ثلاثة أسئلة إلى النخبة (11)

بقلم
ابراهيم بلكيلاني
ثلاثة أسئلة إلى النخبة (11)
 1
قراءتكم لما حدث في تونس 
بين 17 ديسمبر 2010 و 14 جانفي 2011؟
إن ما حدث في تلك الفترة يُعبّر عن بلوغ الشعور الجمعي حدّ الاحتقان، مما يستوجب أحد الخيارين:
أ‌- إما انفجار داخلي في الذّاوت وفي شبكة العلاقات الفردية والمجتمعية وهو ما تُشير إلى حالة « التأزّم القيمي» التي بلغت شظاياها حدّ الإقدام على حرق الجسد بعد أن أصبح ملكا مشاعا. والشعور الذي بلغه محمد البوعزيزي رحمه الله هو حالة يتكثّف فيها اليأس من التغيير، والهوان أمام السلطان، والعجز عن التفكير، والقنوط من المساندة،  .. مما جعله يصبّ جام غضبه على « الجسد» الذي لا يملك حريّة الفعل إلاّ فيه و به و بقدر.. و من لطف الله بالشّباب التونسي ومن كل البلاد أن ولّد من تلك الحادثة وذلك المشهد، عودة إلى الفعل الايجابي المتصاعد تجاه السلطة الغاشمة.. فتحوّل الانفجار الداخلي إلى انفجار في وجه السلطة.. 
ب‌- أو انفجــار خارجي، وكانــت احتجاجــات عمال المنـــاجم أحد المحطات البـــارزة في هذا الاتجـــاه، حتى التقى الخيـــاران ليعمّ الغضب وتتحرّر الارادة وينطلق المارد من قمقمه فيولّد ثورة على الطغيان..
وهي حالة نادرة في تاريخ الشعوب وبلوغ نتائجها أمامه عـقبات يجب إدراكها وتتبعها. وتسارعت الأحداث وكانت النخبة السياسية تجاهها في حالة « بهتة عـقلية». فهي سجنت نفسها في رؤية اصلاحويّة تتقوّم على بعدين: اليأس من الفعل الثوري والخوف من بطش السلطة. لذلك كانت ردودها ما بين هذين الحدّين، إلا أن استمرارية الفعل الثوري وتوسّعه ونتيجة لعفويته، تجاوز كل الحدود وكل منطق اصلاحوي، ليصعد به إلى مدارج «التغيير الشامل»، ليبلغ فكرة Degage التي حرّرت الشعب من «عقدة الخوف»، وأركست النخبة مما جعلها تترنّح في فكرها الاصلاحوي والشكلي.. 
2
هل ترون أن النخبة التونسية قد نجحت 
في فهم مستحقات المرحلة وحققت بعضا منها؟ 
وهل نجحت في وضع البلاد 
على السكّة الصحيحة للإنتقال الديمقراطي؟
بقدر ما كانت الثورة نقلة نوعية في تاريخ تونس، بقدر ما كانت أيضا حدثا فاصلا في تاريخ النخبة، ستتوضّــح معالمه من مرحلـــة إلى أخرى. فقد كانت الحاجة إلى الثورة عامّة وحاجة النخبة إليها أخصّ و أدق. فقد حررتها من الحدود التي كبّلت أداءها. والناظر في المشهد السياسي يلاحظ  أن أداء النخبة يتوزّع كالتالي :
أ‌- قوة مُعطِّلة:  
مثّل صعود الاسلاميين «كابوسا سياسيا» للنخبة العلمانية بمختلف ايديولوجياتها اليسارية والليبرالية. فهي ترى في الاسلاميين خيارا مجتمعيا مغايرا وتهديدا لمكاسبها الثقافية والمجتمعية التي كسبتها بانخراطها في «منظومة الاستبداد». فالمكسب الثقافي يشرّع لها كبيرة « التواطؤ السياسي» ، بمعنى القبول بالاستبداد مقابل مكاسب ايديولوجية تُصوّر بكونها مكاسب ثقافية واجتماعيــة فــي صــراع مع المشروع المضاد التي تدّعي هذه النخبة أن الاسلاميين يحملونه.
ب‌- قوة مُكبّلَة: 
مثّل هروب «الطاغية» فرصة للاسلاميين إلى العودة والفعل المجتمعي من أبوابه الكبرى. وقد كان أداءهم السياسي في هذه المرحلة محكـوما في نظرنا بـ :
• محظور عودة منظومة الاستبداد وانتكاسة مشروع الحرية من جديد.
• تحرير الحالة الاسلامية مما يُشاع حولها من كونها غير ديمقراطية.
• تعديل رؤى القوى الدولية تجاه تجربة الإسلام السياسي.
لذلك كان أداءهم يتجه وجهة محافظة اصلاحية، وتمّ استبعاد خيار التغيير الجذري. والاتجاه الاصلاحي لنجاحه يستوجب تجميع شروط ليست بملك التيار الإسلامي اليوم. بل جميعها بيد القوى العلمانية. ومما ضاعف في ارتباك أداء التيار الإسلامي مجموعة من العوامل نشير إلى بعـضها:
• غياب التجربة في الحكم.
• الجهل بحقيقة الواقع.
• الحقد الايديولوجي الذي يحكم مواقف معارضيهم.
• التعـدّد والاختلاف بين المكـونات الاسلامية.
• الفجوة الكبيرة في الوعي بمتطلبات المرحلة بين النخبة الإسلامية وقاعـدتها.
•حجم الانتظارات الشعـبية من تصدّر الاسلاميين للسلطة.
فهذه العوامل وغيرها، إضافة إلى الضوابط التي كيّف فيها التيار الإسلامي خياراته في الحكم، جعلت من تجربته عرضة إلى سهام الداخل والخارج، الفكاك منها يتطلب دهاء ودربة وبُعد نظر ومُصابرة من نوع خاص ..       
ت‌- قوة مُتربِّصة: 
وتتكوّن من بقايا السلطة السابقة والتي تتوزّع بين بقايا «التجمّع» ودوائره التي تضرّرت مصالحها وقلّت اتاواتها بعد الثورة. فبعد تراجع الحضور الشعبي في فعل الثورة وصعود لدور النخبة، التقت المصالح وتوحّـدت ظاهريا تجاه مشروع يهدّد الخيار المجتمعي ولكن في حقيقتها هو مسعى لعودة شبكة المصالح السابقة التي كانت «تتمعّش» من سلطة الاستبداد، بتشكّل جـديد، لا يُفهم إلا بكونه «ثورة مضادة».  
وبناء على ما سبق، فقد استطاعت النخبة من تغيير المعادلة. وقد عاد تأثيرها على المشهد دون أن تتحرّر من مكبّلاتها. وتمّ تغييب تدريجي ومنهجي لدور الشّارع في حماية الثورة والرّقي بها لتحقيق أهدافها. وتحوّل الشارع من قوة فعل حقيقي إلى مجرد أداة في التوظيف السياسي. وانتقلت المعارضة أساسا بالشارع إلى مرحلة «الشعبوية» و«الفوضى الشارعية» في إطار خصومة سياسية، ممّا عمّق حالة «استقالة الشارع»، لتنفرد قوى النخبة بالفعل السياسي وتحوّله في أحيان كثيرة إلى «سيرك سياسي»..  
ولكن هذا لا يعني أن نغفل عن بعض الأدوار الايجابية التي قامت بها النخبة بجميع مكوناتها. فتاريخ الثورات يشير إلى أن التتويج يكون بأيدي النخب المسنودة شعبيا. ومما يُحسب على النخبة أنها عمّقت قيمة الحرية وحمت فكرة الدولة وفعّـلت المجتمع المدني، على رغم العديد من التشوّهات التي أراد البعض إلصاقها بهذه المكونات الأساسية، والتي تتطلب استمرارا في الفعل وإصرارا على الحفاظ عليها وتنمية مكاسبها.وتبقى فكرة التوافق التي بلغتها النخبة بعد ثلاث سنوات من التدافع من أهم المكاسب الوطنية. وهي في نظرنا وليدة عوامل أساسية أبرزها: 
• الاقـرار بقيمة التنوع.
• الاقـرار بقيمة المواطنة التي تتوزّع بالتساوي بين الجميع.
• بلوغ مستوى متقدم للتوازن السياسي مما تختفي معه احتمالات الانقضاض على السلطة بطرق انقلابية.
• فشل مشاريع توظيف الشّارع لمصالح حزبيّة .
• المخاطر الاقتصادية والأمنية التي تهدد البلاد.  
3
أي مستقبل ينتظر تونس؟ 
وكيف السبيل إلى تجنّب الفشل؟
إن المستقبل هو ما تصنعه الشعوب، و كل ما كانت فاعلية الشعب أكبر إلا وكان المستقبل أفضل. وفي المراحل الدقيقة من مسارات التغيير يكون للنخب الدور الأكبر. فهم من يوجّهون أداء الشعب. وما تشهده السّاحة التونسيّة في هذه المرحلة الدقيقة من صعود لقيمة التوافق، والعودة التدريجية للثقة بين المكـونات السياسية والادراك الجمعي بأن في الحرية قوة للوطن وقوة الوطن هو قوة للجميع، هي مؤشرات ايجابية تُشيع الأمل بالمستقبل. إلا أن ما تُشير إليه تجارب الشعوب أن اللحظات الأخيرة من المراحل الانتقالية هي من أشد المراحل دقة وخطرا. لذلك تستوجب يقظة خاصة وتأهبا كبيرا وفعلا متواصلا ونكرانا للذوات الحزبية وإعلاء للوطن واصرارا على النجاح مهما كانت العقبات. 
وبقدر ما تُمثّل أحداث مصر من نكسة لثورات الربيع العربي، وما تسبّبه من ارباكات وما تعمّقه من شكوك وتوجّس بين النخب السياسية. فهي لها صورة أخرى يمكن أن يُبنى عليها المستقبل. فهي أيقظت «القوى الثورية» لما يمكن أن تبلغه قوى الثورة المضادة من نتائج في غياب الثوريين أو في غفلة منهم. كما أن تكلفة الانقلاب العسكري في مصر كانت باهضة جدا، ستكتوي بنارها القوى الخارجية التي رعت الانقلاب، لذلك ستكون هذه القوى متردّدة  وحذرة جدّا من الإقدام على تجربة مماثلة. فهي فرصة زمنية لتونس لتتجاوز المرحلة الانتقالية بسرعة وسلامة. وتبقى اليقظة الثورية ضرورية في هذه المرحلة كضرورة التوافق. وبدونهما تواجه البلاد محاذير خطيرة.