قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
أسئلة في الثورة
 مرّت ثلاث سنوات على رحيل الطغاة عن هذه الديار المباركة ليتنفس الناس نسيم الحريّة الذي ظلّ أغلبهم لا يرى له هبوبا وقد قضّى الناس عمرا يحلمون فيه بالحرية دون جدوى. ومنهم من كان يعتقد أن نسائم الحرية لا تهب على العرب، فهم من ظالم إلى ظالم ومن مستبد الى آخر ولا يغيب عن الذاكرة شواهد كثيرة لا تحصى عن بؤس الحال الذي كنّا فيه نخبة ومواطنين أكانت تلك الشواهد عامة عاشهـــا الجميــع أو كانت شواهد خاصّة  حصلت لواحد ولم تحصل للآخر بنفس التفاصيل ولكن الهم والوقع واحد. ألم نكن نخاف مثـــلا من بداية كل سنة لما علق في ذاكرتنا من أحداث وقعت فى جانفــي؟ من منا لم يكن يتهيب من ذكر كلمة الحريـــة أو الديموقراطيـــة أو التداول السلمي على السّلطة أو كلمة الإنتخابات الحرّة النزيهة ؟ ألم نكن نخشى من توريث الحكم لشخص ما يختاره أصحاب المصلحة والقوة، فيكون ذلك إيذانا بدخولنا عهدا جديدا من الاستبداد وحقبة أخرى من القهر التى لا يعلم إلا الله وحده متى تنتهي وكيف تنتهي وما الثمن الذي كنا سندفعه من دون حول ولا قوة؟
إن الذي يروم الحديث عن الثورة من أي زاوية شاء عليه أن يبحث فى مكنونها كحدث كاسح جاء ليقلب الأوضاع فى البلد، وأن لا يغفل مدى اشتياق الناس للحريّة ولا مدى حرصهم الجماعي على إفتكاك الوطن من كل مغتصبيه دفعة واحدة واسترداد كرامته التي هي كرامة الجميع ولكن عليه فى الآن نفسه أن ينظر بدقّة إلى كل الأسباب التى تراكمت بفعل الزمن حتى أدّت إلي الإنفجار الذى يبدو فى ظاهره فجئيّا ولكنه فى العمق كان شيئا متوقعا حدوثه وعنصر المفاجأة لم يكن له أثر إلا فى التوقيت. 
إن الاستبداد لا ينشأ بين يوم وليلة وإنما هو فعل متواصل وحلقات مسترسلة الفاعل فيها واحد هو المستبد، والأدوات واحدة لا تختلف من مستبد إلى آخر، القمع والإرهاب والقتل والأخذ بالشبهة والبطش بالمعارضين أفراد وجماعات وإفتكاك الحقوق من أصحابها ونشر الخوف وجعله السبيل الوحيد للنجاة كل ذلك من أدوات السيطرة التى يستعملها المستبد بما فى وسعه من إفراط دون شفقة حتى يتسنى له أن يحكم قبضته على الجميع دون استثناء. ولا مفرّ لأي شعب يروم الانعتاق من براثن الطغيان إلا المقاومة الجماعية وكسر حاجز الخوف وهذا بالضبط ما حدث إبّان الثورة، فقد اشترك التونسيون جميعا في فعلٍ مقاومٍ ضاربين عرض الحائط بكل الخوف الذى راكموه على مدى يزيد عن الخمسين عاما وخرجوا فى هبّة واحدة ليجد الاستبداد نفسه أمام مأزق حقيقي وقد هوى سلطان الخوف الذى كان يهيمن به على الناس بعد أن اجتمعت كلمتهم عليه، وهكذا كان ليلفظه البلد كما تلفظ النوى بعد ثورة هي بحق أم الثورات فى روعتها وسرعتها وما رافقها من توحّد وتآزر.
لفظ البلد طغاته الذين كانوا يسومونه سوء العذاب ورحلوا مع كبيرهم الذى كان يحميهم، ووجد البلد نفسه فجأة فى مواجهة سؤال واحد: من يحكم الآن ؟ كان هذا السؤال المفاجئ مدخلا لدخول النخبة على الخط بكل أطيافها، فقهاء الدساتير وعلماء الاجتماع والسياسيون والاعلاميون والنقابيّون، وهكذا كل يدّعي هوى ليلى حتى كان من الأمر ما كان وصولا إلى ما نحن فيه الآن من استعدادات حثيثة لنقل السلطة إلي حكومة يراها البعض مؤقتة ويريدها آخرون دائمة بصلاحيات مطلقة لم تكن لغيرها، وبعض النخبة لا يرى فائدة فى الديمقراطية أصلا ما دامت لا توصله الى السلطان، ولا يجد فيها نفعًا ما دامت تتيح للإسلاميين استنشاق هواء الحرية أو تعطى الفرصة للرّعاع من الناس لكى يحكموا على النخبة المستنيرة أو لها من خلال صناديق الاقتراع. 
لا مفر حينئذ من طرح السؤال الذى يتهرب الكثيرون من طرحه  هل خانت النخبة الثورة ؟ وهو فى الحقيقة سؤال تمهيدي لا أكثر ولا أقل إذ أنّ النخبة لم تقم بخيانة الثورة فقط وإنما سرقتها من أصحابها الشرعيين وحولت وجهتها بل تكاد الآن أن تبيعها لمن يشتري من مناوئيها نكاية من بعض النخبة فى بعضها الآخر.
إن تشويه أي فعل مهما كان رائعا لهو من السهولة بمكان إذا لم تكن لدى من قاموا به إرادة فاعلة فى حمايته وتحصينه. ولأننا إزاء ثورة أحدثت هزّة فى العالم كله، فقد كان يتوجّب على النخبة التى انتظرت هذه الثورة طويلا أن تحميها من أيدي العابثين وأن تعضّ عليها بالنواجذ لا أن تتركها نهبا لأعدائها خصوصا بعد أن ذاقت حلاوة الحرية والكرامة وتسنّى لها أن تشارك فى تقرير مصير الوطن بعد قرون من الإبعاد والاستبداد. ولم نكن إزاء نخبة واعية بحقيقة اللحظة التاريخية الراهنة وإنما كنا إزاء نخبة مريضة مسكونة بهموم الماضي وصراعاته أكثر، متشبثة بالحليف الخارجي عدوّ الوطن بالأمس أكثر من تشبثها بالوطن نفسه، لا ترى لنفسها قدرة على التأثير إلا من خلال ايديولوجيا جامدة تدفع الوطن إلى مزيد التناحر والمواطنين الى اليأس من الثورة ومن كل ما يمكن أن تتيحه لهم من نماء وازدهار.
لسنا بالطبع فى وارد إدانة النخبة كلها ولا حياة لوطن بدون نخبة من مواطنيه تكون عونا له فى مجابهة مشكلاته والرقي بشأنه ولكننا سئمنا كما غيرنا من صراع متهافت حول مسائل ليست في الصميم من هموم الوطن كما سئمنا من بعض النخبة التى لا تحمل لهذا الوطن أي ولاء وإنما ولاؤها لما تحمله من أفكار تتلبس بها وتريد فرضها على الجميع فى ادعاء زائف بأنها لا تريد إلا الخير للوطن وإن يكن رغم أنفه إننا جميعا فى مواجهة الفشل أو هكذا أفترض.