ثلاثة أسئلة إلى النخبة (2)

بقلم
الطاهر بن يحي
ثلاثة أسئلة إلى النخبة (2)
 1
قراءتكم لما حدث في تونس 
بين 17 ديسمبر 2010 و 14 جانفي 2011؟
ما حدث بين هذين التاريخين الحاسمين في تاريخ تونس المعاصرة هو بمثابة الحصاد الحتمي لنضالات تراكمت وأحداث تلاحقت وآلام تعاظمت وأحلام تأجّلت ...منذ عقود بل حقب ظلّ  المجتمع التونسي فيها محكوما بمنطق الدّولة السّلطانية الوسيطة رغم كلّ الديكور الحديث الذي رافق نشأة الدولة الوطنية : دولة الاستقلال. 
لقد كانت تونس مهيّأة بحكم الوضع المزري الذي كانت عليه سياسيا واقتصاديـــا وبحكم الاحتقــــان الشعبـــي الذي بلغ ذروتـــه في مناسبات سابقة كانتفاضة الحوض المنجمــــي أن تشهد تحوّلا مثل الذي وقع. بالطبع لا معنى لبعض الأطروحات التـــي يذهب أصحابها إلى أنّ كلّ ما حدث سيناريو أعدّته مخابرات أجنبيّــــة، وإلاّ كيف نفسّــــر موقف النّظام الفرنســـي الّذي ظــــلّ مساندا للنظام البائـــد إلى يوم 14 جانفي تاريخ فرار الطاغية وتاريخ شحن معدّات عسكرية نحو تونس «للحفاظ على السّلم الأهلي» كما ردّدت بعض الدّوائر الرسميّة الفرنسيّة وعلى رأسها وزيرة الخارجية ميشال  أليو ماري . Michèle Alliot-Marie، وتحت قبّة البرلمان الفرنسي أياما قليلة قبل انهيار النظام في تونس.
إنّ الصورة الأقرب لما وقع أتخيّلها استعارةً تمثيليّةً تفسّر لنا على نحو تقريبي لمَ  نجح الشعب التونسي أخيرا – على عكس عشرات المحاولات السّابقة- في التخلّص من نظام قمعي بوليسي مسنود من قبل قوى إقليمية ودولية تعتبره رأس حربة لمقاومة الإرهاب والأصولية ولمراقبة شبكات الهجرة السّرية. مفاد هذه الصورة أنّ تونس كانت من شمالها إلى جنوبها مرويّة بمواد سائلة قابلة للالتهاب في كلّ لحظة وأنّ إقدام الشّاب الشهيد محمد البوعزيزي على إحراق نفسه – هو بمثابة عود الثّقاب الذّي أشعل البلاد بشكل لم يسبق له مثيل. لنتذكّر أحداث جانفي 1978 وأحداث جانفي 1984 ، ثمّ أحداث الحوض المنجمي سنوات قليلة قبل الثورة، كلّها أحداث هدّدت بشكل جدّي النظام وقتها وخاصة أحداث الخبز عام 1984 حيث سقط عشرات الضحايا من كلّ الفئات والأعمار. ومع ذلك نجح بورقيبة كما نجح من بعده بن علي في امتصاص الغضب الشعبي كلّ مرّة باتّخاذ  إجراءات تجميليّة لم تفعل شيئا سوى تأجيل الإعلان عن نهاية دولة الزّعيم الأوحد والحزب الواحد. 
إنّ نجاح الثورة التونسيّة في الإطاحة بأعتى الأنظمة البوليسيّة في المنطقة العربيّة والإفريقيّة لم يكن نتيجة تخطيط مسبــــق أو قيادة حزبيّة ملهمة بقـــــدر ما كــــان نتيجة المعادلة النّفسيّـــة والسّياسيّة شبه العدميّة التي أصبــــح يعيش وفقها الشباب التونسي والشعب التونسي: لن تسوء أحوالنـــــا أكثر ممّا هي عليه ولن يكون الموت الحقيقي أقسى وقعا من الموت الرّمزي الّذي أصبح حقيقــــة ماثلة في وعي المهمّشين والمفقّرين والمحرومين وهم الأغلبيّة السّاحقــــة من التونسيّين. 
2
هل ترون أن النخبة التونسية قد نجحت 
في فهم مستحقات المرحلة وحققت بعضا منها؟ 
وهل نجحت في وضع البلاد 
على السكّة الصحيحة للإنتقال الديمقراطي؟
لا يحسن التعميم في مثل هذه القضايا والمسائل. ولا يمكن الحديث عن نخبة تونسية متجانسة. فثمّة أنواع من النخب كلّ منها تعامل ويتعامل مع استحقاقات الثورة بطريقة مختلفة. يمكننا - للتبسيط - الحديث عن ثلاثة أنواع من النخب:
(1) النخبة الديمقراطيّة/العقلانيّة التي ظلّت بمعزل عن كلّ رواسـب إيديولوجيّة وتجــــاوزت بنــــاء علــى ذلـــك بعض الثّنائيـــات الضدّية والتّبسيطيّـــة في آن من قبيــــل : تقليدي- حداثي، رجعي- تقدّمي،إسلامي- علمانــي، دولـــة لائكيّـــة - دولة دينيّــة، يسار - يمين ، هذه النّخبة هي التي حمت الثورة التونسيـــة من السقوط في مستنقع الانقلاب أو الفوضى كما سنعود إلى ذلك.
(2) النخبة «الإيديولوجيّة» الوريثة لكلّ الأدبيّات الفكريّة والسياسيّة  التي كانت سائدة في السبعينات والثّمانينات في الجامعة التونسيّة بالخصوص، وهي لا تخرج عن المرجعيات التالية: الإسلاميّة  والإخوانيّة بالتّحديد، القوميّة والبعثيّة على وجه الخصوص، الماركسيّة بكلّ تلويناتها وتفرّعاتها. 
نبرة هذا النوع من النخبة عالية جدّا لكن فاعليتها العمليّة ضعيفة. لا أتحدّث في هذا السياق عن حزب معيّن أو توجّه عقائدي أو فكري مخصوص. فمن ينتمون إلى هذا الصنف الثاني من النخب التونسيّة موزّعون بين أحزاب كثيرة وشرائح مختلفة لكن ما يوحّدهم هو ما يمكن تسميته بالأرثودوكسيّة أو الأصوليّة الفكريّة. 
ومن عاصر المرحلة البورقيبيـــة الأخيــرة وما كانت تتميّز بـــه من صراع إيديولوجي حادّ بين الإسلاميين واليساريين بالخصوص يلاحظ أنّ طبيعـــة هذا الصراع ومفرداتـــه وحدّتـــه وما يتّسم بـــه من درجات عالية من العنف والإقصــــاء عادت كأشدّ ما يكـــون. وكأنّ سياسة بن علي - التي كانت في الحقيقة عادلة جدّا في قمع الجميع وتكميم أفواه الجميع- قد جمّدت مثل هذا الصّراع لفترة عقدين من الزمـــان، ثمّ عادت من جديد وكأنّ جدار برلين لم يسقط وكأنّ عصر الإيديولوجيّات لم ينته كما بشّر عالم الاجتماع الأمريكي المفكر «دانيل بيل» منذ سنـــة 1961 في كتابـــه «نهاية الايديولوجيـــا». وما يجري من حوار في منابر التّلفزة أو فـــي المجلس التأسيســي ليس حوارا حقيقيّا إنّما هو تبادل للشتائم والتّهم الجاهزة منذ عشرات السّنين. فالكلّ ضدّ الكلّ والكلّ يشكّك في نزاهة الكلّ والكلّ يعتقد العصمة في ما يطرحه من مشاريع أو أفكار. والفرقاء بالنسبة إلى هذا الصنف الثاني من النخب التونسية وجهان لعملة واحدة كما يقـــال: ففي الجوهر لا فرق بين من يجعل مبلغ طموحه الإيديولوجي الخلافة أو من يجعل مبلغ طموحه دولة البروليتاريا.
بالطبع يصعب أن يقرّ هؤلاء الفرقاء بذلك وبطريقة علنيّة وصريحة لكنّ التكلّس الذّهني الّذي يتميّزون به يجعلهم كمعدن الحديد لا تأثير للزّمان في تركيبته الكيميائيّة . ومن ثمّة هذه «الصلابة» التي نلحظها وهذا الصّخب الّذي يصاحب كلّ ظهور إعلامي لممثّلي من أسمّيهم بالأرتودوكسيّة التونسيّة يمينا ويسارا. 
(3) الصنف الثالث من النخب التونسيّة النّخبة التي نشأت وترعرعت في «أكاديميّة» الحزب الحاكم – الدستوري أو التجمّعي- والتي تميّزت بعد الثورة مباشرة بالانزواء والتّخفي وبعض التملّق، ثمّ العودة من جديد في شكل أحزاب أو جمعيّات وهي اليوم تراهن على أنّها الأقوى والأكثر أهلية لقيادة البلاد. 
وعودة للسؤال الرّئيسي، أظنّ أنّ ما تحقّق إلى حدّ الآن من إنجازات ماديّة ورمزيّة أو معنويّة ككتابة الدستور إنّما يعود الفضل فيه إلى ما أسميته النخبة الديمقراطيّة العقلانيّة التي لا تحدّد مواقفها بحسب موقعها الإديولوجي بل بحسب ما تؤمن به من مبادئ وأفكار. والتّوافقات الأخيرة بين بعض الكتل في المجلس التأسيسي أو خارجه هو من آثار هذه النّزعة في التّعاطي مع الشّأن الوطني والسّياسي. 
أمّا ما أسميته بالنخبة الأيديولوجيّة فهي السّبب الأساسي في كلّ ما شهدته البلاد من توتّرات وما يمكن أيضا أن تكون قد شهدته من تحالفات «مشبوهة» قد تفسّر لنا أوّلا بعض الأحداث الأليمة كمقتل بعض الزّعماء السياسيين أو المحاولات المحمومة في استنساخ التّجربة المصريّة  أي تجربة الانقلاب على الديمقراطيّة لا الانقلاب على « الإخوان» كما يقال.
وهذا ما عبّد الطريق وهيّأ المناخ العام لعودة رموز النظــام السابق بل إلى دخولهم في منافســـة علنيّـــة مع مناضليـــن وطنيّين قضّـــوا كلّ أعمارهم في مقاومة الظلم والاستبداد- والصورة الرمزية المعبرة عن ذلك أشدّ تعبير هي صــــورة الأمين العــــام الأخير للتجمـــع محمد الغرياني يحتفل مع الطيب البكوش بالذّكرى الثالثـــة للثورة وأكـــاد أقول «التّحول».
3
أي مستقبل ينتظر تونس؟ 
وكيف السبيل إلى تجنّب الفشل؟
لا يمكن التّنبؤ بمستقبل مؤكّد لتونس في الأشهر والسّنوات القادمة- لكن يمكن لنا التّفاؤل بهذا المستقبل على المدى البعيد- أعني في حدود الخمس سنوات القادمة على الأقلّ- وهذا بفعل أمرين اثنين:
(1) سقوط خيار الانقلاب نهائيّا تقريبا ممّا أجبر الفاعلين السّياسيين والوطنيّين على  البحث عن حلول توافقيّة تعكس موازين القوى الحاليّة.
(2) توفّر عوامل التّجانس العرقي والديني وحتى المذهبي التي لا تساعد كثيرا على تنفيذ من يحلمون بإجهاض الثورة والعودة إلى الوراء كما حدث في مصر. 
وأعتقد أنّ التّجربة السياسيّة في تونس بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 تميّزت بلامركزيّة السلطة، إذ كانت موزّعة بين ثلاث مؤسّسات: رئاسة الجمهورية ورئاسة المجلس التّأسيسي ورئاسة الحكومة. وعلى عكس التجربة المصرية التي تمركزت فيها السّلطات في شخص الرئيس مرسي، ممّا سهّل في رأيي الانقلاب عليه، فإنّ توزيع السّلطات في تونس على أكثر من جهة ومؤسّسة عسّر على من كانوا حقيقة يتربّصون- وما زالوا - بالديمقراطية الوليدة أن يحقّقوا أهدافهم أو بعض أهدافهم. 
وما دفعني للحديث عن التجانــس العرقي والدّيني والمذهبي للشّعب التونسي هو ما لاحظه الكثيرون من فشل الإخوان في مصر في طمأنة المسيحيّين الذين يمثلون نسبة هامة وفاعلـــة ، ولقد كانوا من أهمّ المكوّنات التي سهّلت تحويل وجهة الثورة المصريـــة مائـــة في المائة. 
بالطبع ثمّة عوامل خارجية أو موضوعيّة تجعلنا متفائلين بمستقبل الثورة التونسية. منها أنّنا بعيدون نسبيّا عن الصراع المباشر مع إسرائيل، وهذا من بين العوامل التي سرّعت في سقوط حكم الإخوان في نظري. فلن يقبل «العالم الحرّ» أطروحات سياسية ودينية ملتبسة كالتي تميّز بها وتتميّز بها أغلب الحركات السياسية ذات المرجعية الإسلاميّة. 
يضاف إلى ما ذكرنا أنّ أكبر حزب سياسيّ في تونس – إلى حدّ الآن-  استفاد كثيرا من وجود مجتمع مدنيّ قويّ ومن وجود نخبة علمانيّة وحداثيّة متجذّرة في ماضيها ومتأصّلة في عصرها، ممّا جعل المسافة تتقلّص بين وعي هذه النخبة ووعي «الإسلاميّين» المنفتحين والعقلانيين. وهذا ما يفسر ما اعتبر تنازلات في قضايا عديدة خاصّة في مواد الدستور الجديد.
الإشكال يتمثّل في أنّ الإسلام السّياسي في تونس ضرورة للانتقال الديمقراطي بحكم ما يمثّله من ثقل وانتشار، لكن قد يمثّل أيضا- وهذه مفارقة- أحد أهمّ التّبريرات لعودة الاستبداد، وذلك بتعلّة مقاومة الإرهاب والأصوليّة والعنف والتكفير وغيرها من التّسميات التي تدلّ على أنّ بعض الكتل الإيديولوجية ما زالت خارج التاريخ وما زالت تسقط أوهامها وأحلامها على واقع متغير بل سريع التّغير.
أخيرا، لا بدّ من الإقرار في تونس بالأمرين التّاليين: 
أوّلا وجود أصوليّات لا أصولية واحدة تتصارع على صعيد الخطاب دون أن يكون للعداء الذي يكنّه كلّ طرف للآخر مبرّرات حقيقية واجتماعيّة- لكنّ الجهل والتعصّب يغذّيان مثل هذا العداوات  التي يستغلّها محترفو السّياسة وعصابات «الديمقراطيّة» لإجهاض الثورة.
ثانيا ،ضرورة تأسيس تجمعات سياسية تتجاوز مسالة المرجعيّات النظرية والأطر الإيديولوجيّة المغلقة لمقاومة أهمّ عدوّ للديمقراطية وهي الأصوليّة بكل تلويناتها الجهاديّة والفاشيّة.