ثلاثة أسئلة إلى النخبة (10)

بقلم
شكري عسلوج
ثلاثة أسئلة إلى النخبة (10)
 1
قراءتكم لما حدث في تونس 
بين 17 ديسمبر 2010 و 14 جانفي 2011؟
اختلفت الآراء والتحليلات والتأويلات والفرضيات حول ما حدث، منذ أن أقدم محمد البوعزيزي على إضرام النار في جسده وما تلا ذلك من تدحرج مدهش لمجريات الأمور وصولا إلى هروب حاكم قرطاج مع ليلاه وتركه حَبْلَ البلاد على غارِبِها. المُسمَّيات تواترت وتباينت لتوصيف ما حدث في تونس، فمن ثورة الحرية والكرامة أو ثورة الياسمين كما يحلو للغرب نعتها، إلى انتفاضة الجهات المُهَمَّشة ومن ثَمّ تضامن عموم الشعب المقهور معها من أقصى الوطن إلى أدناه، ومرورا بالانقلاب العسكري المدعوم بالقوى الأمنية ودسائس القصر وصراعات الأجنحة داخل النظام السابق وصولا إلى الإدعاء بأن كل ما عشناه وشهدناه لم يكن سوى مسرحية محبوكة الأطوار من إخراج أجهزة  مخابرات القوى الخارجية، الدولية منها والإقليمية والتي لم يُترك للشعب الكريم فيها سوى دور «الكومبارس» الذي يعيش على وهْم بطولة ليس لها وجود إلا في مِخياله الجمعي، فقد سمعنا بكل هذه التسميات المختلفة والتقييمات المتضاربة للحدث الجلل الذي عاشته تونس، والذي هزّ في ما بعد المنطقة العربية والعالم برمته، والذي ما زالت أصداء ارتداداته تُدوّي حتى يوم الناس هذا. كثير من الحقائق والوقائع ما زالت تحيطها السرية ويطويها الكتمان ويكتنفها الغموض والإبهام، لذلك فإنه يَعِنّ علينا الجزم بما حدث وإصدار القول الفصل في حقائق وكُنَه ما جرى ويجري ولا يبقي لنا حينئذ إلا التحليل والاستنتاج انطلاقا من وقائع ثابتة بُغية توظيف المعلوم للكشف عن السرّ المكتوم. ولتعميق الفهم فمن المفيد في هذا الصدد أن أسوق لكم ظاهرة فيزيائية، تتعلق بالأنظمة الطبيعية غير المستقرة وكيف أَنّ فعلا ضعيفا يكون قادرا على إحداث تأثير عظيم، وفي هذا الإطار تتنزّل ما يُسمى بظاهرة الفراشة، والتي تتلخص في أن جناح فراشة ترفرف في الهند يكون قادرا في حالات معينة، على التسبب في إعصار مدمّر في أمريكا الشمالية، ويرجع ذلك إلى أن الغلاف الجوي للأرض يُعَدّ من أكثر الأنظمة الطبيعية غير المستقرة ، التي درسها البشر وخَبَروها. أسوق لكم مثالا ثانيا من علم دراسة المخاطر والحوادث والكوارث حيث يُجمِع المختصون أن الكوارث الصناعية وحوادث تحطم الطائرات وغيرها من الأحداث الكبرى، لا تقع إلا بتسلسل وقائع متعددة، يستحيل عادة حدوثها تباعا لأن كل الاحتياطات والتدابير الممكنة انطلاقا من المنطق والفهم البشري، قد تم اتخاذها سلفا لمنع حدوثها مجتمعة. وقياسا على ذلك فإنه يمكن القول بأن نظام الاستبداد والظلم والقهر هو نظام غير مستقر، رغم سطوته وجبروته في ظاهر الأمر ورغم سعيه الدءوب للسيطرة على حركات الناس وسكناتهم، بُغية إلغاء أي عنصر حي، يُمكن أن يتطور يوما ليُشكّل خطرا على كيانه. حرق المرحوم البوعزيزي لنفسه لم يكن في حد ذاته السبب الذي أسقط الطاغية ومن بعده النظام العربي برمّته، وإنما كان خفقة جناح الفراشة الذي تداعت تفاعلاتها فولّدت الإعصار الذي ذهبت رياحه العاتية بعرش الظالم المستبد. ما حدث في تونس كان تسلسلا شبه مستحيل، لأحداث بدأت كفعل تراجيدي معزول تحوّل سريعا إلى هَبّة محدودة فانتفاضة شعبية بفعل تراكمات الغبن والحرمان في الجهات المُهمَّشة ثم سرت كالنار في الهشيم وتحولت إلى ثورة عارمة عندما طفحت إلى جهات أخرى ووصلت إلى العاصمة ومن ثَم عمّت في كل ربوع الوطن بعدما تبنّتها قطاعات شعبية واسعة وأطّرتها قيادات نقابية وسطى وكانت كل هذه الوقائع وبشهادة أعرق مراكز الدراسات الغربية ودوائر المخابرات الأجنبية، مفاجِئة وغير مُتوقَّعة. لم يكن لهذه الثورة لتنجح بهذه السرعة وبهذه التكلفة المتدنية لو لم تكن مدة صلاحية الرئيس المخلوع قد نفذت ولو لم يكن قد أستوفي دوره في نظر القوى العظمى ذات الطول في بلدنا والتي نصّبته من قبل، ولنا في تسريبات ويكيليكس وما رشَح عن زيارة كوندوليزا رايس ودونالد رامسفيلد إلى تونس، الإثباتات والقرائن على ذلك. قد تكون هذه القوى هي من أوعزت لقيادات الجيش بعدم التورط في حمّام الدّم الذي كانت معالمه تتضح شيئا فشيئا إبّان الثورة، كضريبة يدفعها الشعب لتثبيت النظام القائم ولإطالة أنفاسه قسرا، وقد تكون هي من أوعزت له ولبعض القيادات الأمنية فيما بعد، بتخويف الرئيس السابق لإقناعه بأن الأمر قد قُضي ولم يبق له سوى أن ينجو بجلده. القوّة الرئيسية الداعمة لهذا التمشّي، قد تكون جَنَت تبعات موقفها هذا باقتحام وحرق سفاراتها في ما بعد لإقامة الدليل بأنها أخطئت في خيارها وتوجُّهِها الجديد. مخابرات القوى الإقليمية والدولية الراتعة في ربوعنا وصاحبة المصالح الحيوية في بلادنا والمؤثرة على قرارنا، أرادت استرجاع التحكم في مجريات الأمور بين أيديها منذ أن استفاقت من هول الصدمة التي ولّدها زلزال سقوط النظام، وذلك بالاستعانة بطابورها الخامس على الأرض، والذي برع في استنباط الوسائل لتأجيج الأوضاع والحيلولة دون استقرارها عبر مسلسل انقلابي تصعيدي وصل إلى حد الاغتيال السياسي والإرهاب، حيث أن المكر السيئ كان يحيق كل مرة بأهله ويمنعهم من بلوغ مآربهم في الالتفاف على ثورة الشعب التونسي ووأدها في مهدها. صراعات أجنحة النظام التي كانت تنخر بنيانه من الداخل وعدم الثقة المتبادلة بين كبار مسؤولي الدولة والخوف والتوجس الحتمي الذي يسكن قلب المُنقلِب في أن يصبح بدوره ضحية للانقلاب والارتباك العام في أخذ القرارات وعشوائيتها خلال الأيام المفصلية العصيبة للثورة بما ذلك المحاولة الأخيرة واليائسة للرئيس السابق في تسويق أصهاره ككبش فداء والأمر بالقبض عليهم في المطار، أملا في إنقاذ نظامه وريثما تستقر الأمور من جديد، ساهمت أيضا وبشكل أساسي في الانهيار السريع والمدوّي لمنظومة الحكم وهذا ما يتجلى حاليا، في الاتهامات المتبادلة بين أقطاب النظام السابق عبر وسائل الإعلام. كل هذه العناصر برمتها والتي عادة لا تحدث مجتمعة هي سرّ نجاح الفصل الأول من الثورة التونسية، التي حار الكثيرون في فك شفرتها. 
إذن وفي تقديري، ليس المهمّ أن نقول أن ما حدث هو إمّا هذا أو وإمّا ذاك بدافع التوظيف السياسي، كل من موقعه وحسب ما تمليه عليه مصالحه، وإنما الأهمّ في تقديري أن نعي جميعا أن ما جرى هو فرصة نادرة أهداها ربّ السماء لتونس لتلج التاريخ من بابه الكبير وهبة لشعبها لكي ينعتق من نير الذلّ والاستعباد ويصنع مجده وحضارته.
2
هل ترون أن النخبة التونسية قد نجحت 
في فهم مستحقات المرحلة وحققت بعضا منها؟ 
وهل نجحت في وضع البلاد 
على السكّة الصحيحة للإنتقال الديمقراطي؟
الأزمات المتتالية التي عصفت باقتصادنا وبأمننا وبمسار التحول الديمقراطي وغيرها من مناحي الحياة في ربوعنا، ولّدت انطباعا لدى عموم الشعب بأن نكبتنا في نخبتنا. من المؤكد أن هذا التقييم القاتم لأداء النخبة له مبرراته الموضوعية بالرغم من إقرارنا بأن التعميم ووضْع الجميع في سلّة واحدة، يُجانب في حدّ ذاته وبصفة مبدئية المنطق والصواب والواقع. من المؤكد أيضا أن هذا التقييم السلبي لآداء النخبة السياسية على وجه الخصوص سواء الحاكمة منها أو المعارضة وما أفرزته الثورة بطمّه وطميمه، هو نِتاج العمل الدؤوب والجهود الجبّارة التي بذلتها الثورة المضادة وأبواق إعلامها المنحاز للتعطيل والإفشال والشيطنة، حتى وصل الأمر بنا إلى أن نرى اليوم في المنابر الإعلامية وعلى الملأ من يقف على أطلال العهد البائد ويرثي مزاياه ويعدّد مناقب صانعه ويضعه في مراتب متقدمة في نوايا التصويت في عمليات سبر الآراء الوهمية. لقد برعت النخبة السياسية والاقتصادية والإعلامية والفكرية والثقافية والإدارية والنقابية إلخ، في فن الرقص بالبلاد على شفا جرف هار جرّاء الصراعات العبثية التي أذكت نارها منذ دخولها على الخط إبان الثورة ولكنها ورغم كل ذلك، فقد نجحت إلى حد الآن في تجنب الأسوأ المتمثل في الانهيار الكارثي بالوطن في نار جهنم الحرب الأهلية والتفكك التام لمؤسسات الدولة والرجوع الانقلابي إلى الوراء وهذا يُعدّ في حد ذاته إنجازا إذا ما قارننا أوضاعنا بأوضاع بلدان الربيع العربي الأخرى. النُّخب المؤثرة والمُتمكنة بأنواعها، والتي تتصدر المشهد العام وتتحكم فيه إما علنا أو من وراء حجاب، هي في أغلبيتها الساحقة نُخب اصطفاها الاستعمار وتشكّلت في دولة الاستبداد وأشتد عودها في دولة الفساد وهي بذلك لا ولن تصلح لتكريس السيادة الوطنية المنقوصة بدلا من تكريس المزيد من التبعية وارتهان البلاد للأجنبي ولا لإصلاح هياكل الدولة ومقاومة الفساد المستشري في أوصالها بدلا من تدعيم لوبيات المتنفذين المفسدين ولا لإرساء اقتصاد منتج يعتمد على العمل والكفاءة والابتكار بدلا من التوجه الاقتصادي الريعي والاستهلاكي والمافيوزي ولا لإعطاء القدوة في التضحية من أجل بناء الوطن عوض نهبه واستباحة خيراته ولا للمحافظة على الثروات الطبيعية للبلاد بدلا من التفريط فيها بثمن بخس لقاء عمولات ورشاوى ولا لإعادة توزيع الثروة وفق مبدأ الرجل وحاجته الرجل وبلاءه بدل من تكديس الثروة في أيدي قلّة محتكرة ومُتَنَفِّذة ولا لتدعيم حقيقي غير مغلوط للتحول الديمقراطي عوض المحاولات المتكررة الماكرة لاحتواء الثورة، بُغية إعادة إنتاج النظام السابق بشكل مقَنَّع خادع.
3
أي مستقبل ينتظر تونس؟ 
وكيف السبيل إلى تجنّب الفشل؟
المستقبل ما زال محفوفا بالمخاطر ومفتوحا على كل الاحتمالات، غير أن الأمل يحدونا في أن الله الذي سلّم ومنع سفينة الوطن من الغرق في بحر لجي يغشاه الموج من كل جانب، سيوصلنا بإذنه إلى شاطئ السلام. المطلوب هو نخب جديدة في كل المجالات، تُولد من رحم الثورة وتتبنّى بالتالي أهدفها وتصون مصالح الوطن وتستنبط الحلول الجذرية لمشاكل الشعب وتقود نهضته الحقيقية، وهذا لن يتأتى بطبيعة الحال بين عشية وضحاها. إلى ذلك الحين فمن الضروري أن يبقى الشعب متيقظا حتى لا تُغتال ثورته في غفلة منه وأن تُفعّل القرارات الثورية لتحصين الثورة بدلا من الاعتماد المغالي على منطق الدولة التي تفلت مقاليدها عن الحكام الذين ارتضاهم الشعب وأتت بهم الثورة. علاوة على ذلك فإنه من الضروري بل من الحيوي إحداث ثورة في عقل وقلب التونسي التي تجعله يتصرف في الحرية المُكتَسبة بمسؤولية واتزان ويؤدي واجباته قبل أن يُطالب بحقوقه ويخلق الثروة قبل أن يقتسمها ويعمل عوض أن يُضرب ولا يطالب في نفس الوقت  بالشيء وضدّه. من الضروري أيضا أن تستعيد الدولة العادلة والشرعية هيبتها وأن تستعيد النخبة الجديدة زمام الأمور حتى لا تواصل الدهماء في فرض إملاءاتها على الصفوة ويواصل الأمّعة والرويبضة في التطاول على الخِيرة ويواصل العنف في قهر العقل ويبقى الابتزاز والتحيل والعنف وليس العمل البنّاء، الوسيلة المفضلة للتونسي لتحصيل المكاسب.