصلحون عديدون في الحرية وفي العدالة والمساواة وفي مقارعة الاستبداد.. تحتاج الأفكار دائما أجواءً هادئة لتأملها وترسّخها، ضمن تصور فلسفي متناسق، أو ضمن رؤية سياسية منسجمة... حملات الاستعمار على البلدان العربية لم تسمح لفكر النهضة أن يتماسك، ولم تدع في النفوس هدوءا وأمانا ينجذب للفكرة «المتمدنة». لم يكن الناس بحاجة إلا لأدوات المقاومة... لقد شغل المستعمرون العقل العربي لعقود بالبحث عن مسالك تهريب السلاح وابتداع طرائق المقاومة... الاحتياطات الأمنية في «الجسم المقاوم» تقتضي السرية والحيطة وتشفير الخطاب... هل كان ممكنا أن تتدرب الجماهير العربية يومها على الديمقراطية تحت سقف الاحتلال؟ أم كانت أوطانها مُحتاجة إلى ذوي «الجرأة والإقدام وخُلق الشجاعة والبسالة (و) اقتحام المهالك.. واحتمال المكاره ومقارعة الأهوال (و) بذل الأرواح في سبيل الحق»؟ ـ كما يقول المصلحان جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في نص مشترك بمجلة العروة الوثقى ـ إن جهود الدفاع عن الكيان المهدد خارجيا مقدّمة دائما على جهود «المدنية»... الاستعمار الذي جثم في أقطارنا عقودا هو الذي أجهض مشاريع الإصلاح وشغل الناس عن كل مقدمات التمدن والتنمية، وهو الذي شحن الأنفس بنزوع قتالي دفاعي، وبتوجس من كل منتجات «الإفرنج» المستعمر... هل كان ممكنا أن ينجذب الناس إلى فلسفة الأنوار حين يستمعون إليها مترجمة في فوهات المدافع والدبابات؟
  (2) دولة الاستقلال وأولوية التنمية 
إثر تصفية الاستعمار بفعل حركات التحرر أو بفعل قرارات دولية، استقر الأمر لحكومات وطنية شكلها في الغالب زعماء التحرير، ممن يعرفهم الرأي العام الداخلي والخارجي... تلك الحكومات لم تكن مسكونة بسؤال الحرية، ولا بتصريف الديمقراطية. كانت منشغلة أولا بتأكيد سلطانها، ثم ثانيا بتحقيق تنمية بمعنى الكم المعاشي وليس آليات التنمية... بل إن الحرية ذاتها لم تكن مطلبا شعبيا فالجماهير كانت قانعة بنشوة النصر وفرحة الاستقلال... لم تكن معنية بحراسة فرحتها تلك، فقط بعضٌ من المدربين سياسيا من شركاء معارك التحرير كانت لهم الجرأة على الاختلاف في أصول أو فروع... لم تكن اختلافاتهم كافية لطرح سؤال الديمقراطية وقد مات بعضهم في ظروف لم تسمح المرحلة الانتقالية بكشفها. وربما كان المستعمر المنسحبُ لتوه ـ عسكريا ـ لا يسمحُ بنشأة الأفكار المختلفة الذاهبة إلى مستقبل متعارض مع استراتيجيا العقل الاستعماري. لقد زرع الاستعمار في بيئتنا العربية الإسلامية قبل انسحابه ذاك «المبيد الديمقراطي» كي لا تنشأ ديمقراطية أصيلة تُصعّد بها شعوبُنا إلى الحكم من تثق بانتمائه العميق إلى قضاياها الجوهرية، ومن يُؤتمن على الثروة وعلى الهوية وعلى الالتزام الدائم تجاه قضايا التحرر العادلة... العقل الاستعماري يريد لنا ديمقراطية مُعَلبة، تدرس في الكتب، وتستل كأداة لاجتثاثِ مفرداتٍ من قاموس معتقداتِ الشعوب.
  (3) الديمقراطية «الهامدة»
 لماذا ظل العرب يعانون «الإخفاق الديمقراطي»؟ مع إن دولا أخرى مصنفة مثلها «متخلفة» قد استطاعت التدرب على ممارسة الديمقراطية بنسب مختلفة، مثلما هو الحال في إيران وتركيا وماليزيا؟ لماذا ظلت النخب والأحزاب والجمعيات المدنية تناضل منذ عقود وقدمت تضحيات كبيرة ولم تنته إلى فرض معادلة جديدة في الحكم داخل البلاد العربية؟ قد لا تحتاج المسألة تهويمات فكرية كثيرة. يكفي النظرُ إلى التجربة الديمقراطية التي صعّدتْ حركة المقاومة الإسلامية إلى تصريف شؤون الناس ورشحتها لتشكيل حكومة. نتأمل قبلها مآلات الديمقراطية التي صعّدتْ الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالجزائر، وتجارب أخرى. لقد تأكد أنه غيرُ مسموح في البلاد العربية إلا بديمقراطية لا تنتج غير المنساقين في رؤية «الغالبين» الاستراتيجية للمنطقة العربية خصوصا وللعالم عموما... كل ديمقراطية «خائنة» في نظر أنصار الكيان الصهيوني إذا ما أنجبت حكومة أو برلمانا أو نقابة أو جمعية يفكر المنتَخبون فيها خارج مرجعيات التسوية المائلة... مُردّدُو النشيد الديمقراطي لا تعنيهم الديمقراطية كآليّة في الحكم، إنما تعنيهم مآلاتها ونتائجُها، يحرصون على أن يكون «المولودُ» من شيعتهم، يمدوّنهُ بالمال وبفنون المؤامرات ويُزينون استبدادَهُ ويُخفون فسادهُ ويُعقلنون بدائيته وعشائريتهُ يُسوّقونهُ نموذجا يُغرون باتباعه. العقل الاستعماري يريدها ديمقراطية هامدة لا تنبض بإرادة الناس وأفكارهم وعواطفهم ومبادئهم المنتصرة للحرية ولقضايا أمتهم... يُريدها ديمقراطية جبانة وحمقاء و «قطرية»، بحيث لا يفكر المواطن العربي خارج حدود وطنه، ولا تمتدّ له عاطفة أو عزيمة، ولا حتى دعاءٌ إذا ما استغاثه الواقعون تحت شلالات النار أو نُودي من خلف الجدران الفولاذية تقامُ بإشراف مُروّجي «المُبيد الديمقراطي». هذه المقدمات تنتهي بنا إلى استنتاج منطقي مفادهُ ألا أمل في ديمقراطية عربية في ظل واقع عربي مرتهن سياسيا واقتصاديا إلى جهات تعتز بدعمها للكيان الصهيوني، وتتقربُ إليه بمواقف مجاملة ومنحازة، تتعامى على كل جرائمه، وتؤوّلُ القوانين الدولية ونصوص التسويات بما يخدمُ رغبته الدائمة في التوسع وفي القتل. لقد تبين من خلال استحالة المصالحة بين خيارين فلسطينيين متناقضين أن الأمر لا يتعلق بآلية انتخاب، بقدر ما يتعلق بآلية تفكير، وبرؤية وجودية وعقدية، وبموازين قوى عالمية، وباصطفاف دولي، وبأسرار يُخبّئها التاريخ للأجيال القادمة. لماذا لا تكتفي الأقلية الفلسطينية بممارسة النقد ولعب دور المعارضة وترويج أفكار «التسوية» بطرائق تكفلها الديمقراطية، دون اللجوء إلى أساليب تستعجل إنهاء سلطة «حماس»، مستقوية بمؤامرات إقليمية ودولية؟. هذا الانقلابُ الإقليمي والدولي على ديمقراطية أنتجت «حماس» هو الذي يُغري أنظمة عربية استبدادية بالتمادي في ممارسة القهر لمعارضيها، وفي التنكيل بخصومها من ذوي الامتداد العروبي والإسلامي، أنصار القضية الفلسطينية وأنصار الفكرة المقاومة... ستظل كل تجارب الديمقراطية التي تشرف عليها أنظمة عربية قائمة، تجاربَ قاصرة على الاتساع للتعبيرات الحقيقية على قضايا الجماهير وأشواقها... إما أن تكون «ديمقراطية استكشافية» للتفريز الإيديولوجي والتصنيف الأمني، وإما أن تكون «ديمقراطية متسلية» تتلاعبُ بأحزاب مصنعة في ورشات تقليدية، يقعُ تحريكها في اتجاهات مختلفة، ويُتحكم في أحجامها وأصواتها وسقوف مطالبها... أنظمة لا تتهمُ كلها في نواياها، إنما تتهمُ جميعا في عزائمها وفي سوء تقديرها حين لا تستجمعُ عزائمها، ولا تعلن انحيازها لقرارات شعوبها وقضاياها الحقيقية، وحين ترتخي لإملاءات خارجية كثيرا ما تكون مؤذية داخليا.
 (4)  الديمقراطية «الماكرة» 
العقل الاستعماري لا يكف عن المكابرة وعن اعتبار المستعمرات القديمة تحت وصايته، لا يقبل بالتعامل معها نديّا، ولا يغفل عن متابعة تحوّلاتها الدّاخلية واتجاهاتها الخارجيّة... وهو إذا استعصت عليه دولة، وأبدت قدرا من الاستقلالية في مواقفها الداخلية والخارجية بما لا ينسجم مع إملاءاته، فإنه لا يتردد في الكيد لها، والتحريض عليها، وأول مكيدة تبدأ باتهامها بالقصور الديمقراطي وتحريض الداخل، وتجييش الخارج، وفتح آفاق وهمية للمتمرّدين.. نرى الأمثلة حاليا مع السودان وسوريا وإيران.. ومع عراق صدام ومصر عبد الناصر وليبيا سابقا. وهنا يُفترضُ انتباهُنا إلى مكر تلك الدعوات، فلا ننساق إليها، حتى وإن كان ظاهر القول متطابقا مع حقيقة الظواهر. إن الديمقراطيات المصنعة خارجيا، والمكيفة محليا، والموجهة بمآلات خفية، لا يُمكن أن تتسع لطموحاتنا وأهدافنا، ولا حتى لأفكارنا وعواطفنا، ولا يُمكن أن يقبل بها وطنيّ عاقلٌ، حتى من باب النكاية في أنظمة حكم تُقدّرُ مستبدة وفاسدة. الديمقراطيات الماكرة مداخلُ للفوضى ولإعادة عجن الملامح السياسية للدول التي تبدي بعض استعصاء أمام الإملاءات الخارجية... فوضى قد تنتهي إلى أذى عمومي عنيف، وقد تنتهي إلى أذى ناعمٍ يُصعّدُ ـ ديمقراطيا ـ نظاما مُعدّا في مختبراتٍ أجنبية لا يُخشى منهُ عُقوقا نحوها.
  (5) ديمقراطية التحرر
 إذا كان الإخفاق الديمقراطي في بلادنا العربية مرتبطا بجذور استعمارية، فإن الرّهان الدّيمقراطي لن يتحقق إلا بخوض معركة التحرر بكل آلياتها، وفي كل مساحة ترتبط بها هويتنا ومعاني وجودنا... على الأحزاب العربية المعارضة كما على النخب وكل مكونات المجتمعات الوطنية أن يسعوا جادين إلى تحرير «أنظمة الحكم»، لا بما هي أشخاصٌ أو أحزابٌ، وإنما بما هي أجهزة لاتخاذ القرارات وتصريف الشأن العام والتكلّم باسم الأوطان... إن النظام العربي أشبهُ ما يكون بـ «المُحْتجز» ضمن ماكينة دولية مبرمجة لخدمة استراتيجيات «الكبار»، لا يمكنه التحرك إلا بمقدار، وسيظل يتحملُ اتهامات الداخل، وإحراجات الخارج وأوامره، دون أن يتغير باتجاه قرار حرّ هو عاجز عليه... سيظل دُعاة الديمقراطية من السياسيين العرب ومن النخبة يُراوحون بين توسلهم من أنظمتهم لا تقدرُ على شيء، وبين التشكي إلى الجهات الأجنبية يستقوون بها، لا تفاوضهم إلا على ديمقراطية «عاقر»، لا تنجبُ أنصار المقاومين، ولا تغذي ثقافة المقاومة: مقاومة التوحش الرأسمالي والاستعمار المسرّب في مشاريع الاستثمار والاحتلال الدّموي لأرضنا التاريخيّة. لكم قدّمت شعوبنا العربية من تضحيات على امتداد عقود... عشرات الآلاف ممن سجنوا ـ قرون من سنوات السّجن ـ وممن قضوا وممن فقدوا عقولهم وذاكرتهم وممن تركوا ديارهم وممن اختلطت عليه السبل، لا يدري أهو مطلوب لبلده أم مطلوب فيه... ولم تتحقق ديمقراطية لا أصيلة ولا مُترجمة... ديمقراطية لا يُنتظر منها فقط تحقيقُ تداول على السلطة، وإنما أساسا يُنتظرُ منها تحقيقُ المواطنة الحقيقية للأفراد، حين يجدون في أنفسهم شعورا عميقا بالانتماء لوطن يتسعُ لأفكارهم ولأشواقهم ولرغبتهم في العيش وفي الحياة ... وطن يشتركون فيه مع شركاء الانتماء في كل الحقوق والواجبات، ويتساوون أمام القانون وفي شوارع المدن... لا يكفي معرفة ما نريد.. بل يجب معرفة الطريق إليه.
  (6) التحرر الذاتي 
ليس مجديا الإكتفاءُ بإلقاء مسؤولية الإخفاق الديمقراطي على أطراف خارجية أو على الأنظمة المستبدة،فللأزمات دائما جذورها في الذوات بما هي آليات تفكير وأجهزة نفسية، لنا أن نتأمل طبيعة العلاقات والتعاملات بين أفراد المجتمع داخل الأسر والمؤسسات المدنية وحتى داخل المؤسسات التربوية وداخل الأحزاب المصنفة معارضة ... نتأمل تعامل المتعلمين مع الأقل علما وتعامل المسؤول الإداري مع منظوريه وتعامل ربّ الأسرة مع زوجته وأبنائه وبناته وتعامل الشيخ مع مريديه وتعامل الصّغار مع الكبار وتعامل ذوي المال مع الأقل مالا ...لا يمكن إغفال آثار طبيعة النظام الإقتصادي في تحديد العلاقات وأساليب التعامل داخل المجتمع، هل تمثل مجتمعات الثراء الفاحش قُبالة الفقر المدقع منبتا خصبا لمشروع ديمقراطي أو ثقافة التنوع والتعدد والإختلاف؟ هل يمكن الحديث عن ديمقراطية أو عن انتخابات في ظل الأمية السياسية وفي ظل الفقر المعرفي؟ هل يُعتد بانتخابات تنجزها طوابير العامة من الذين لا يُجيدون قراءة البيانات السياسية والبرامج الإنتخابية بل ولا يَعون أصلا معنى «الإنتخاب» بما هو عملية واعية حرة في تفريز النخبة بما هي أجود ما يكون من بين المترشحين، وحتى نستطيع فرز النخبة من الكل يجب معرفة الكل أي كل الأحزاب لا بما هي أفراد وأسماءٌ و إنما بما هي برامج اقتصادية وثقافية وسياسية وتعليمية. كثيرا ما تنتهي «انتخابات» إلى تشريع الإستبداد باسم العامة حين تتجه الجماهير مدفوعة بحالات خوف وطمع وجهل نحو صناديق تُحملها أوهامها. إن الديمقراطية لا تحتاج فقط ثقافة وإنما تحتاج بالأساس جرأة على الجهر بالرأي وعلى تحمل المسؤولية الفكرية والأدبية، تحتاج شجاعة ووضوحا واستعدادا لتحمل تبعات الجهر بالإختلاف وبالنقد، تحتاج صدقية ومبدئية بحيث نقول ما نرى وما نعتقد وبحيث نتحرر من «شهوة السلطة» سواء بالتودد للسلطة القائمة ـ طمعا في منافع آنية ـ أو بالطمع في الوصول إلى السلطة حتى وإن كان باستجلاب العامة بخطاب شعبوي مستثمر في عادات أو معتقدات أو عواطف مشتركة وذاك من أخطر ما يتهدّد البناء الديمقراطي، وهنا نسأل إن كان للحاجة أثرها على الإرادة والشجاعة والوضوح والمبدئية ؟ من يملك قوتك يملك أن يقودك ومن يُطعمك يُلجمك..الذين يُمسكون بأرزاق الناس يُمسكون بأعناقهم أيضا حين يُهددونهم بحرق رغيفهم فيُرغمونهم على الصمت أو على النفاق، ولا فرق بين أن تكون السلطة هي الماسكة بأرزاق الناس وبين أن يكون الرأس مال المحلي «الخاص» هو المتحكم بأقوات من لا رأسمال لديهم فرأس المال سلطة بذاته بإمكانه صنع رأي عام مناصر أو مُعادٍ وبإمكانه ـ وإلى حد كبير ـ التصرفُ في إرادة الكثير من ذوي الحاجة ومن ذوي الإحتياجات الذهنية ومن فاقدي السند المعرفي.. قد يكون رأس مال الدولة أخف وطأة من رأس مال طبقات الإستثراء الهمجي إذ يمكن خوض صراع سياسي بآليات سياسية وإيديولوجية مع رأس مال الدولة في حين أن رأس المال المشوه المفتقر حتى للحد الأدنى من فلسفة الرأسمالية لا يخوض إلا عمليات استنزاف شامل لكل من يقع بين فكيه مدفوعا بنزعة صادية يلتذّ بمشاهد المذلة والضنك والشقاء مما تعانيه الطبقة الكسيحة. المنشغلون بتدبير أمور معاشهم لا ينشغلون بالتدبير السياسي ولا تعنيهم «ديمقراطية» ولا يعنيهم من يحكم ولا بما يحكم قدر ما يعنيهم من يعالج مشاكلهم المعيشية ومن يخفف عنهم من أثقال رحلة العمر البيولوجي. يبدو أن لوثة الإستبداد كامنة في بنية الشخصية العربية منذ انهارت دولتهم وتعرضوا إلى أذى خارجي حين سلبهم المستعمر حريتهم وكسر انفسهم، والمغلوب يحتاج دائما من هو أضعف منه يمارس عليه الغلبة كي يستعيد توازنه النفسي «نحتاج أن نظلم أحيانا كي نستعيد توازننا» ـ يقول علم النفس ـ. الأزواج الذين يتعرضون في مواطن عملهم إلى اعتداءات «أعرافهم» هم الأكثر ظالمية في بيوتهم لمن هم تحت قوامتهم،يسكت رجال كثيرون يُطأطئون رؤوسهم أمام «أعراف» تحكمهم عُقد استعلاء ثم يعودون إلى بيوتهم يريدون استعادة «رجولتهم» المهدورة وكذا يفعل موظفون وسياسيون ممن يمارس عليهم القهرُ. « علينا أحيانا توجيه أصابع الإتهام نحو أنفسنا» ـ يقول المثل الفرنسي ـ و«كما تكونون يُولّ عليكم» يقول الرسول الكريم. إن الإستبداد بما هو سلب لإرادة الآخرين إنما هو فعل بشري وليس كارثة طبيعية غير مقدور عليها وليس قدرا محتوما خارج الإرادة البشرية ...المستبدون بشر كغيرهم لديهم دوافع التسلط على غيرهم من البشر ممن لديهم قابلية الخضوع والإنقياد. يبدو أن أزمة الديمقراطية العربية كامنة في الذات المأزومة، ذات في مجملها تتهيب الإختلاف والنقد وتميل إلى المجاملة واللامبالاة وتنساق في الإنقياد الجماعي وتخاتل لتحصيل مرضاة ذي مال وسلطان وتبخل بأثمان الفكرة الحرة والرأي الشجاع ـ للتحرر ثمنه ـ وهي في ذات الوقت ذات متوجسة/نافرة/مستعلية /نرجسية /فخورة ومتحفزة لاقتناص لحظات الغلبة على من هم دونها قدرة ومكانة. الديمقراطية ليست مجرد آلية تفريز سياسي بقدر ما هي روحانية منفتحة على الآخرين في آرائهم وفي حقوقهم الطبيعية في التعبير والممارسة والإختلاف والتشكل سياسيا وسلوكيا وفنيا واجتماعيا وتعبديا ضمن أغلبية أو ضمن أقلية فالديمقراطية ليست فقط حكم الأغلبية إنما هي ضمانة حقوق الأقلية بالأساس حتى لا تكون استبدادا باسم العامة.
 (7) هل تنجح التجربة التونسية؟
 الإستبداد مُولِّدٌ لأشواق التحرر... 
التونسيون الذين افتقدوا حريتهم طيلة عقود وعانوا الإقصاء والإسكات طويلا ودفعوا أثمانا موجعة بسبب أفكارهم واعتقاداتهم فاجأتهم سرعة ارتخاء قبضة الإستبداد عشية 14 جانفي 2011 فاندفعوا مجتمعين على اختلاف فئاتهم وأعمارهم وأفكارهم في أبهى صورة يحرسون شوارعهم وبيوتهم ويتنفسون ملء صدورهم ويمشون مرفوعيّ الهامة مستقيميّ القامة تحدوهم عزائم كبرى على تفكيك ترسانة القيود. انتخابات 23 أكتوبر 2011 شهد لها السياسيون والمراقبون في الداخل والخارج بكونها كانت نزيهة وشفافة وفق المعايير الدولية للديمقراطية...الفائزون نالوا ثقة التونسيين دون أن يكونوا قد تعرضوا إلى عملية اختبار في الكفاءة ودون أن يكونوا قد أخذوا ضمانات بكونهم لن يتعرضوا إلى عمليات تعطيل...لم تكن التجربة سهلة ولم تتحقق انتظارات التونسيين... ولا يعني العامةَ إن كان المنتخبون ضحايا أم كانوا فاشلين...خرج السيد حمادي الجبالي من الحكم بعد فاجعة اغتيال شكري بلعيد ثم سقط خيار الشرعية الإنتخابية بعد اغتيال محمد البراهمي في ظل حكومة السيد علي لعريض لننتقل إلى الشرعية التوافقية ولِيُدشّن وبصفة طارئة مختبرٌ لصياغة القرارات والتوافقات إنه «الرباعي الراعي للحوار» تتعهد أمامه الحكومة الشرعية بالتخلّي على الحكم وفق مسارات متفق عليها استعدادا لانتخابات جديدة. تشكّلت الهيئة المستقلة للإنتخابات وحصل التوافق على فصول الدستور واستقبلت البلاد حكومة مهدي جمعة «المستقلة التوافقية»خلفا لحكومة علي لعريض المستقيلة . لقد استطاع التونسيون ـ رغم ما مروا به من فوضى وعنف وعراك ـ أن يُجنبوا البلاد أخطر السيناريوهات دمويّة وانقلابيّة وحروبا أهليّة...ليس مهما من انتزع الصاعق ومنع الحريق، المهم أنه تونسيّ، والمهم أن بلادنا تتنفس الصّعداء بعد سنوات من التوتر والتوجّس والضّغط...التونسيّون سيقرؤون المشهد جيّدا وسَيُرتبون السياسيين بمقدار تضحياتهم وصدقيتهم وستكون النتائج بالتأكيد في الإنتخابات القادمة. ولأن السّياسة مكر دائم ـ وقليل هم الصّادقون ـ فإنه لا يمكن الإطمئنان إلى كوننا قد تجاوزنا كل المخاطر أو تخطينا بسلام كل الفِخاخ... من مكر مرة يمكر دائما ومن تآمر وفشل يزداد حقدا وكراهية ...وكم عريسًا قُتل ليلة زفافه ...المشهد ليس صناعة تونسية خالصة إنما ثمّة أكثر من يدٍ تتحرك في نفس الإناء.. نحتاج أكثر من راشد...نحتاج رشداء.