ثلاثة أسئلة إلى النخبة (6)

بقلم
د.محرز الدريسي
ثلاثة أسئلة إلى النخبة (6)
 1
قراءتكم لما حدث في تونس 
بين 17 ديسمبر 2010 و 14 جانفي 2011؟
منـذ الاحتــــــراق الرمــــزي للشهيــــد محمـــد البوعزيــــزي يوم 17 ديسمبر2010 وما تلاها من حراك ثوري انبثق في سيدي بوزيد وانتشر بسرعة في كامل أرجاء البلاد ومسيرات انطلقت من الوسط لتتوسع إلى الشمال وإلى الجنوب وتونس الكبرى. كانت هذه الأحداث تعبيرا عن فشل القبضة القمعية وإعلانا عن نهاية الحكم الإستبدادي، ومثلت ناقوس خطر أطلقه التونسيون أن الإحساس بالاختناق عام وفي كافة المجالات وأن كل المنافذ سدّت من قبل النظام الدكتاتوري. لهذا شكّلت تضحيات التونسيين وثورتهم أسلوبا مميّزا بحثا عن ولادة جديدة تقطع مع كل جذور الاستبداد وإيجاد صيغ جديدة للاجتماع الوطني تنبني حول مشروع يؤمن بالديمقراطية والحرية والكرامة.
هذا الحراك الثوري الذي شمل كل النقاط الجغرافية في بلادنا لم يكن موجها فقط ضدّ رمز النظام بل تجسيما لمقاومة تنبذ التفاوت الجهوي وترفض الفقر والبطالة والتهميش و«الحقرة»، وتحلم بقيم جوهرية تعلي الحرية وتحقّق العدالة وتصون كرامة الإنسان. لم يكن هذا الحراك في مؤشراته الأولية مجرد انتفاضة وإنما ثورة يتراكم زخمها وتعزّز الرغبة الشعبيّة المتفاقمة نحو وضعية جديدة، تفتح الأبواب المغلقة أمام البناء الديمقراطي وإعادة صياغة النظام السياسي على أرضية دستورية وقانونية وشعبية ومؤسساتية دائمة. كما تتيح الوضعية التاريخية الجديدة إمكانية دفع المنطقة العربية نحو ظروف سياسية واجتماعية وثقافية أفضل، تمكّنها من تجديد الحياة السياسية ومن تدعيم التماسك الاجتماعي والتضامن المجتمعي ومن تحسين دورها الحضاري.
2
هل ترون أن النخبة التونسية قد نجحت 
في فهم مستحقات المرحلة وحققت بعضا منها؟ 
وهل نجحت في وضع البلاد 
على السكّة الصحيحة للإنتقال الديمقراطي؟
لا يمكننا الحديث عن النخبة التونسية بشكل موحّد وكأنّها كتلة موحدة بل متمايزة، النخبة تملك «الرأسمال» المعرفي، ليس لدينا نخبة بل هناك نخب متنافسة ومتصارعة ويشقها شرخ كبير وهذا ما تمت ملاحظته في الهيأة العليا وفي التنافس السياسي وفي المجلس الوطني وفي وسائل الإعلام وفي النقاش العام وتحركها في الفضاء العام. رغم هذه التجاذبات، نعتبر بعد خطوات متعثرة والتحاق متردّد بالثورة، فإن النخبة السياسيّة والفكريّة بدرجة أقل شكّلت محضنة الجدل والاقتراح والتطلّع وتخصيبه، وأنها نجحت في إنتاج مساحات للفكر وفضاءات للتنمية السياسيّة: فكرا وقيما ورموزا. ومثلّت انتلجنسيا تونسيّة بما أنتجته من أفكار وما صنعته من أراء ثقافية واتجاهات فكريّة وقيم أساسيّة وتطلعات إصلاحيّة، وانتجت هذه النخبة حقولا متنوعة للتصرّف في أنظمة التداول الرمزي والقيمي والثقافي، اقترابا وابتعادا من السياق الثوري. ولكن نتطلع أكثر إلى دور النخبة ومزيد تفعيل أثرها، ذلك أننا في حاجة إلى نخب تنصهر في مطالب الوطن وتتّحد مع حاجيات تونس وتعمّدها بتضحياتها وتتخلى عن مشاريعها الذاتية نحو المشاريع الوطنيّة، وأن تنخرط في قيم التطوع والإخلاص والجهد . نخبتنا رغم أزماتها وأوجاعها الماضية والحاليّة هي في الربع الساعة الأخير لإتمام كتابة الدستور وأن تعمل على تحويل مجتمعنا إلى ورش سياسية وقيمية وتنموية ومدنية ومعرفية. والنخب التي أتحدث عنها ليس الجامعية والمثقفة فحسب، بل توجد شرائح نخبويّة جديدة خاصة من الشّباب، وعزّز ذلك  الانتشار الكبير للتكنولوجيات الحديثة للاتصال والشبكات الاجتماعية إلى إعادة تعريف النخبة التي  سمحت بتبادل فوري وسريع للمعلومات والمعطيات من رسائل وإرساليات ومقاطع مصورة ونصوص ودعوات، جعلت علاقة الفرد بالأفراد تتغير وصلته بالأحداث تتبدل وارتباطاته بالمكان والزمان تتحول. كشفت الأحداث الأخيرة في تونس (ثورة الأحرار)، تهافت النظرة الدونيّة للشبان وإدراكنا لطبيعة الوعي السياسي والثقافي تشكيلا وإنشاء ودورا، وأن هناك صيغا وأنماطا وأساليب تمّ الانتباه إلى أهميتها مثل المدونات والشبكات الاجتماعية (فايسبوك- تويتر...). فالشبكة الاجتماعيّة «الفايسبوك»  تضمّ أكثر من مليون شاب تونسي منخرط في صفحاتها، حيث استطاع المثقف الفايسبوكي أن ينحت وعيا افتراضيّا نضاليّا، وأن يصنع مواقع هجوم وتعبئة وتأطير وتنظيم حقيقي بأدوات ميدياتيكية. 
هذه الكتابة الافتراضية الجديدة أشعرت الشاب التونسي أنه قادر على صناعة الحدث وأن له أهمية وأنه يعبر وأنه يفعل، بل إنه يثور ويمكن أن يغير. وأنشأ «الفايسبوك» نخبة افتراضيـــة تونسيـــة عريضة تمنح القيمة للكتابة المتناثرة مع كثافة القراءة مع الألوان والصور المشهديّة وصياغة المخيال الجديد وحيوية النضال الجديد. إن الوسائط الإعلامية الجديدة والشبكات الاجتماعية لها أثرها في احتضان الحدث الفردي(البوعزيزي) ثم المحلي(سيدي بوزيد) ليصبح حالة اختمار وطني عام(وعربي)، ويصدم البديهيات النضالية نظريا ويلغي النظرية الموضوعية للتغيير ويزعزع المسلمات ويعيد النظر في وظائف المثقف أو النخبة بأن ينخرط في المناخ التواصلي وتجنب الانعزال ونفي الصفوة والاصطفاء والتعالي. واتسع بذلك تعريف النخبة ليشمل كل من المتعلمين والمدرسين و «عمال المعرفة» مزيح الحواجز بين النخبة والجماهير وبين النشاط الذهني والنشاط التقني. وأن المجتمعات لا تتغير بمفاعيل النخبة الكلاسيكية فقط بل النخبة المتنوعة وكل القوى الناشطة. بمعنى ولادة فاعل اجتماعي ونضالي جديد، وإعلان عن نهاية النخبة المثقفة بالمعاييرالكلاسيكية، فالنات أفرزت مناخا ثقافيا يتضمن إمكانية الشكّ والتردد والاعتراف المعمم والمتبادل. 
3
أي مستقبل ينتظر تونس؟ 
وكيف السبيل إلى تجنّب الفشل؟
أفرزت الثورة التونسية وعيا سياسيا ونواة ثقافة سياسية تحتاج للإثراء والتعميق، نحددها ضمن أربع نقاط مكثفة:
•تجاوز الاستقطابات الإيديولوجية والسياسية ووحدة صف مختلف القوى السياسية والمدنية وأن الثورة اتسمت بطابع ما فوق حزبي وما فوق إيديولوجي.
•ارتفاع منسوب الفداء والتضحية والمغامرة وتقلص الفوائض الذاتية وانحصار دلالاتها الفردية.
•إحياء قيم الوطنية وثقافة الانتماء وترسخ التضامن والتساند وانبثاق روح الجسد الاجتماعي.
•سريان روحانية ونضالية صافية وإيمان بالقدرة على التأثير والفعل و التغيير.
كل ثورة تؤدي إلى تغييرات قد لا تكون بنيوية لكنها تمسّ بعض الجوانب. نحتاج إلى إذكاء روح الثورة، فلازال الطريق طويلا وكما يقول المثل الصيني طريق الألف ميل ينطلق من الخطوة الأولى. ونحن نراهن على عدم انزلاق ثورتنـــا في الهوامش، وهي فرصة تاريخية لبناء قاعدة صلبة إقليميا والنجاح التفاعلي الجيو سياسي والجيواستراتيجي. نطمح أن يكون الزخم السياسي سندا للحرية كقيمة فردية ومجتمعية وإنسانية، وأن يكون الحراك الثوري مؤسّسا للديمقراطية كماهية مجتمعية ومؤسسية، ذلك أن ثورة تونس أنضجت طلبا اجتماعيا وسياسيا عميقا لفكّ عقدة الاستبداد التاريخي، وفتحت فرصا جديدة للانتقال من التفكير النظري والمجرّد في الديمقراطية إلى التفكير العملـــي في الديمقراطيـــة، بجعلها في قلب التحولات السياسيّة. ونقرّ بأن ضمانات تسييج الثورة حتى لا تنزلق في متاهات الفشل يتمّ بإحياء فكرة الوطنية وانبثاق روح إعادة صياغة التضامن المجتمعي، وأن يشتغل على حضور مكثف لمبدأ الانتصار لقيمة الحرية ومركزية الديمقراطية في بناء دولة المجتمع.
ونأمل أن الحراك الثوري سيدخل مجتمعنا في مسارات الحداثــــة بما هي تعبير عن حرية الإنسان والمجتمعـــات، وبما هي عقلنـــة للشأن السياسي في مبادئه وآليات اشتغاله، «فهابرماس» يؤكد في قراءته لنظرية «ماكس فيبر» أن الحداثة عقلنة شاملة، وأن الحداثة ملازمة للعقلنة، وأنها تنشئ مجتمعا غير قائم على الإكراهات والقمع، وإنما على التفاهم والتعاقد وفكرة طاعة القانون. وهو ما نحلم به ونتطلع إليه من أن الحريّة تفضي إلى الديمقراطية وأن الديمقراطية تتأسس على الحرية، وأن التحديث السياسي مدخل لا مناص منه للحداثة المجتمعية ومقدمة ضرورية للنهوض الفكري والمجتمعي. وأن  جوهر «الحداثة» أو ماهية «التقدم» تتمثل في إعادة صياغة علاقة الحاكم والمحكوم، وفق تصور بشري للحقل السياسي يشتغل على قوى سياسية وقوى اجتماعيـــة وإرادة عامـــة، وأن الإنســــان هو منطلق السياسة ومبتغاها.