ثلاثة أسئلة إلى النخبة (1)

بقلم
محمد القوماني
ثلاثة أسئلة إلى النخبة
 1قراءتكم لما حدث في تونس بين 17 ديسمبر 2010 و 14 جانفي 2011؟
مـــا حدث بتونس بين 17 ديسمبر 2010 و 14 جانفـــي 2011 كان ثورة حقيقية فاجأت الجميع في نسقها وفي الأثـــر الذي خلفتـــه في تونس وفي العالم وخاصة في البلدان العربية. وبعيدا عن الجدال العقيم أحيانا حول مفاهيم الثورة والانتفاضة والاحتجاج والغضب والتمرّد وغيرها من المصطلحات التي يختلف المحللون في أيّهــــا الأنسب في توصيف ما حصل، فإن النتائج المتحققة فـــي الواقـــع على صعيد السلطة وعلى صعيد المجتمع في تونس والآثـــار المترتبة عن الثورة في الخارج، تحسم الجدال في تأكيد البعد الثــــوري فيمــــا حصـــل. وإن كنا نقر بأن ثورة الحرية والكرامـــة التونسية تبقى ثورة مخصوصة على غير مثال سابق، يتحدّد مصيرها ومدى نجاحها في تحقيق أهدافها بمدى قدرة المدافعين عنها في مواجهة القوى المضادة للثورة وإحباط مخططاتهم لإفشال مسارها والانقضـاض على مكتسباتها.
لذلك نشدّد على أن هذه الثـــورة لم تـــأت صدفــــة ولم تصنعها أيادي خارجية كما يحاول البعض تسويق ذلك. فهي توّجت نضالات شرسة تكثفت خلال العقود الأخيرة واتخذت من مقاومة الدكتاتورية عنوانا وأولوية، بصرف النظر عن تعقيــــدات اليوميّات الحاسمـــة في الثورة والمتدخلين فيها والفاعلين في نتائجها.
ولهذا السبب أيضــــا نــــرى فــــي تركيــــز بعـــض الجهـــات التي انتسبت إلى الثـــورة مُخاتلـــة، على أن الثــــورة التونسيـــة تلقائيـــة وسلميـــة، لا قيادة لهـــا ولا دور للأحـــزاب السياسيـــة فيهــــا، وأنّ مطالبها اجتماعية وتنموية وليست سياسيــــة، نرى فيه قصدا واضحا في محاولة  إفراغ الثـــورة من محتواهــــا والمســـاواة بين المتسببين فيها بفسادهم وظلمهم من المنظومة القديمــــة والخاسرين لمواقعهم ومصالحهم بسببها، وبين المشاركين فيها من المُكتوين بنار الاستبداد والفساد، من مختلف الأجيال والاتجاهات الفكرية والسياسية، الذين راكموا أسبابها بنضالاتهم وتضحياتهم، والمستفيديـــن من هذه الثورة المباركة التي توّجت مسارا ولم تحصل فجــــأة كما يتم الترويـج لذلك 
فتحركات الغضب الاجتماعي بولاية سيدي بوزيد خاصة، وبالوسط التونس عموما، وما سبقها من أحداث بالحوض المنجمي وبجهات أخرى دلّت على أن الإنجازات دون المطلوب، وأن ثمار التنمية تحتاج إلى عدل أكبر في التوزيع، وأن الرضا عن النفس مضرّ، وأن صبر المواطنين محـــدود، وأن استحســـان الأجانب لا يصمد أمام مظاهر الغضب الشعبي. وأن مراجعـــات جوهريـــة باتـــت متأكدة لمنوال التنمية في الثقافة التي يستند إليهــــا وفي الأهـــداف التي يضعها وفي قاعدته الاقتصادية بالداخل والخارج وفي الخيارات التي ينتهجها والسياسات التي يعتمدها. وكشفت عن قضايا وطنيــــة في غاية الأهمية، وفي مقدمتها التفاوت الجهـــوي في التنميـــة وحالات التهميش لبعض الجهات والفئات والغطرســـة فــــي الحكــم التي بلغت حدودا لم تعد محتملة.
كما أن هروب المخلوع وبعض أفراد عائلته مساء يوم 14 جانفي 2011، كان عنوانا على انزاح كابوس الاستبداد والفساد عن تونس. إذ تحرّر التونسيون ودخلوا في أجواء ما تواضعوا على تسميته بالثورة، التي دخلوا في حركيتها بعد 14 جانفي بأعداد أكبر بكثير مما حصل قبل ذلك. تغيّرت ملامح الإعلام الخشبي وارتفع منسوب حرية التعبير إلى درجات قياسية. قادت بعض التحركات التلقائية في الإدارة والمؤسسات والمدن والقرى إلى إجبار مسؤولين في العهد البائــــد على التنحّي تحت شعار «ديقاج» واستبدالهم بآخرين، وشملت العملية حتى بعض أئمة المساجد. كثر الجدال واللغط في أغلب الأحـــوال حول الماضي والحاضر والمستقبل وتوّجت المرحلة الانتقالية الأولـــــى التي اعتمدت على «التوافق» بانتخابات المجلس الوطني التأسيســــي يوم 23 أكتوبر 2011 التى أشاد الجميع في الداخل والخـــارج بنزاهتها واعتبارها أول انتخابات حرة وتعددية وشفافة في تاريخ تونس.
بدت المرحلـــة الانتقاليـــة الأولـــى مزيجــــا مـــن الخطابــــات والمطالــــب والقـــرارات الثـــوريـــة ومن القرارات والإجـــراءات والممارسات المضادّة للثورة. إذ تمّ من ناحية إقرار العفـــو التشريعي العام واعتقال بعض رموز النظام السابق وحلّ التجمــــع الدستــــوري وإدخال تغييرات في وزارة الداخلية ومصادرة بعض الأملاك المرتبطة بالرئيس السابق وعائلته وبشبكات الفساد المالـــي وإطلاق حرية التنظم والتوجه إلى انتخاب مجلس وطني تأسيسي وتشكيــــل هيئة عليا مستقلة للانتخابات...وتم من ناحية ثانية وبالتــــوازي، تلاعب بجزء من الأرشيف وتنقــــل مشبوه للأمـــوال واستعــــادة بعــض الوجوه والدوائر المرتبطة بالمنظومــــة القديمــــة لمواقــــع النفــــوذ في الإدارة والإعلام والأمـــن والقضــــاء وتشكيــــل مجموعـــات مـــن التجمـــع المنحل، الذي لم يتم تفكيكه، لأحزاب بعناوين جديــــدة، وغياب أيــــة رؤيــــة أو توجه جديّ للمحاسبة والمصارحة والمصالحـــة ولإصلاح المؤسسات والقطاعات وخاصة الداخليـــة والقضــــاء والإعــــلام... 
2هل ترون أن النخبة التونسية قد نجحت في فهم مستحقات المرحلة وحققت بعضا منها؟ 
وهل نجحت في وضع البلاد على السكّة الصحيحة للإنتقال الديمقراطي؟
لست أبالغ حين أقول اليوم أننا بعد ثلاث سنـــوات مـــــن ثـــورة 17 ديسمبر/ 14 جانفي لم نستخلص الدرس في الممارسة سواء من تولوا الحكم أو من ضلّوا خارجه. ولم نوفّ جميعنا  حقوق الشهداء رحمهم الله تعالى والجرحى والمستضعفين الذين فجروا تلك الثورة العظيمة، وما زال الوضع تقريبا على حاله، خاصة على الصعيد الاجتماعي وفي علاقة بمطلب الكرامة. وهذا ما تُبين عنه بوضوح الاحتجاجات المستمرة بالجهات واتجاهات الدستور الجديد وخطابات الأحزاب واهتماماتها.  
لكن على صعيد الحرية، فيبدو أن الديمقراطية التي دشّنّاها بانتخابات حرة وتعددية وشفافة تشكّل مبدئيا ضمانة أساسية لتكريس سلطة الشعب وجعله المرجع لأيّة شرعية سياسية والحكم في تقييم الأفكار والمقترحات والبدائل. فطالما استمرت تلك الانتخابات قائمة، ظل التداول على الحكم مضمونا وظل المتنافسون على الحكم يستحضرون كلمة الناخبين ويعملون تحت مراقبتهم ويجتهدون في التفاعل مع مطالبهم وتطلعاتهم. وبذلك تكون الديمقراطية بوّابة لولوج بقية القضايا الاجتماعية والاقتصادية وغيرها ومعالجتها. ومن هنا نفهم التخوفات الكبيرة لدى مختلف الأوساط، بل والشكوك التي باتت تساورها حول موعد الانتخابات القادمة وإمكانية حصوله أصلا أو القبول بنتائجها.
لن نكسب شيئا من تبادل التهم وتحميل المسؤولية لجهة واحدة في تعثّر مسار الديمقراطية وتحقيق أهداف الثورة. فالمسؤولية تظل جماعية وإن اختلفت الدرجات والمقادير. للحاكمين الجدد مسؤولية وللمعارضة ولمن هم خارج هذا التصنيف من سياسيين ونشطاء في المجتمع المدني، وللقوى المضادّة للثورة في الداخل والخارج تأثيرها. ولعامة قوى الشعب مسؤولية أيضا.
وأحسب أنه بعد الأزمة السياسية الحادة التي عاشتها البلاد، فإن في الوفاقات الأخيرة في المصادقة على فصول  الدستور الجديد، رغم ما تضمنته من ابتزاز سياسي ومن قصر النظر ومحاولة فرض الوصاية عن الشعب ومن نواقص فادحة، وفي انتخاب هيئة مستقلة للانتخابات وفي تسليم الحكومة لشخصيات مستقلة، في كل هذه المسارات مؤشرات ايجابية على أن البلاد وضعت على سكة الانتخابات لإنجاح المسار الديمقراطي.
أي مستقبل ينتظر تونس؟ وكيف السبيل إلى تجنّب الفشل؟
أحسب أن  الانتصـــار الحقيقـــي للثورة لن يكــــون بالمزايــــدة في الانتساب إليها والوصاية عليها بخطابـــات «ثورجيـــة» تنفّــــر ولا تبشّر، وتهدم ولا تبني، وتفــرّق ولا تجمّـــع، بل بخطاب إصلاحي أصيل وبدائل عملية تكشف قدرة على الاقتراح، وتوازي بين الهدم والبناء وتقطع مع منظومــــة الفســــاد والاستبــــداد، دون أن تفرّط في المكاســـب وتضــم جهـــود المتأخريـــن لمن سبقهم فـــي الخيـــــر والإصلاح.
إن تعزيزا للديمقراطية الناشئة في ربوعنا، وتأمينا لإنجاح المسار الانتقالـــي، يتطلبان إضافة إلى تثبيت مكسب الانتخابــــات، تضافر جهود جميع الأطراف من أجل تكريس مسارات، نكتفي بإثارة ثلاثــــة منها.
المسار الأول :
هو التوافق على أن الإسلام أصيل في بيئتنـــا ومقوم أساسي لثقافتنا وحضارتنا، وأن مجتمعنا لا يحتاج إلى مشــــاريع لأسلمته، بقدر ما يحتــــاج إلى مشاريـــع تجديــــد ثقافــــي. وان التحديـــث المنشود للدولة والمجتمــــع، لا يتم بالقفز على ثقافتنا الوطنية أو محاولة استبدالها بثقافــــة غيرها، بل يتحقق التحديث بقدر نجاحنا في مهمة تجديد ثقافتنا والارتقـــاء بها إلى العالمية. وبذلك نعمل على إنهاء التنازع حول الإسلام وإخراجه من دائـــرة الصراع الحزبي، بعدم تفويت مختلف الأطراف الاستفادة منه في دعم الوحدة الوطنية وأيضا في البناء ورفع التحديات وتحقيق الأهداف. فقد بينت التجربة أن التوفّق إلى حل تاريخي لمسألة  الإسلام في مجتمعاتنا العربية، لا يقل أهمية عن التوفّق في رفع التحديات الاقتصادية والاجتماعية.
المسار الثاني :
هو تجاوز ثنائية العلمنة والأسلمـــة بين النخب، وإفساح المجال لخطاب عروبي إسلامي اجتماعي مستنيـــر، يغتنــــي من قيم الإسلام الخالدة وتعاليمه السمحة ومن تجدّد معــــاني كلمات القرآن العظيم. خطاب يتناول قضايانا في سياقها العربــــي المخصــــوص بعد أن فشل التناول القطري المقيت لها، وبعد أن ثبتت قوة روابط العروبة لغة وثقافة ومصالح ومشاعر كما بينت ثورات الربيع العربي.  وينفتح على ثقافة العصر وينشد العالمية من موقع الإبداع لا الاتّباع. خطاب ينصت لآلام المستضعفين في مجتمعنا، ويستحضر دوافع ثورات الربيع العربي و أهدافها، ويطوّر مشروعا حضاريا يستفيد من إخفاقاتنا في الماضي، ويرفع تحدّيات الحاضر والمستقبل في العزة والكرامة والحرية والتحرّر والتنمية العادلة والشاملة .
المسار الثالث:
هو التوحّد على خيار وطني، يحسن قراءة المعطيات الدولية والإقليمية ويحسن التعامل معها بواقعية، ويحرص على قطع الطريق على أي تدخل أجنبي مهما كان في شؤوننا الداخلية، بقدر ما يحرص على الوصل بين خطّ المقاومة والممانعة الذي أعاد لأمتنا بعض كرامتها وأثبت صلابته وجدواه في مواجهة مخططات التقسيم والهيمنة والتبعية وبين وهج ثورات الربيع العربي و تطلعاتها والتي كانت إحدى ثمار هذا الخط في المقاومة والممانعة. ويبقى هدف تحرير أرضنا المحتلة وفي مقدمتها تحرير فلسطين واستعادة مقدساتنا بوصلة هذا الخط  ومحراره.
أخيــرا لقد جربنـــا التغييـــر بالبدايـــة من الأعلـــى واستهداف رأس السلطة والتعويل على قوة الدولة أكثـــر من الاهتمام بتطوير المجتمع، وكانت النتائج مخيبة للآمال علـــى مدى عقــــــود، فهل نعي الدرس ونعدّل البوصلة ونقدم على مراجعة عميقــــة لمناهج التغيير التي دأبنا عليها وروّجنا لها طويلا، وللفكر السياسي الذي قادنا في السابق؟