ثلاثة أسئلة إلى النخبة (15)

بقلم
محمد بن جماعة
ثلاثة أسئلة إلى النخبة (15)
 1
قراءتكم لما حدث في تونس 
بين 17 ديسمبر 2010 و 14 جانفي 2011؟
ربما تكون الثورة التونسية الوحيدة من بين ثورات الربيع العربي التي اختلف في تحديد تاريخها بدقة، حيث يؤرخها البعض بانطلاق شرارتها يوم 17 ديسمبر، فيما يؤرخها آخرون بتاريخ انهيار النظام يوم 14 جانفي..
في تقديري، ما حدث بين التاريخين كان تعبيرا عن زلزال شعبي عفوي، لم يفاجئ نظام الحكم فقط، بل فاجأ أيضا قوى المعارضة، وفاجأ الشعب بأسره، دون أن يكون وليد اللحظة فقط، إذ لا يمكن تصور حدوث فعل ثوري في أي مجتمع من المجتمعات دون أن تسبقه مسيرة طويلة من عوامل القهر والتسلط والاستبداد، ودون أن يسبقه تراكم نضالي شعبي.. ولكن عددا من العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية استفزت الرأي العام وملأت الناس بالسخط والغضب، بحيث ما إن انطلقت الشرارة من سيدي بوزيد حتى انتشر في مختلف المدن والجهات.. ولعل أمورا أربعة جديدة حصلت بين التاريخيـــن هي التي أدت لتحويل الاحتجاج إلى ثورة فارقة في تاريخ تونس، تمثلت في انكسار حاجز الخوف لدى حشود شعبية هائلة، وسرعة العدوى والتضامن عن طريق وسائــــل التواصـــل الاجتماعـــي، ورفع شعارات اجتماعية متعلقة بالكرامة والحرية وحّدت الشارع التونسي وتعالت عن الخطابات الإيديولوجية المقسِّمة، وغياب النخب السياسيـــة وعدم تصدرها للشارع مما أتاح الفرصة للشارع الثوري أن يجد نفسه سيّد نفسه وغير مقيد بأي سقف أدنى من سقف إسقاط النظام ورحيل بن علي.
2
هل ترون أن النخبة التونسية قد نجحت 
في فهم مستحقات المرحلة وحققت بعضا منها؟ 
وهل نجحت في وضع البلاد 
على السكّة الصحيحة للإنتقال الديمقراطي؟
أعتقــد أن النخبــة التونسيـــة لم تكـــن مهيئـــة نفسيــــا ولا فكريــــا للتعاطي مـــع الوضـــع الـــذي أنتجتــــه الثـــورة.. واحتـــاج الأمر لأكثـــر من سنتيـــن قبــــل أن تدرك مستحقـــات مرحلة الانتقال الديمقراطـــي بعد الثـــورة.. فطوال سنتين بعد الثورة، سيطرت التجاذبـــات السياسيــــة والإيديولوجيــــة على المشهـــــد السياسي العــــام، وعجزت النخبة عن إدارة حــــوار وطنــــي حــــول المرحلــــة الانتقاليـــة، والقطــع مع الثقافة السياسيــــة الموروثــــة والقائمـــــة على القطيعــــة والصـــراع، وفكّ التداخــــل في الأدوار بين السياسي والنقابي والحقوقي، وتكريس ثقافـــة جديــــدة قائمـــــة على الحوار واحترام الشرعية وتحديـــد الأدوار والوظائف لكل الفاعلين في المجال العام بما يناسب الوضع الجديد، ويؤمّن عملية الانتقال الديمقراطي.
وقــــد أدى عجــــز النخبـــة إلى زعزعــــة ثقـــــة الرأي العام وإحباطه في ظل غياب المحاسبــــة ورؤيـــة عــــدد مـــن رموز حقبـــة الفســـاد والاستبداد الماضيـــة يعودون إلى تصدر المشهد السياسي ومنازعة الشرعيـــة.. ووصل الإحبـــاط الشعبــــي إلى درجـــة انتشار فكرة أنه لم تحصل ثورة أصلا في تونس ، وترديدها من قبل جانب كبير من الفاعليــــن الاجتماعييــــن العادييــن كشكـــل من أشكال التعبير عن التذمر من وطأة واقع اقتصادي واجتماعي وأمني ما انفك يتأزم يوما بعد يوم.
ولكن، يبــدو أن زلـــزال الانقـــلاب في مصر ســــاهم بحجـــــم كبير في وضع النخبــــة التونسيـــة أمام مسؤوليتها التاريخيـــة، وجعلها تــــدرك خطـــورة خياراتها السابقـــة.. بحيث يمكن القـــول أن النخبــــة تمكنت في الأشهر الستة الأخيـــرة مـــن تحقيــــق عدد مـــن النجاحــــات التي سيكون من الممكن البناء عليها لتحقيق مستحقات الثورة..
3
أي مستقبل ينتظر تونس؟ 
وكيف السبيل إلى تجنّب الفشل؟
على عكس الثورات العنيفة التي عادة ما تنجح بسهولة في معركة الهدم، لتستغرق بعد ذلك عقـــودا مــــن الزمن في البنـــــاء، فإن الثورة المدنيــــة في تونس لم تستكمل بعد عملية الهدم اللازمة لمنظومة الفساد والاستبداد، رغم مرور 3 سنوات كاملة، مما جعلها تبدو ضعيفة ومهددة بمخاطر ثورة مضادة.. ولكن أعتقد أن تونس تجاوزت مرحلة الخطر الأقصى الذي هددها نتيجة مخطط الاغتيالات ومحاولات استيراد نموذج الانقلاب المصري.. وأننا بصدد مرحلة جديدة شاقة وطويلة وربما انتكاسات أخرى إلى حين موعد الانتخابات القادمة. وهذا يستوجب من النخبة التونسية (أحزابا ونخبة وإعلاما ومجتمعا مدنيا ومؤسسة دينية) جهدا أكبر مما مضى في جوانب مختلفة:
- فالأحزاب السياسية مطالبة بمغادرة أسباب تخلفها الذاتي وقصور قياداتها وقواعدها عن الارتفاع لمستوى متطلبات المرحلة وتكريس الديموقراطية في هياكلها فكرا وممارسة.
- والنخبة الفكرية والعلمية مطالبة بتفعيل حراك محتمعي حقيقي يؤدي لمزيد تكريس قيمة التنوع كثروة حقيقية تمكّن المجتمع من التطور والتأقلم وتجاوز الأزمات، وأن لا بديل عن اعتماد الحرية والمعرفة أساسًا للتنمية وحل المشاكل الاقتصادية ورفع مستوى المعيشة والمصالحة بين الأنظمة السياسية وشعوبها.
- والإعلام مطالب بالابتعاد عن التوظيف والتضليل والدعاية السياسية، والالتزام أكثر بأخلاقيات المهنة، وممارسة دوره الحقيقي في تنوير الرأي العام وتفعيل الحوار الاجتماعي.
- والمجتمع المدني مطالب أيضا بالتحرر من الاصطفاف السياسي والعمل أكثر في اتجاه رفع الوعي الديموقراطي العام، وممارسة دور الرقابة المواطنية، ومد الجسور بين سلطات الدولة والمواطن، ونشر ثقافة المواطنة..
- والمؤسسة الدينية مطالبة بصياغة خطاب ديني معتدل يوفر حلولا فقهية وتربوية لما فجّره وضع ما بعد الثورة من تجاذب حاد حول الهوية، ومن استقطاب إسلامي-علماني.